
تحت جنح العدوان على غزة منذ السابع من أكتوبر، استيقظت مخططات الصهيونية العالمية القديمة، وانفتحت شهية المستوطنين على تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية.
وإذا كان مخطط تهجير أهل غزة الى مصر، وأهل الضفة الى الأردن قد وضعت تفاصيله قبل عقود وطالما راود أحلامهم، الا انه دائما ما يعود الى الصدارة بين حين وآخر، ويبدو هذه المرة يسيطر على عقول حكومة اليمين المتطرف، الذي يرى ان الوقت مناسبا لتنفيذه في ظل حرب الإبادة على القطاع.
منذ بدء العدوان على غزة، تعالت أصوات الفاشيين في إسرائيل بضرورة تهجير أهالي غزة الى مصر، فقد دعا أعضاء في الكنيست ووزير المالية سموتريتش الى تهجير السكان كحل لمشكلة غزة.
وقال سموتريتش إن “قبول اللاجئين من قبل دول العالم بدعم ومساعدة مالية سخية من المجتمع الدولي، بما في ذلك دولة إسرائيل، هو الحل الوحيد الذي سيضع حداً لمعاناة وألم اليهود والعرب على حد سواء”، مشدداً على أن “إسرائيل لن تكون قادرة بعد الآن على تحمل وجود كيان مستقل في غزة، يقوم بطبيعته على كراهية إسرائيل والرغبة في تدميرها”.
إسرائيل لا يبدو ان لديها هدف من العدوان على قطاع غزة، سوى ابادته وجعله غير صالح للحياة وتهجير سكانه، لكن هذا الأمر أيضا ليس بعيدا عن الضفة الغربية، التي تعد أكثر أهمية بالنسبة لإسرائيل من الناحية السياسية والاستراتيجية والديمغرافية والمزاعم الدينية من أي بقعة جغرافية أخرى.
وفتح العدوان على غزة والضوء الأخضر الدولي عليه شهية المستوطنين للبدء بالترويج لتهجير الفلسطينيين من الضفة، فقد شهدت مناطق عديدة توزيع المستوطنين لمنشورات كتبت باللغة العربية، تدعو السكان الى الهجرة سريعا، والتوجه إلى الأردن، وإذا لم يغادروها سيتم الهجوم وتهجير الفلسطينيين بالقوة”.
وجاء في منشور جرى الصاقه على مركبة قرب نابلس” أردتم نكبة مثيلة بعام 1948 فوالله ستنزل على رؤوسكم الطامة الكبرى قريبا، لديكم آخر فرصة للهروب إلى الأردن بشكل منظم فبعدها سنجهز على كل عدو وسنطردكم بقوة من أرضنا المقدسة التي كتبها الله لنا”.
وبات واضحا منذ العدوان على غزة اعتماد الاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدا سياسة الإعلانات الممولة لتمرير رسائله التحريضية ضد الفلسطينيين، ومنها تنظيم حملات لإرهاب الفلسطينيين للهجرة.
والحقيقة لا يمكن الاستخفاف بما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي من إعلانات تحريضية في هذا السياق، فقد ظهرت في الآونة الأخيرة صفحة على الفيسبوك تحمل اسم “هاجروا الآن” تدعو سكان الضفة للرحيل الى الأردن.
وتعد هذه الصفحة جزء من الهجمة الرقمية المتنوعة التي يشنها الاحتلال ضد الفلسطينيين، وكان لافتا نشر هذه الصفحة لخرائط ، على شكل إعلانات ممولة تدعو فيها سكان كل مدينة في الضفة الى التوجه الى مدينة اردنية، كان يتجه “أهالي طولكرم إلى عجلون وأهل جنين إلى إربد”.
وكانت الصفحة تحمل وصفا تعريفيا بلغة عربية ركيكة جاء فيه “إلى العرب في يهودا والسامرة (الاسم التوراتي للضفة الغربية)، هاجروا من أراضي الجدود إلى الأردن قبل فوات الأوان”، وفي أحد المنشورات، نشرت خريطة لدولة إسرائيل تضم الضفة الغربية وأجزاء من الأردن، قائلة إنها تعود إلى “مملكة إسرائيل المتحدة في زمن شاؤول وداود”.
ومن الملاحظ استخدام هذه الصفحة ميزة الإعلانات الممولة، وكان بعضها يحمل تاريخ 17 نوفمبر الجاري، فمثلا كانت تقترح في بعض الإعلانات على أهالي مدينة رام الله التوجه إلى العاصمة الأردنية عمّان، كما دعت سكان الخليل إلى التوجه إلى الكرك.
وبدا لافتا سماح إدارة شركة “ميتا” بالسماح لمثل هذه الإعلانات والتحريض، ما يدلل على عمق التواطئ الذي تمارسه الشركة مع دولة الاحتلال في الوقت الذي تمارس تعتيما ورقابة على المحتوى الفلسطيني.
