الصحافة العبرية … الملف اليومي الصادر عن المكتب الصحافي التابع للجبهة الديمقراطية

 الصحافة الاسرائيل– الملف اليومي

افتتاحيات الصحف + تقارير + مقالات

يديعوت 11/10/2024

إسـرائـيـل بـيـن الـرد الـسـريـع على إيران وعناق الدبّ الأميركي

بقلم: مايكل أورن

تعترف الولايات المتحدة ودول الغرب، في أغلبيتها، بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بعد الهجوم الإيراني، الأسبوع الماضي، والذي شمل إطلاق 181 صاروخاً باليستياً.

ومع ذلك، تسعى هذه الدول  للحد من حجم ممارسة إسرائيل حقها في الدفاع عن نفسها، وتصرّ على عدم مهاجمة منشآت نووية، أو منشآت نفطية في إيران. لكن هذه الدول لا «تطالب» فحسب، بل ترسل كبار العسكريين والدبلوماسيين أيضاً في عملية احتضان لإسرائيل تضمن ألّا تتجرأ على شن الهجوم في أثناء وجودهم هنا.

في الواقع، نعتبر أن التأخير المستمر في رد إسرائيل يشكل تهديداً لأمننا بصورة لا تقل أهمية عن تهديد الصواريخ بحد ذاتها.

كل يوم يمر دون رد، يؤدي إلى ضعف «ذريعة الحرب» لدى إسرائيل، وعندما ستتحرك إسرائيل سيكون من الصعب على العالم أن يتذكر السبب. وستتراجع في الولايات المتحدة صور الصواريخ الإيرانية المتوجهة نحو تل أبيب، في ضوء الحديث عن المدن التي دمرتها الأعاصير، والمستجدات بشأن السباق الرئاسي.

جزء من الجمهور، وجزء كبير من الصحف، سينتقدان إسرائيل لأنها تصعّد الصراع في الشرق الأوسط دون سبب، وترفع أسعار الوقود، وتحاول جرّ الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية شاملة.

باستثناء تفادي الاحتكاك بالبيت الأبيض، ماذا تربح إسرائيل من تأخير الرد؟ وهل هناك مصلحة قومية ملحّة، مثل مستقبل ووجود الدولة اليهودية الوحيدة في العالم؟ وبحسب قول أحد الدبلوماسيين: «هل نستطيع استغلال خوف الإدارة الأميركية من ردنا على إيران من أجل الحصول على تنازلات جوهرية من واشنطن؟»

إذا تنازلت إسرائيل عن حقها في الرد على إيران، هل من الممكن أن نجعل الرئيس بايدن يوافق على خطة الجنرالات وإعلان شمال غزة منطقة عسكرية مغلقة، وبعد ذلك مقايضة الأرض في مقابل تحرير الرهائن الذين تحتجزهم «حماس». أو هل سيمكننا الحصول على تعهدات من الرئاسة الأميركية بالتدخل عسكرياً ضد المنشآت النووية في إيران في اللحظة التي يجري فيها تخصيب اليورانيوم فوق 60 درجة.

هناك فكرة أُخرى، هي الحصول من الولايات المتحدة على تعهدات بيعنا قاذفات استراتيجية بعيدة المدى، قادرة على إلقاء قنابل تخترق التحصينات، وتزن 15 ألف كغم، وتحلّق على ارتفاع كبير، بحيث لا تستطيع منظومة الدفاع الإيرانية الوصول إليها.

مثل هذه الصفقة ستقول للإيرانيين: «لن نقصف منشآتكم النووية هذه المرة، لكن لدينا الوسائل للقيام بذلك بنجاعة في المستقبل».

أيّ ثمن تكون الإدارة الأميركية مستعدة لدفعه في مقابل ضبط النفس الإسرائيلي يجب أن يظهر مفيداً بالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي. لأن الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين تنتظر رداً شديداً على هجوم الأسبوع الماضي، ولا يترك مجالاً للشك في أنه يجب عدم التعرض لنا.

ويرفض الجمهور الإسرائيلي بشدة طلب الولايات المتحدة، باستثناء أمر واحد، أن ترد إسرائيل بصورة متناسبة على إيران.

لدينا «حجة الحرب»، ويمكننا أن نطلق على إيران 26 ألف صاروخ أطلقتها هي وأذرعها علينا.

——————————————–

عن “N12” 11/10/2024

نتنياهو يبدّد الإنجازات العسكرية الإسرائيلية في غزة

بقلم: عوفر شيلح

من الطبيعي أن يتركز الانتباه العام اليوم على المعركة في الشمال والرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني. لكن في ظل هذا كله، تجري في غزة خطوة ستكون لها تداعيات لا تقل دراماتيكية عن غيرها. ومن دون قرار، ومن دون نيات معلنة من جانب المنفّذين، تخطو إسرائيل خطوة كبيرة على طريق السيطرة المدنية على قطاع غزة، مع كل ما يستتبع ذلك.

مؤخراً، غادرت الفرقة 162 محور فيلادلفيا، وعادت إلى شمال القطاع، من أجل “إعادة السيطرة على المنطقة”، بحسب تقارير إعلامية. ركّز جزء من الردود على الخطوة على أنه قبل وقت قليل كان محور الحدود بين قطاع غزة وسيناء حجر الأساس لوجودنا، ولن ننسحب منه على الإطلاق. لكن السؤال المهم ليس من أين انسحبت فرقة النخبة، بل إلى أين تتوجه، وما هو الهدف؟

يجب العودة إلى شمال القطاع من أجل سبب بسيط هو عدم وجود أيّ طرف، وبالتأكيد طرف إسرائيلي، يريد اليوم إيجاد بديل لقوة “حماس” وسط السكان في غزة، هذه القوة التي لم تتأثر جرّاء تفكيك أُطرها القيادية واغتيال كبار قادتها. الجنرال ديفيد بترايوس، الذي كان قائداً للقوات الأميركية في العراق، وصف ذلك بعبارات بسيطة قالها في إسرائيل: “عندما تواجه مثل هذا العدو، عليك أن تبني خلال تدميرك”.

لكن إسرائيل لا تريد البناء، لأن هذا يتطلب العمل مع ائتلاف من الأطراف الإقليمية التي تصرّ على وجود للسلطة الفلسطينية، ولو بصورة رمزية.

وعلى الرغم من أن التدمير من دون بناء معناه العودة، المرة تلو المرة، إلى الأماكن التي سبق أن قمنا باحتلالها و”تطهيرها” ونزع السلاح منها، وأنه وسط الفراغ الناتج من الدمار ستبرز “حماس” مجدداً وما هو أسوأ منها.

يوجد في إسرائيل مَن يريد البناء. يريد بتسليل سموتريتش أن نبني في غزة مستوطنات إسرائيلية، وتفكيك السلطة الفلسطينية، وإقامة دولة يهودية مكانها، ضمن إطار “خطة الحسم” التي نشرها قبل عدة سنوات.

على الأقل، يمكن القول إن سموتريتش لديه عقيدة منهجية، وهو لا يخفيها. يدرك رئيس الحكومة نتنياهو الضرر الهائل الناتج من تحقيق خطة سموتريتش، لكنه يمضي نحوها لأسباب تتعلق ببقائه الشخصي والسياسي.

إن مسؤولية المستوى المهني، وزير الدفاع وقادة الجيش، عمّا سيحدث لا تقل خطورة: كثيرون بينهم (قال غالانت هذا بصوت واضح، بينما كان صوت قادة الجيش أقل وضوحاً) مدركون أن السيطرة الإسرائيلية على غزة رسمياً ستُلحق ضرراً جسيماً بالجيش، وتحوّل إسرائيل إلى دولة منبوذة.

هذا هو رأيي، وفي المقابل، هذا سيقرّب تحقيق أفكار سموتريتش.

ترافقت إعادة الفرقة 162 إلى جباليا مع دعوة سكان شمال القطاع إلى إخلاء منازلهم والتوجه جنوباً، عبر محور نتساريم. وفي الواقع، هذا تحقيق لجزء كبير من الفكرة المشوهة التي يُطلق عليها اسم “خطة الجنرالات” التي يُعَد اللواء في الاحتياط غيورا أيلاند من أبرز الممثلين لها في الإعلام، وهو الشخص الذي أعرفه من سنوات وأحترمه.

على ما يبدو، لا توجد نية بشأن تنفيذ الجزء الأكثر إثارة للقلق، وهو تجويع الناس الذي ظلوا هناك، بافتراض أنهم بصورة أساسية من “مخربي حماس”.

لكن عملياً، سيؤدي نقل سكان شمال القطاع إلى الجنوب، وللمرة الثانية خلال عام، إلى أحد أمرين: إمّا أن الجيش الإسرائيلي هو الذي سيوزع الغذاء والدواء على السكان، أو سيتضورون جوعاً. والطريق من هناك إلى الحكم العسكري كأمر واقع قصيرة، وخصوصاً أن هناك نقاشات في هذا الشأن يُجريها نتنياهو.

على صعيد العملية العسكرية يعني هذا أن يتحرك الجنود عملياً في العمق ووسط سكان غزة الذين يعانون جرّاء اليأس والفقر، وأن يقوموا بتوزيع الغذاء والمياه والدواء.

ومعنى ذلك تمركُز للجيش الإسرائيلي هناك، وفي تقدير غالانت، أن القوة المطلوبة من أجل إقامة حُكم عسكري في غزة هي 4 فرق.

ومعنى هذا أيضاً إنشاء آليات للحكم لا يمكن لأحد أن يحلّ محلها، ولن تقبل أيّ دولة عربية المشاركة فيها، أمّا قيام “زعامات محلية” تحل محل “حماس”، فهو بمثابة تعامٍ عن الواقع.

وهذا يعني أننا في الطريق نحو احتلال غزة عملياً، ما سيشكل حلماً بالنسبة إلى سموتريتش، وكابوساً بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي، والاقتصاد الإسرائيلي، ومكانة إسرائيل الدولية، المتدهور بطبيعة الحال.

وهذا لن يكون بمثابة “سيطرة على الأرض”، لأن الجنود الذين سينتشرون سيكونون عرضة للعمليات “الإرهابية” وحرب العصابات، ولا يحتاج الأمر إلى قيادات كتائب، بل يكفي وجود شخصين، أو ثلاثة أشخاص مزودين بسلاح فردي، أو صاروخ مضاد للدروع.

الإنجازات العسكرية في خطر

يجب أن يكون واضحاً أن هذه الخطوة فرضها نتنياهو على الجيش الإسرائيلي.

كلّ مَن يعرف طريقة اتخاذ القرارات في إسرائيل يعلم أن الأمور لا تسير بهذه الطريقة، لكن يوجد في القيادة العسكرية مَن يؤيد هذه الخطوة لأسباب أيديولوجية، وانطلاقاً من تفكير ضيق الأفق، ومن الإحباط.

قبل ستة أشهر، ادّعت مصادر عسكرية رفيعة المستوى، طلبت عدم الكشف عن هويتها لأسباب مفهومة، أن عدم وجود تحرُّك سياسي يؤدي إلى ضياع الإنجازات العسكرية.

ومنذ ذلك الحين لم تظهر أيّ خطوة سياسية، ولا تبدو حتى الآن في الأفق.

يواجه الجيش النتائج في الميدان ويطبّق رؤية تكتيكية تتجاهل، علناً، التداعيات القاسية للعملية على إسرائيل وعليه. والمسؤولية الناتجة من ذلك لا يتحملها نتنياهو وحده، بل أيضاً الذين ينفّذونها، والذين يعرفون بالتحديد ما سينتج من أفعالهم.

——————————————–

هآرتس 11/10/2024 

حرب إقليمية تنضج، وليس للولايات المتحدة خطة استراتيجية

بقلم: تسفي برئيل

عندما عُين عباس عراقجي في الشهر الماضي وزيرا للخارجية وجواد ظريف تلقى منصب نائب الرئيس كان يبدو أن الحكم الجديد في ايران برئاسة مسعود بزشكيان يعتزم شق طريقه نحو المصالحة مع الغرب. فقد كان عراقجي وظريف من مهندسي الاتفاق النووي الذي وقع في 2015 تحت حكم الرئيس حسن روحاني. كلاهما يعرفان جيدا الغرب ونظرائهم الأمريكيين الذين اداروا المفاوضات. عراقجي نفسه بدأ جولة محادثات مع نظرائه في دول أوروبا كي يفحص السبل للدفع قدما باتفاق جديد، وبزشكيان نثر تصريحات تفيد بأن ايران لا ترى مانعا من إدارة مفاوضات مع الغرب حين تكون مسنودة بتأييد الزعيم الأعلى علي خامنئي. وحتى امين عام اللجنة الدولية للطاقة النووية، رفائيل غروسي، قال إنه يلاحظ النوايا الجدية لدى ايران.

غير أن في الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع عني عراقجي بعدة أمور عاجلة اكثر، ومسألة النووي تتأجل حاليا كما يبدو. يوم الجمعة الماضي سافر الى بيروت، وبعد يوم من ذلك وصل الى دمشق كي يلتقي بالرئيس الأسد وأول أمس هبط في الرياض والتقى بولي العهد السعودي محمد بن سلمان كي يبحث معه في “التطورات في المنطقة” على حد تعبير البيان الرسمي.

سيناريوهات هجوم الرد الإسرائيلي تملأ وسائل الاعلام في ايران، مثلما في الدول العربية والغربية بعامة. وهي تتراوح بين هجوم على حقوق النفط ومنشآت التنقيب والتصفية، عبر قصف بنى تحتية مدنية، وحتى ضرب مواقع النووي. مثلها أيضا التحذيرات والتهديدات من كبار مسؤولين إيرانيين ليس فقط تجاه إسرائيل بل وأيضا تجاه كل دولة تتيح لإسرائيل و/ أو الولايات المتحدة استخدام أراضيها ومجالها الجوي لمهاجمة ايران. تقرير “رويترز” يستند الى مصادر إيرانية رفيعة المستوى يروي أن ايران حذرت جيرانها في الخليج من أن تعاون دولة واحدة مع الهجوم الإسرائيلي سيعتبر كتعاون من كل مجموعة الدول والرد سيكون متناسبا مع ذلك.

في كل واحدة من دول الخليج – من السعودية واتحاد الامارات وحتى قطر والبحرين – ترابط قوات أمريكية، لكن ليس فقط قواعدهم ستكون أهدافا لهجوم إيراني أو من جانب مليشيات مؤيدة لإيران تعمل في العراق وفي سوريا. في السيناريو الأكثر تهديدا، فان موانيء النفط والغاز ومنشآت التصفية في دول الخليج قد تعلق في خط النار، ومثلها كل حركة الملاحة المدنية في الخليج الفارسي.

نحو 30 في المئة من عموم النفط الخام في العالم ونحو 20 في المئة من منتجات النفط تمر عبر الخليج. لقد سبق للسعودية أن شهدت في 2019 آثار هجمة حوثية دقيقة على منشآتها النفطية التي عطلت نصف انتاج النفط لشركة “أرامكو” الكبرى. ايران التي تنتج نحو 2.5 مليون برميل نفط في اليوم وإن كانت ستتعرض لضربة جسيمة، لكن بحد ذاتها ضربة لصناعة النفط لديها ستؤثر أساسا على السوق المحلية وعلى تصدير النفط الى الصين. فالصينيون يشترون بالمتوسط نحو 1.4 مليون برميل نفط في اليوم من ايران، اقل 10 في المئة من عموم استيراد النفط اليومي لديهم. كمية كهذه يمكن للصين أن تحصل عليها من مصادر أخرى، وإن كان بسعر اعلى، وذلك لأن ايران تبيعها النفط بتنزيلات واضحة. لكن “حرب النفط” التي ستتطور في الخليج هي قصة أخرى تماما، آثارها يصعب تصورها. عندما يكون الرئيس بايدن “لا يوصي” إسرائيل بمهاجمة منشآت النفط الإيرانية فان هذا هو الخوف الأكبر الذي يقف امام ناظره.