تقود ما تعرف بـ”وزارة الشؤون الاستراتيجية والإعلامية ” الإسرائيلية هذه الحملات، وتعتمد سياسة عملها على ضخ المحتوى المراد إيصاله دون إضفاء أي طابع تعريفي عليها او على الجهة التي تقف خلفها، اذ لا يتم وضع شعار او لوغو، او اشهار الجهة صاحبة التمويل، كون ذلك جزء من استراتيجيتها في العمل بالخفاء.
ولا يقتصر العمل على تلك الوزارة، اذ ينشط في هذا المجال أيضا “التحالف العالمي من اجل إسرائيل” والمكون من منظمات يهودية مخصصة لدعم “إسرائيل”
وتبدو اهداف هذه الحملات والصفحات واضحة وهي “الترهيب والتخويف وتحطيم المعنويات، واثارة الخوف لدى السكان”.
وأيقظ صعود اليمين المتطرف في إسرائيل مخططات التهجير، بل ان وزير المالية سموتريتش فاز في انتخابات الكنيست بناء على برنامجه السياسي المعلن قبل الانتخابات، والقائم على تهجير الفلسطينيين، حيث تنص خطة سموتريتش على أن الفلسطينيين في الضفة الغربية، البالغ عددهم 3 ملايين نسمة، ليس أمامهم سوى خيارين، إما العيش بوصفهم سكانا داخل دولة يهودية لا يتمتعون بأي حقوق سياسية ومحرومين من أي نفوذ سياسي، وإما الهجرة إلى إحدى الدول العربية لتحقيق طموحاتهم الوطنية أو لأي وجهة أخرى في العالم، وفي حال رفض الخيارين سيستوجب على الفلسطينيين مواجهة الغزو العسكري.
وتعد فكرة التهجير، عماد فكر الحركة الصهيونية، وقد بدأت تظهر إلى حيز الوجود مع بداية الظهور الفعلي للحركة الصهيونية على يد ثيودور هرتزل، من خلال الكذبة الكبرى التي جرى الترويج لها “أن أرض فلسطين خالية خاوية” وبالتالي تبنت الحركة الصهيونية وروجت لمقولة إسرائيل زانجويل وثيودور هرتزل “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
لم تُهمل فكرة التهجير التي وضعها هرتزل، بل تطورت على يد ديفيد بن غوريون الذي وضع مخطط لتنفيذها، وقد نفذت قوات (الهاغاناه) وبقية العصابات الصهيونية مخططات الترانسفير مباشرة بعد صدور قرار الامم المتحدة رقم 181 الذي دعا إلى تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وإلى اقامة دولتين واحدة عربية وأخرى يهودية. وكانت عمليات الترانسفير التي نفذت عامي 1947 و1948 من أبشع وأصعب عمليات الترانسفير التي عرفتها شعوب العالم، إذ أن الفلسطينيين طردوا من بيوتهم وشردوا بعد أن تعرضوا للمجازر والمذابح والدمار الاقتصادي والسكني، وتحولوا إلى لاجئين سواء في وطنهم وبالقرب من بيوتهم الاصلية أو في مخيمات اللاجئين في الدول العربية المحيطة بفلسطين.
وتطور فكر الترانسفير لدى الأحزاب الصهيونية، بعد حرب 1967، إذ أخذت تظهر أحزاب وحركات سياسية تنادي بالترانسفير، منها حزب (موليدت) الذي أنشأه رحبعام زئيفي في الثمانينيات والذي نادى بصريح العبارة إلى ترحيل العرب من (أرض اسرائيل) فيما لو رفضوا القيام بتنفيذ كافة الواجبات المفروضة على مواطني دولة اسرائيل – والإشارة هنا إلى خدمة الجيش – وأكثر من ذلك فإن زئيفي اتخذ الحرف العبري (ط)رمزاً لحزبه وهو – أي الحرف – إشارة إلى الحرف الأول من كلمة ترانسفير العبرية.
كما دعت حركة (كاخ ) العنصرية التي اسسها الحاخام العنصري مئير كهانا إلى ترحيل العرب، ورغم إخراج حزب كهانا خارج إطار القانون فإن بقايا هذا الحزب ما زالت تدعو إلى ضرورة تطبيق الترانسفير على الفلسطينيين في الداخل المحتل.
وتعمق الفكر الترانسفيري أكثر وأكثر في صفوف وزراء حكومة شارون اليمينية، إذ ان هذه الحكومة تضم في صفوفها وزراء يطالبون بتنفيذ الترانسفير مثل آفي ايتام من حزب المتدينين الوطنيين الذي يصرح ليل نهار أنه توجد للعرب عشرون دولة وأكثر وأنه باستطاعتهم التوجه اليها.
وفي مقاربة لما جرى عام 1948 على يد العصابات الصهيونية كالهاغاناة وشتيرن الذين نفذوا عمليات التهجير القسري، نجد ان وزير الامن القومي ايتمار بن جفير يتجه الى استنساخ التجربة، عبر إعادة الحياة في العصابات الصهيونية من جديد، من خلال تبنيه انساء ما يعرف بـ”الحرس الوطني” وتسهيل تسليح المستوطنين والإشراف عليهم، لشن هجمات على القرى والبلدات الفلسطينية، وما نراه اليوم في عشرات القرى والبلدات في الضفة قد تكون صورة مصغرة لما يخططون له.