“التهديد باندلاع حرب نفط يوضح كم هو ليس فقط دول المنطقة بل الولايات المتحدة أيضا لا توجد لها استراتيجية واحدة للتصدي لنتائجها؛ بخاصة حين لا يكون واضحا اذا كان بايدن نجح في اقناع بنيامين نتنياهو بالامتناع عن هجوم على موانيء نفط ومنشآت تصفية في ايران رغم الأهمية الهائلة التي يوليها بايدن لمنع حرب كهذه قبل ربع ساعة من الانتخابات في الولايات المتحدة. وهذا ليس المجال الوحيد الذي تشهد فيه سنة الحرب على أن واشنطن ليس لها استراتيجية إقليمية، لقوة عظمى، أو أن استراتيجيتها تبقى على الورق مثابة أمنية.

هكذا مثلا تبخرت المبادرة الامريكية لاعادة السلطة الفلسطينية لادارة المنظومة المدنية في غزة. لقد بات من الصعب أن نتذكر، لكن في شهر تشرين الثاني رسم بايدن منحى سياسي لـ “اليوم التالي” وبموجبه تجتاز السلطة الفلسطينية سلسلة إصلاحات تصبح بعدها الجهة المناسبة للحلول محل حماس لادارة القطاع. هذه الخطوة خطط لها لتكون مرحلة جوهرية قبيل تطبيق حل الدولتين، الدفع قدما بالتطبيع بين إسرائيل والسعودية، وبالتوازي إقامة حلف دفاع إقليمي ضد ايران.

هذه الخطوات كان يمكنها أن تعيد رسم خارطة الشرق الأوسط، لكن أمرا منها لم يحصل. السعودية، التي كانت عشية الحرب مستعدة للتوقيع على اتفاق مع إسرائيل والاكتفاء بمنحى تكون فيه “حياة الفلسطينيين اكثر راحة”، على حد تعبير ابن سلمان، تراجعت. والآن هي تعرض إقامة دولة فلسطينية كشرط مسبق لكل اتفاق مع إسرائيل. الإدارة الامريكية اضطرت لأن تتراجع وتسحب فكرة عودة السلطة الفلسطينية الى غزة. فضلا عن ذلك، فهمت أنه رغم المساعدة الهائلة بالمال، بالسلاح وبالذخيرة وبالاسناد السياسي، لا يمكنها أن تتوقع أن تخفف حليفتها من حدة مواقفها في مواضيع هامة جدا للولايات المتحدة، وبرأيها تخدم المصلحة الإسرائيلية أيضا.

ليس فقط في مواضيع ذات أهمية استراتيجية عليا اصطدمت واشنطن بسور منيع. فالجهود الامريكية لتفعيل منظومة ناجعة وناجحة لتوريد المساعدات الإنسانية في غزة لا تزال لا ترتقي (مهزلة إقامة الميناء العائم المؤقت لا تزال تدوي)، وحجم المساعدة التي تدخل اليوم يشبه الذي كان في شهر كانون الثاني. والجهود لاعادة فتح معبر رفح وإيجاد حل متفق عليه للسيطرة على محور فيلادلفيا فشلت. وفي هذه اللحظة يبدو أن إسرائيل تستعد لأن تتسلم إدارة توزيع المساعدات وعمليا السيطرة على المنظومة المدنية في القطاع، الخطوة التي معناها احتلال إسرائيلي مباشر وطويل السنين دون خطة خروج.

القدرات لا تُقتطع

تلقى بايدن صفعة رنانة من نتنياهو مرة تلو الأخرى في كل ما يتعلق بصفقة المخطوفين أيضا. حركة التفاف على الموافقات التي سبق أن تحققت وتصريحات نتنياهو المتضاربة أوضحت لبايدن بأن ليس فقط حماس هي التي تعرقل المفاوضات بل في إسرائيل أيضا لا يوجد شريك يتطلع حقا لاعادة المخطوفين. شتائم بايدن على نتنياهو والتي تقتبس في كتاب بوب ودورد الجديد وان كانت تشهد وليس للمرة الأولى، على العلاقات المسمومة بين الزعيمين، لكنها تعرض في نفس الوقت بايدن كمن لا ينجح في تحقيق سياسته.

القوة العظمى الأكبر والاقوى في العالم تتصرف كقوة تكتيكية حتى في ردود افعالها على هجمات الحوثيين التي تواصل الحاق ضرر هائل بالاقتصاد العالمي. سياسة “اقتطاع القدرات”، الاصطلاح الذي تبناه الجيش الإسرائيلي كي يشرح منطق عملياته ضد حزب الله وحماس، ماخوذ من القاموس العسكري الذي حدد اهداف الهجمات ضد الحوثيين. فبعد الهجمة الامريكية الهامة في كانون الثاني شرح وزير الدفاع لويد اوستن بأن “هذا العمل يستهدف تشويش واقتطاع قدرات الحوثيين على تعريض مستخدمي البحر الأحمر والتجارة العالمية في احد المسارات البحرية الأهم للخطر”. الحوثيون لم ينفعلوا لحديثه حقا، ومثلهم أيضا مصر، السعودية والأردن. فهم تعرضوا لاساس الضرر لكنهم قرروا ألا ينضموا الى التحالف الدولي الذي يعمل في البحر الأحمر. يبدو أنه في جدول المخاطر والاحتمالات لديهم فان التهديد الحوثي والإيراني يغطي على تقديرهم بشأن قدرة الولايات المتحدة الوقوف الى جانبهم.

بعد سنوات غابت فيها الإدارة الامريكية عن لبنان (مثلما غابت أيضا عن سوريا)، التي اعتبرته معقلا هامشيا عديم الاهمة الاستراتيجية، باتت مطالبة بأن تتواجد في الساحة اللبنانية. وقد فعلت هذا دون خطة استراتيجية ودون روافع ضغط كافية يمكنها أن تمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله، وهكذا تجد نفسها تنجر وراء التطورات في لبنان. الحرب في لبنان تعد اليوم “حرب لا خيار” بعد أن اضطر عشرات آلاف المواطنين الإسرائيليين الى النزوح عن بيوتهم، لكن رغم تصفية قيادة حزب الله في عمليات استعراضية مبهرة، دائرة الضرر في إسرائيل آخذة في الاتساع.

مع أن الإدارة الامريكية غيرت نهجها، وعلى الأقل تصريحيا تقف الى جانب إسرائيل في الساحة الشمالية، لكن ما هي “خطة عملها” وكيف الوصول الى “نهاية اللعبة” كما يقول التعبير الأمريكي؟ هل تطبيق قرار 1701 يكفي؟ هل يمكن للولايات المتحدة أن تجند وتدفع بقوة متعددة الجنسيات لتراقب بين الخط الأزرق والليطاني؟ هل ستوافق على عرض خطة اقتصادية مغرية لاعمار لبنان؟ هل سيوجد لها شركاء عرب أو غربيون؟ أم أن في لبنان سيطبق النموذج الغزي، أي الإسرائيلي.

خطط احتياطية وان كانت موجودة لكنها صيغت قبل ان تصبح المواجهة في الشمال جبهة قتال في داخل أراضي لبنان وقبل أن يصبح اكثر من مليون وربع مواطن لبناني نازحين، بعضهم في بلادهم وبعضهم في سوريا وما وراءها. الآن باتت هذه هي الساحة الأخطر التي تشكل مدخلا لنشوب الحرب الإقليمية التي تقلق منها الولايات المتحدة دون أن تكون لديها استراتيجية كبح أو خطة مرتبة لادارتها، فما بالك خطة لليوم التالي لها. في هذا المفترق الحرج الذي يمكن وينبغي للولايات المتحدة أن تمارس فيه كامل ثقلها تشبه المراقب الذي يوصي ويشير ولكنه ينتظر ليرى كيف تتدحرج الأمور.

——————————————–

يديعوت احرونوت 11/10/2024

ثلاثة أسئلة، أحدها ايران

بقلم: ناحوم برنياع

حرب يوم الغفران لنتنياهو وغالنت انتهت بانتصار تكتيكي لنتنياهو: غالنت لم يسافر الى واشنطن، كما لم يسافر مدير عام وزارة الدفاع ايال زمير، رئيس هيئة سلاح الجو عومر تشلر ورئيس القسم السياسي الأمني درور شالوم الذين كانوا يفترض أن ينضموا اليه. 

نتنياهو حيدهم بسلاح الجدول الزمني: لن سافروا، ما كان يمكنهم ان يعودوا الا ما بعد يوم الغفران، وربما، من يدري، كان نتنياهو سيقف وحيدا، هو ورئيس الأركان لصورة تاريخية امام الشاشة حين يبلغ طيارون بان المهمة اكتملت حتى النهاية. في الحروب على الحظوة نتنياهو هو الأفضل. 

هجوم على ايران سيكون قريبا. معظم التفاصيل اتفق عليها، باستثناء الحظوة، الشقاق بين الاثنين يتعلق بموضوع آخر، لا يقل حساسية: من في حكومة إسرائيل يحمل الحقيبة الامريكية. إدارة بايدن تفضل يوآف غالنت. فتغذية وزراء دفاع هي جزء دائم في مداولات الإدارات الامريكية مع حكومات إسرائيل. لإسرائيل توجد طلبات كثيرة من أمريكا، ومعظمها في المجال الذي هو من مسؤولية وزير الدفاع، الذخيرة، السلاح، الدفاع الجوي، التنسيق والمساعدة الاستراتيجية. في كل هذه هو وجهاز الامن كله متعلقون بالنية الطيبة لامريكا. ناهيك عن أنه توجد لهم مشكلة أساسية مع رئيس الوزراء الحالي: فهم لا يصدقونه ولا يثقون به. من جهة يشتبهون به كالمجرم الأسوأ، من ناحيتهم: مساعدة ترامب في حملة الانتخابات. 

يصر نتنياهو على الاحتفاظ بالحقيبة الامريكية في يديه. في نظري، هذا الإصرار محق تماما: هو رئيس الوزراء، وهذه حقيبة يفترض أن تكون له. المشكلة تكمن في الطريقة التي يدير فيها هذه الحقيبة. هو ورسوله الى الإدارة رون ديرمر يحرقان النادي. 

لا يوجد موضوع ليس لديه في هذه اللحظة ازمة في العلاقات بين نتنياهو والإدارة. لبنان، غزة، المخطوفين، ايران، كلها معا. الإدارة تشتبه بنتنياهو بانه يخلق عن قصد أجواء ازمة كي يساعد ترامب. المكالمة الهاتفية بينه وبين بايدن كان يمكنه أن يرتبها من خلال حديث مسبق لديرمر مع مستشار الامن القومي جيك ساليبان. اما نتنياهو ففضل أن يخلق أزمة ويغصب بايدن على رفع الهاتف. 

من فوق الصورة غير اللطيفة هذه تحوم بكل ثقلها مسألة ايران. ما الذي يسعى نتنياهو لان يحققه في ايران. هل إسرائيل قادرة على أن تدمير منشآت النووي الإيرانية وحدها؟ هل هي قادرة على أن تقف وحيدة في حرب صواريخ مع ايران؟ على فرض أن الجواب على هذين السؤالين سلبي، يبقى السؤال الثالث: هل هو يحاول جر الإدارة الامريكية لحرب لا تريدها مع ايران؟ 

الاشتباه هو أن نتنياهو سيختار عن وعي عملية عسكرية تورط إسرائيل وعندها لن يكون امام الإدارة غير الدخول الى حرب مع ايران، في توقيت فتاك. هو سيتصرف مثل الحريديم الذين تجاهلوا كل التحذيرات وسافروا الى أومان، وعندها قالوا: تورطنا، الان واجبكم ان تفعلوا كل شيء كي تنقذونا. 

في واشنطن يسمعون خطابات نتنياهو بالانجليزية ويلتقتون النبرة المسيحانية، الاستفزازية. “لا توجد الا قوة واحدة في العالم تقاتل ايران”، قال أول امس لمؤتمر الرؤساء. “هذه القوة هي إسرائيل. اذا لم نقاتل، سنموت. لكن هذه ليست حربنا فقط – هذه حرب العالم الحر، العالم المتحضر”. 

العالم المتحضر؟ من اين هذا التبجح؟ كنت سأسر جدا لو كنا ننجح في اقناع الشعب الإيراني ان يبدل النظام او على سبيل البديل لو كنا نجد سبيلا لتصفية العدوان الإيراني. فحروب العالم المتحضر من الأفضل ابقاؤها للاخرين، لكهنة التفوق الأبيض في أمريكا، لرؤساء الأحزاب الفاشية في أوروبا. هم الذين سيرتبون لنا عالما متحضرا بلا سود، بلا ملونين وبلا يهود. هم جيدون في هذا. 

ان الحرب من أجل الحضارة من الأفضل بدأها من البيت، من استعراضات تالي غوتليف، دودي إمسلم، شلومو كرعي، من تعابير الكراهية التي لبن غفير وسون هار ميلخ والابن من ميامي، من اقصاء النساء من الفشل المتواصل لجهاز التعليم. فجأة قام رئيس وزراء غير متحضر ظاهرا في الصباح فقرر بانه هو العالم المتحضر.

——————————————–

تقرير: حكومة نتنياهو تدعم الإرهاب اليهودي وتنهب الضفة الغربية.. على شكل “مزارع رعوية”

بقلم: هاجر شيزاف وهيلو غلزار

“دوروت عيليت” مزرعة تشكل الإشارة الأولى لمشروع استيطاني كبير حين تلقت الجمعية التي تقود المزرعة في العام 2023 نحو 400 ألف شيكل من وزارة النقب والجليل. بن يشاي ايشد، صاحب المزرعة، تلقى أجراً رمزياً من الجمعية. إضافة إلى ذلك، أقرت وزارة الزراعة منحة بمبلغ نحو 100 ألف شيكل على مدى سنتين لهذه المزرعة. ليس هذا فحسب؛ حتى نهاية 2023 اندرجت المزرعة أيضاً في الخطة من أجل “الشبيبة في خطر” بتمويل الصندوق القومي “كيرن كييمت”.

في تموز الماضي، وصل مستوطنون من المزرعة ومن المنطقة إلى القرية المجاورة. وحسب شهادات السكان الفلسطينيين، هاجمهم المستوطنون بقضبان حديد وعصي وحجارة، وأحرقوا خيامهم التي كان في إحداها طفل ابن ثلاث سنوات. خمسة من سكان القرية نقلوا إلى المستشفيات. ايشد نفسه وثق في المكان. ثمة شكوى رفعها أحد السكان، لكن الشرطة أغلقتها لصعوبة العثور على مشبوهين. يصف سكان القرية هذه الهجمة كحدث ذروة في جملة أفعال التنمر من جانب أناس المزرعة. يصفون حياتهم هناك بتعابير ما قبل وما بعد إقامة البؤرة الاستيطانية.

وهكذا، باتت مزرعة “دوروت عيليت” من الأماكن المتطرفة والأكثر شغباً في الضفة، وبؤرة احتكاك وعنف. وبسبب وجودها، تحظى بغلاف مبطن من التمويل بأموال الجمهور، وهي ليست الوحيدة.

يتحدث المستوطنون عن هذا بتعابير الثورة، وتنطوي في روحها تلك “المعجزة” التي تتحدث عنها وزيرة الاستيطان أوريت ستروك. وبالفعل، في ظل الحرب، صعدت الحكومة قبضتها في مناطق الضفة الغربية. الوجبة الأساس في أكل الأرض هي مزارع الرعاة إياها، التي تنجح في السيطرة على أراض واسعة من خلال قوة بشرية بالحد الأدنى.

الطلائع في هذا المجال باتوا قدامى جداً. أقيمت البؤر الأولى في الثمانينيات والتسعينيات، بينها مزرعة “هار سيناي” جنوبي جبل الخليل، ومزرعة “ابريران” في تلال “ايتمار”، ومزرعة “سكالي” شرقي “ألون موريه”. حتى بداية 2017 كانت تنتشر 23 مزرعة في أرجاء الضفة، غير أن عددها ارتفع دراماتيكياً منذئذ: نحو 65 مزرعة أقيمت في غضون سبع سنوات فقط.

في نهاية 2021 كانت تنتشر في أرجاء الضفة نحو 60 مزرعة. في تلك السنة، أفادت عميره هاس في “هآرتس” عن أربع مزارع أقيمت في غضون خمس سنوات، وسيطرت على مساحة بحجم مدينة “حولون”، أما اليوم فعددها يصل إلى نحو 90، تسيطر على مساحة هائلة من نحو 650 ألف دونم – هي نحو 12 في المئة من مساحة الضفة الغربية كلها. المساحة المتراكمة التي تسيطر عليها اليوم، باتت تساوي مساحة مدن: “ديمونة”، والقدس، وبئر السبع، و”عراد”، و”إيلات”، كلها معاً.

هذا المشروع المزدهر قام بخطوة مبادر ومخطط لها. ولا حاجة إلا لسماع أقوال زئيف حفير (زمبيش)، الرجل الذي بابه مفتوح لدى نتنياهو. حفير، العقل المدبر لمشروع السيطرة على أراضي “المناطق” [الضفة الغربية] والرجل الذي يقف على رأس جماعة “أمانة”، الذراع التنفيذي الأساس لإقامة البؤر الاستيطانية، ألقى الضوء على المشروع في حزيران الماضي. في مقابلة أعطاها لمجلة “ندلان يوش” (عقارات المناطق)، وصف حفير “الحفاظ على الأرض المفتوحة” كالمهمة المركزية لـ “أمانة”، وقال إن “الوسيلة الأساس التي نستخدمها هي المزارع”. وأشار إلى أن “المساحة التي تحتلها هذه المزارع 2.5 ضعف كل مساحة الأراضي التي تحتلها مئات المستوطنات مجتمعة”.

“أمانة” وإن كانت جسماً قوياً، مع أملاك تقدر بنحو 600 مليون شيكل، فإنها وحدها ما كان يمكنها أن تبث حياة في مشروع طموح كهذا. في السنوات الأخيرة، حولت الدولة بؤر الرعاة إلى مشروع علم، وأغدقت عليه مقدرات استثنائية. عشرات ملايين الشواقل من أموال الجمهور تضخ إلى هذه المزارع مباشرة من الوزارات الحكومية والسلطات المحلية في المناطق ودائرة الاستيطان. بالتوازي، أعلن وزير المالية سموتريتش بأنه يعمل على شرعنة المزارع من ناحية قانونية أيضاً.

بخلاف الماضي، يميل أصحاب المزارع الجديدة إلى التعاون مع الدولة. وهكذا تختلف هذه المزارع عن الأيديولوجيا “الكلاسيكية” التي انتهجها “فتيان التلال”، التي رفضت التعاون مع المؤسسة الحاكمة رفضاً باتاً. وهكذا، تعمل الدولة مع أناس المزارع كتفاً بكتف: إعطاء القروض لإقامتها، وتخصيص عقود لمناطق الرعي، وربطها بالبنى التحتية، وتمويل حمايتها، وشراء عتاد، ومنح مثل “منح الرعي” وحتى “منح الاستثمارات التجارية”. ويكشف تحقيق “هآرتس” بأن 6 وزارات حكومية على الأقل تشارك في تمويل وصيانة هذا المشروع المتصاعد الذي غايته الحقيقية هي السيطرة بالقوة على الأراضي والسلب الممنهج.

سلة الدعم السخية هذه ليست سوى عنصر واحد؛ فالصندوق القومي “الكيرن كييمت” أصبح داعماً مهماً للمشروع عبر مشاريع من أجل “شبيبة في خطر”. كقاعدة، حول هذه العبارة “شبيبة في خطر” نمت في السنوات الأخيرة صناعة كاملة لتبييض المزارع، وأساساً في جانب صورتها الخارجية. فوجود الفتيان في مزرعة برعاية إطار “تعليمي” أو “تأهيلي” يمنحهم شرعية باهظة القيمة، وهذه تحول إلى ميزانيات سمينة، وبعضها يندرج في سلة برامج الإثراء التي تقترحها وزارة التعليم على المدارس.

وتتراكم في هذه الأثناء أدلة على أن الحديث يدور عن منبت للعنف القومي. والأمثلة كثيرة كما توضحها الأيام الأخيرة: مزرعة “زوهر طباح” في الغور، التي خرج منها مستوطنون – بعضهم قاصرون – هاجموا مؤخراً مدير مدرسة فلسطينية في نطاق المدرسة؛ ومزرعة “همكوك” في منطقة رام الله التي نجح أناسها في طرد القرية الفلسطينية المجاورة وادي السيك؛ وهذا يانون ليفي من مزرعة “نتريم” جنوبي جبل الخليل الذي قاد هجمات وتنكيلات هجرت قرية أخرى. قوة هذه المزارع هم الفتيان أنفسهم.

منذ بداية الحرب، تتعاظم نزعة الثأر والجرأة لدى أناس المزارع [المستوطنين]. ورفع “الشاباك” مؤخراً وثيقة إلى المستوى السياسي حذر فيها من نمو مدو للمزارع وارتفاع عدد أحداث العنف التي خرجت منها. وتقول حغيت عوفران، رئيسة طاقم متابعة المستوطنات في حركة “السلام الآن” إنه “ينبغي أن نصف الأمور كما هي؛ فالارتفاع الحاد في عنف المستوطنين في أرجاء الضفة، يرتبط بشكل مباشر بظاهرة المزارع، التي يتحمل سكانها المسؤولية عن جزء كبير من هذا العنف”.

بالتوازي، ارتفع أيضاً عدد التجمعات الفلسطينية التي كانت تعيش في مناطق المزارع وطردت من منازلها. “نتحدث عن عدد يصل إلى 35 حالة طرد في السنتين الأخيرتين، فيما الأغلبية المطلقة منها هي “حالات الطرد في أكتوبر”، كما يقول درور ايتكس، مؤسس منظمة “كيرم نبوت”، التي تتابع المستوطنات في الضفة.

الساحة الدولية ربما تبدو مبالية بذلك؛ فالولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى، فرضت في السنة الأخيرة عقوبات على ستة من أصحاب مزارع كهذه. وعللت إدارة بايدن فرض العقوبات على ثلاثة منهم في آذار الماضي بأنهم كانوا مشاركين في “عنف متكرر ضد الفلسطينيين، وفي حالات معينة ضد إسرائيليين أيضاً، في الضفة الغربية”.

لكن واضح أن المتطوعين الشبان لا يهمهم النقد الدولي. “منذ الحرب، مسموح لنا عمل كل شيء”، يقول بصدق مفزع شاب يتواجد في مزرعة “أوفينهايمر” التي أقيمت مؤخراً على هامش المستوطنة الحريدية “عمانوئيل”. “من ناحية أمنية. من ناحية الأذون، الجيش معنا الآن، ويسهل علينا السيطرة على الأرض. وكذا من ناحية الولايات المتحدة. لأنه منذ 7 أكتوبر، باتت عينهم أكثر على غزة وأقل على يهودا والسامرة”. وبالفعل، منذ بداية الحرب يرابط جنود احتياط هنا بشكل دائم، ما يعزز سيطرة هذه المزرعة، والمزارع بالعموم، على الأرض.

المزرعة التي أقامتها مسؤولة الأراضي في المجلس الإقليمي “السامرة” [شمال الضفة الغربية] تقع على مسافة غير بعيدة من “دوروت عيليت”. “نحن ثلاث مزارع على المحور”، كما كشف المتطوع الشاب، “هذا موزع استراتيجياً تماماً”. درة التاج هنا هي غرفة العمليات: منشأة متطورة من الشاشات المنقسمة المستندة إلى كاميرات منتشرة في المجال وتتيح مراقبة شاملة للمنطقة في كل لحظة. غرفة رقابة مغروسة في قلب محمية طبيعية خضراء. يوجد حتى لأصحاب المزرعة حوامة مع جهاز للرؤية الليلية تبرعت بها منظمة صندوق إسرائيل واحدة، المنظمة الأمريكية التي توفر للمزرعة جملة وسائل حماية تكنولوجية.

… “نيلي”، رمز لمستوطنة علمانية وبرجوازية. أسطح قرميدية حمراء متينة. في الطريق الصاعد إلى المستوطنة شعار يدعو لصفقة مخطوفين. من نقطة رقابة على رأس التلة قريتان فلسطينيتان مجاورتان تذكران بالغاية الأساسية لأماكن مثل “نيلي”. لكن مساهمة مستوطنات قديمة كهذه تهدف اليوم لخلق إسفين بين بلدات عربية في مناطق الضفة تبدو شبه هامشية.

لا حاجة إلى منظار لمشاهدة التطور الجديد في المجال. ففي أسفل المستوطنة تماماً تقع مزرعة “مغنازي”، على اسم مؤسسها يوسف حاييم مغنازي، الذي يسكن فيها مع زوجته دبورا وابنه الصغير. “الفرق بين نيلي ومغنازي هو خلاصة القصة كلها”، يشير ايتكس. فالبؤرة تسيطر على أراض زراعية بمساحة نحو 5 آلاف دونم – بحجم مساحة يهود – مونوسون وأربعة أضعاف نيلي نفسها – رغم أنه لا يسكن فيها سوى عائلة واحدة فقط، في شاحنة حولت لتصبح مكاناً للسكن، إلى جانب ضيوف مؤقتين. المزرعة تشق ألسنة طويلة إلى أراضي فلسطينية في المحيط من خلال طرق ترابية جديدة. وفي منشورات عن المزرعة، كتب أن هدفها “منع أي سيطرة عربية على أراضي بلادنا الغالية”. مغنازي نفسه أعلن في مقابلة صحافية بأنه “سيملأ اليهود هذه الجبال. هناك من يفهم هذا سريعاً ومنهم من يفهمه ببطء”.

المزرعة، مع قطيع يضم 200 رأس من الأغنام وأراضي رعي لا نهاية لها وأشجار موز ومانغا، ما كان يمكنها أن تكون لولا منظومة متطوعين، في الغالب فتيان، بعضهم بدون خلفية عائلية أو ممن تساقطوا من المؤسسة، وبعضهم حتى من الحريديم من “كريات سيفر”.

نشاط “الكيرن كييمت” في المناطق [الضفة الغربية] أمر يثير خلافات عاصفة في المنظمة. بعض من ممثليها ينتمون لليسار – الوسط وليهود شمال أمريكا. عندما يتبرع أعضاء الجاليات اليهودية في أرجاء العالم بسخاء لـ “الكيرن كييمت”، ربما لا يفهمون بأن أموالهم عملياً تمول أعمال بؤر استيطانية متطرفة، وبعضها عنيف، في أرجاء الضفة.

رغم ذلك، حولت المنظمة في السنوات الثلاث الأخيرة 5.5 مليون شيكل لمشروع يضخ الأموال لمتطوعي المزارع ويصنف كبرنامج لمعالجة “شبيبة في خطر”.

وثيقة وصلت إلينا تكشف قائمة البؤر الاستيطانية التي ضمها برنامج “الكيرن كييمت”، بينها أيضاً مزرعة فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليها لكونها تمارس العنف. ولدى “الكيرن كييمت” تخوف على استمرار تمويل البرنامج كونه يخرق العقوبات.

بالإجمال، شارك في المشروع حتى نهاية 2023 أكثر من 200 فتى في عشرات المزارع في الضفة الغربية، كان منهم 80 فتى تلقوا تمويلاً بـ 1.5 مليون شيكل حولها الصندوق لـ “مجلس بنيامين”. وثمة ميزانية أعلى، أكثر من 2 مليون شيكل، حولها الصندوق لمنظمة “ارتسينو” (بلادنا)، التي مولت تأهيل 150 فتى في 25 مزرعة أخرى. وهي معروفة لأنها من أكثر المنظمات توفيراً للمتطوعين.

… ولكي نبين جيباً جماهيرياً آخر يمول هذا المشروع، ينبغي العودة إلى آب 2022، في عهد نفتالي بينيت رئيساً للوزراء، الذي كان أيضاً وزير الاستيطان، وبصفته هذه أقر في حينه خطة العمل السنوية لدائرة الاستيطان، وتضمنت بنداً يعنى بـ “تخطيط بنى تحتية حيوية وعناصر أمن للاستيطان الفتي”. وتحت هذا البند المتلوي، حولت الدائرة إلى بؤر الرعاة مبلغ 15 مليون شيكل في 2023، وفي 2024 تضاعفت الميزانية ثلاث مرات فبلغت 39 مليون شيكل أخرى. تخفي دائرة الاستيطان أي “عناصر أمن” قدمت للبؤر. ومع ذلك، تشير حركة “السلام الآن” إلى أن 30 مزرعة على الأقل زودت مؤخراً بوسائل أمنية، بما فيها خمس مزارع فرضت عليها عقوبات دولية. وأفاد المدير العام لدائرة “بوشعايا هراري” بأن 68 مزرعة حصلت على التمويل في 2023 بمبلغ 7.7 مليون شيكل من أجل “شق طرق”. هذه الدروب الترابية تعد شرياناً حيوياً للمزرعة، ومن خلالها يتاح للمستوطنين التوسع إلى أعماق المنطقة.

إضافة إلى السيطرة على الأرض، يعمل أناس المزارع [المستوطنون] غير مرة كمراقبين بتكليف من أنفسهم ضد البناء الفلسطيني غير القانوني – بواسطة حوامات، وتهديدات، وتقارير إلى السلطات. وانضمت إليهم أيضاً في السنوات الأخيرة أجسام تدعى “دوائر الدورية البرية” للمجالس في المستوطنات، تضخ إليها وزارة الاستيطان عشرات ملايين الشواقل منذ 2021. وبلغت الميزانية التي نقلت إليها في السنتين الأخيرتين 35 مليون شيكل بالمتوسط السنوي، كي تعمل هذه على “منع مخالفات تخطيط وبناء وسيطرة على أراضي الدولة” – رغم أن صلاحيات الرقابة على بناء الفلسطينيين هي إجمالاً لدى الإدارة المدنية. ويستخدم المال للتزود بمركبات الدفع الرباعي، وشراء كاميرات ونصبها في أراض مفتوحة، وتمويل جزء من رواتب مُسيري الدوريات، وكذا “شق محاور وإغلاق أراض”.

ولعله من الطبيعي أن ترى الدولة هذه المزارع كمشاريع استحداث – تنمية حديثة للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي من خلال الحد الأدنى من القوة البشرية، ولهذا تخصص لها منح “مشاريع تجارية”. في الأعوام 2020 – 2022 قدمت الدولة منحاً كهذه لـ 13 صاحب مزرعة بمبلغ متراكم يبلغ 1.6 مليون شيكل. وبين المستفيدين الأساسيين المستثمر تسفي لاكس من مزرعة “ايرتس هتسفي” غربي رام الله، الذي تلقى منحة بمبلغ 140 ألف شيكل، ويسسخار مان من مزرعة “ميشيك مان” جنوب جبل الخليل، الذي تلقى منحة بمبلغ 120 ألف شيكل. هاتان المزرعتان أيضاً تقومان على أساس متطوعين فتيان، وكلتاهما أدرجت في برنامج “فتيان المزارع” في “الكيرن كييمت”. في تموز الماضي، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على مزرعة “مان” بسبب عنف ممنهج للمستوطنين الذين خرجوا منها.

——————————————–

“تبدّلت معادلةُ القوة في الشرق الأوسط”

كاتب بريطاني: بعد عام من “الطُّوفان”.. ما أبرز الفروق بين استراتيجتي نتنياهو والسّنوار؟

نشر في: 10 أكتوبر 

قارن الصحفي البريطاني المعروف ديفيد هيرست، بين استراتيجيتي رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ورئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس يحيى السنوار.

وقال هيرست في مقاله في موقع “ميدل إيست آي” أن استراتيجية نتنياهو تتمثل في 4 أهداف: إعادة الأسرى، والقضاء على كل مجموعات المقاومة في فلسطين ولبنان، وإنهاء برنامج إيران النووي، وإضعاف محور المقاومة وإعادة تنظيم المنطقة بحيث تكون “إسرائيل” هي المهيمنة.

فيما تتلخص استراتيجية السنوار في هدفين، استقاهما هيرست من خطابين كان قد ألقاهما في العام الذي سبق هجوم حركة حماس. في أحدهما قال السنوار إن “تصعيد المقاومة بكل أشكالها وجعل الاحتلال يدفع فاتورة الاحتلال والاستيطان هو السبيل الوحيد لتخليص شعبنا وتحقيق غاياته في التحرير والعودة”.

وفي الثاني قال: “إما أن نجبرها (إسرائيل) على تطبيق القانون الدولي، وعلى احترام القرارات الدولية، (أي) الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى (والسماح) بعودة اللاجئين.. أو أننا، نحن والعالم، سنجبرها على عمل هذه الأشياء وإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية في المناطق المحتلة، بما في ذلك القدس، أو أننا سنجعل دولة الاحتلال في حالة من التناقض مع الإرادة الدولية بأسرها، وبذلك نعزلها بقوة وبشدة، ونضع حداً لحالة اندماجها داخل المنطقة وفي العالم كله”.

ويخلص هيرست في نهاية مقاله إلى أنه يبدو أن استراتيجية السنوار هي التي تنجح، فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، والذي لا قبل لأحد بوقفه.

وقال هيرست “لم يتوقع معلق واحد يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، وأنا منهم، أن الحرب ستظل رحاها دائرة على أشدها بعد عام من ذلك”.

وأضاف “لم يتوقع أحد قبل عام من الآن أن تخوض “إسرائيل” قتالاً لفترة أطول من تلك التي استغرقتها عند تأسيس الدولة في عام 1948، فكل الحروب التي خاضتها “إسرائيل” منذ ذلك الوقت كانت مجرد استعراضات قصيرة للقوة المطلقة، وليس لمجرد الرغبة في المحاولة”.

وأوضح هيرست أن “إسرائيل” قصفت غزة حتى أعادتها إلى العصر الحجري، حيث تم إلحاق الضرر بما يزيد عن سبعين بالمائة من بيوتها أو دمرت تدميراً تاماً. وها هي “إسرائيل” تتأهب لفعل نفس الشيء في صور، وفي الضواحي الجنوبية لبيروت، وفي مناطق أخرى كثيرة في جنوب لبنان.

لا أحد يرفع الراية البيضاء، ولا توجد مؤشرات بارزة على حدوث تمرد بين السكان – الذين يعيشون الآن في الخيام– والذي فقدوا واحداً وأربعين ألف نسمة بسبب القصف المباشر، ويكاد يصل من قضوا نحبهم في الحرب بشكل غير مباشر ثلاثة أو أربعة أضعاف ذلك العدد.

قالت مجلة “ذي لانسيت” إن العدد الفعلي للشهداء قد يتجاوز الـ186 ألفاً فيما لو تم أخذ عوامل أخرى، مثل المرض وانعدام الرعاية الصحية، في الحسبان.

فهؤلاء الناس يتعرضون للتجويع، وانتشرت بينهم الأمراض، وهم على وشك قضاء الشتاء الثاني لهم في الخيام. ويتم قصفهم بشكل يومي، وما زالوا عصيين على الخضوع. لم يسبق أن حل مثل هذا الحجم من المعاناة بأي جيل سابق.

ما من فلسطيني على قيد الحياة اليوم إلا ويعرف التبعات، ومع ذلك لا تراهم يهربون. معظمهم يؤثرون الموت على التخلي عن أراضيهم وديارهم للمحتل.

استراتيجيتان اثنتان

منذ بداية هذه الحرب، كانت هناك استراتيجيتان واضحتان تمام الوضوح لكل من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وقائد حركة حماس يحيى السنوار.

بعد الهجوم الذي شنته حماس على جنوب فلسطين المحتلة، أعلن نتنياهو عن أربعة أهداف: إعادة الأسرى، والقضاء على كل مجموعات المقاومة في فلسطين ولبنان، وإنهاء برنامج إيران النووي، وإضعاف محور المقاومة، وإعادة تنظيم المنطقة بحيث تكون “إسرائيل” هي المهيمنة.

كما أنه غدا جلياً بسرعة لدى عائلات الأسرى، وكذلك لدى فريقه المفاوض وحماس ووليام بيرنز، مدير “سي آي إيه” الذي كان يشرف على المحادثات، لم تكن لدى نتنياهو النية في إعادة الرهائن إلى ديارهم.

وسعى إلىِ “إقناع إسرائيل” بأن الضغط على حماس سوف يضمن إطلاقاً سريعاً للأسرى. كان هذا مجرد هراء، فالغالبية العظمى من الأسرى – لم يبق الآن منهم داخل غزة سوى 101 – يموتون بسبب القنابل والصواريخ التي تطلقها “إسرائيل”. ثلاثة منهم أطلقت عليهم النيران بينما كانوا يحاولون الاستسلام.

تحت لواء حكومة نتنياهو اليمينية، تعتبر حياة الأسرى ثانوية بالمقارنة مع هدف تدمير حماس، وذلك أنه فيما لو عاد الأسرى لواجه نتنياهو حكماً طويلاً بالسجن. ولكنه، وكما غدا واضحاً، فشل في تدمير حماس، ومن هنا يأتي توجهه السريع نحو خوض حرب جديدة مع لبنان وحزب الله. ما زالت حماس تسيطر على غزة، حتى الآن، ورغم محاولتين لاستبدالها كحكومة للقطاع، لم تبرز أي قوة أخرى ذات مصداقية في القطاع.

في البداية جربت “إسرائيل” إبادة قيادة حماس، ورغم ذلك استمرت الحركة في العمل بغض النظر عمن بقي على قيد الحياة من قادتها ومن قضى نحبه.

أما على المدى البعيد، فيتم استبدال القادة، كما يتم التزود بالعتاد، ويتم الانتقام للذكريات.

دور إيران

تتحمل “إسرائيل” المسؤولية الأولى عن ذلك، وذلك لأنها ضربت عرض الحائط، عمداً، بالأعراف السابقة للقتال، حيث بات الآن استهداف شخص واحد يشك في تواجده مبرراً كافياً لقتل تسعين شخصاً بريئاً ممن يحيطون به، سواء ثبت بالفعل تواجده في الموقع أم لم يثبت. وهكذا أبيدت عائلة بأسرها في قصف جوي لمقهى داخل الضفة الغربية، حيث قتل ثمانية عشر فلسطينياً، بمن فيهم طفلان مزقا شر ممزق. لو كان يقصد من إطلاق الصواريخ على المقاهي توجيه رسالة ما، فإن ما ينتج عن ذلك هو العكس تماماً لما كان مقصوداً منها.

إن الشهداء هم أفضل سبيل للتجنيد والأكثر فاعلية.

ويصدق ذلك في حالة كل جماعات المقاومة، كبرت أم صغرت، سواء القديمة منها أو التي تشكلت لتوها. في كل مرة تغادر فيها القوات “الإسرائيلية” جنين أو طولكرم أو نابلس، تظن أنها تمكنت من القضاء قضاء مبرماً على المقاومة فيها، ولكن في كل مرة تعود لتواجه المزيد من المقاتلين.

هدف نتنياهو الثالث، وهو القضاء على إيران كقوة نووية وكقوة إقليمية، هدف قديم يسبق السابع من أكتوبر بعدة عقود.

عند كتابة هذا المقال كنا ما نزال بانتظار رد “إسرائيل” على إطلاق إيران 180 صاروخاً باليستياً، تمكن بعضها من الوصول إلى أهدافها.

اضطر الرئيس الأمريكي جو بايدن سريعاً إلى التراجع عن تصريحات بالسماح “لإسرائيل” بمهاجمة مرافق النفط الإيرانية، وذلك بعد أن قيل له إن إيران بإمكانها بضربة واحدة إغلاق مضير هرمز.

لا يوجد من هو أكثر قلقاً من قيام “إسرائيل” بمهاجمة إيران من حلفاء الولايات المتحدة في الخليج. وذلك أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ذاقتا طعم ما يمكن أن يحدث لأرامكو وللصادرات النفطية فيما لو تعرضت مرافق النفط الإيرانية للهجوم.

ولهذا السبب أصدرت دول الخليج بياناً أعلنت فيه اتخاذها موقفاً حيادياً، مضيفة أنها لن تسمح للولايات المتحدة باستخدام أي من قواعدها لشن هجوم على إيران.

دكتاتوريات بشعة

هدف نتنياهو الرابع هو إعادة تنظيم المنطقة تحت هيمنة “إسرائيل”. لكم يعشق المسؤولون “الإسرائيليون” الحديث مع الصحفيين الأمريكيين حول ما يصلهم سراً من زعماء “السنة المعتدلين” في العالم العربي من عبارات دعم “لإسرائيل” وتأييد لأجندتها فرض الهيمنة على المنطقة. وهؤلاء الزعماء كلهم دكتاتوريون في غاية البشاعة.

ولكن هنا أيضاً، ترتكب “إسرائيل” والولايات المتحدة نفس الخطأ المرة تلو الأخرى من خلال الخلط بين ما يصلهم سراً من عبارات دعم وتأييد من الأثرياء المذعنين لهم وبين الشعوب التي يزعم هؤلاء أنهم يمثلونها.

النموذج الساطع لهؤلاء الأثرياء المذعنين، كبير البراغماتيين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، نقل عنه خطأ على نطاق واسع تأييده لوجهة النظر التي تقول إن الحكام العرب في حقيقة أمرهم لا تعنيهم فلسطين كثيراً.

كان العنوان الرئيسي الذي اقتبس من محادثاته مع أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، هو النص التالي: “هل أعبأ شخصياً بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ”.

إلا أن الاقتباس الكامل كان على النحو الذي شرحه الأمير في حديثه مع بلينكن قائلاً: “سبعون بالمائة من شعبي هم أصغر مني سناً، ومعظمهم لم يعرفوا في الحقيقة الكثير عن القضية الفلسطينية. ولذلك فهم الآن يتعرفون عليها للمرة الأولى من خلال هذا الصراع. وهذه مشكلة كبيرة. هل أعبأ شخصياً بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ، ولكن شعبي يعبأ، ولذلك يجب علي أن أتأكد من أن هذا له معنى”.

كلما زاد استبداد النظام، وكلما شعر الحاكم بعدم الاتزان في أوقات الأزمات الإقليمية،  زادت حاجته لأن يبدي اهتماماً بالغضب الشعبي تجاه فلسطين. تلك هي نقطة ضعفهم، وذلك أن الاستبداد لا قبل له بإخماد التأييد لفلسطين ولا إلهاء الناس عنه بغيره. بل من شأن الاستبداد أن يعزز مثل هذا التأييد.

انطلاقاً من ذلك جاء إعلان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود أن المملكة العربية السعودية لن تطبع العلاقات مع “إسرائيل” إلا بعد إقامة دولة فلسطينية.

أهداف السنوار

دعونا الآن ننظر في أهداف السنوار الاستراتيجية يوم السابع من أكتوبر، ولنرى أيها صمد مع مرور الوقت.

كان لديه هدفان استراتيجيان. ما يفكر به يمكن استنتاجه من خطابين كان قد ألقاهما في العام الذي سبق هجوم حماس. قال السنوار في أحدهما، وكان ذلك في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2022، إنه ينبغي أن نجعل الاحتلال أكثر تكلفة “لإسرائيل”.

وأضاف: “تصعيد المقاومة بكل أشكالها وجعل (سلطات) الاحتلال تدفع فاتورة الاحتلال والاستيطان هو السبيل الوحيد لتخليص شعبنا وتحقيق غاياته في التحرير والعودة”.

وفي خطاب آخر قال السنوار إنه يجب على الفلسطينيين أن يعرضوا على “إسرائيل” خياراً واضحاً.

وقال: “إما أن نجبرها على تطبيق القانون الدولي، على احترام القرارات الدولية، (أي) الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى (والسماح) بعودة اللاجئين.. أو أننا، نحن والعالم، نجبرها على عمل هذه الأشياء وإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية في المناطق المحتلة، بما في ذلك القدس، أو أننا نجعل الاحتلال في حالة من التناقض مع الإرادة الدولية بأسرها، وبذلك نعزلها بقوة وبشدة، ونضع حداً لحالة اندماجها داخل المنطقة وفي العالم كله”.

في ما يتعلق بالنقطة الأولى، لا ريب أن حماس جعلت الاحتلال أكثر تكلفة بالنسبة “لإسرائيل”.

فمنذ أن بدأت الحرب قُتل 1664 إسرائيلياً، 706 منهم جنود، وبلغ عدد من جرحوا 17,809، وعدد من أجبروا على إخلاء منازلهم 143 ألفاً، بحسب ما أوردته صحيفة “جيروزاليم بوست”.

وبدأ المال يهرب إلى الخارج. وعلى الرغم من عودة كثيرين من عناصر الاحتياط، الذين يبلغ تعدادهم 300 ألف، إلى وظائفهم، نشرت مجلة “الإيكونوميست” تقريراً جاء فيه: “ما بين أيار/ مايو وتموز/ يوليو، تضاعفت كمية الأموال المتدفقة من البنوك في البلد إلى المؤسسات الدولية مقارنة بنفس الفترة من العام المنصرم، حيث وصلت إلى ملياري دولار. ولذا غدا صناع السياسة الاقتصادية في “إسرائيل” أشد قلقاً مما كانوا عليه منذ بدء الصراع”.

أكبر تأثير منذ السابع من أكتوبر

ولكن أكبر الضربات التي وجهها السابع من أكتوبر كانت في المستوى السيكولوجي (النفسي).

وذلك أن الانهيار المفاجئ والتام للجيش “الإسرائيلي” قبل عام من الآن شكل صدمة كبيرة لم تتعاف منها “إسرائيل” بعد، إذ إنه تحدى الدور الأساسي الذي تقوم به الدولة في الدفاع عن مواطنيها.

جعل ذلك كل “الإسرائيليين” يشعرون بانعدام الأمان، وهذا هو الذي يفسر، وحده، التوحش الذي يمارسه الجيش “الإسرائيلي” في رده، على الرغم من الشكوك العميقة التي تساور قادة الأجهزة الأمنية.

إذا كان ما زال محفوراً في ذاكرة ديفيد إغناتيوس ذلك المقطع المصور لأحد مقاتلي حماس وهو يتصل بالبيت مخاطباً والدته في غزة بأنه قتل عددًا من الصهاينة، فماذا عن الآلاف من المقاطع المرفوعة على “التيك توك” من قبل جنود “إسرائيليين” يتباهون بما ارتكبوه من جرائم حرب؟ ما هو الأثر الذي تتركه هذه المقاطع على الكاتب في صحيفة واشنطن بوست؟ إلا أنها مغيبة تماماً من قبله ومن قبل كثيرين مثله.

يعني ذلك استثناء وتبرير كل ما فعلته “إسرائيل” بجميع الفلسطينيين بغض النظر عن العائلة أو العشيرة أو التاريخ، إنها الهمجية التي لا تضاهيها همجية، ولا إنسانية أكبر مما يمكن أن يخطر ببال أحد من البشر حتى يوم السادس من أكتوبر أنها يمكن أن تصدر عن دولة في هذا المستوى من التحضر والتعليم.

وهنا، أخيراً، نصل إلى أكبر أثر تركه هجوم حماس.

في السادس من أكتوبر كانت القضية الوطنية الفلسطينية في عداد الأموات، إن لم تكن قد دفنت بالفعل. فبعد مرور ثلاثين سنة على اتفاقيات أوسلو، غدت غزة معزولة تماماً، وبات الحصار المفروض عليها أبدياً، ولم يكن أحد يعبأ بذلك..

أعلن نتنياهو انتصاره، وذلك في أيلول/ سبتمبر 2023، عندما لوح بخريطة في الأمم المتحدة لا وجود فيها للضفة الغربية.

كان هناك بند واحد في الأجندة الإقليمية. إنه التطبيع الوشيك للمملكة العربية السعودية مع “إسرائيل”. وكانت المنطقة في أهدأ أحوالها منذ عقود، كما كتب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في مقاله الأصلي الذي أعده للنشر في مجلة “فورين أفيرز”.

فقد قال في النسخة الأصلية، التي سرعان ما أعيد تحريرها وتعديل محتواها: “على الرغم من أن الشرق الأوسط ما زال يواجه تحديات معمرة، إلا أن المنطقة الآن في أهدأ أحوالها منذ عقود”.

ذروة النصر

في عهد أشد القيادات يمينية في تاريخها، تم التخلي عن صيغة الأرض مقابل السلام، ومعها تم التخلص من فكرة الانفصال. من خلال الاستيلاء على الأراضي والتمسك بها، كانت “إسرائيل” في ذروة النصر.

بعد السابع من أكتوبر، وصل دعم المقاومة المسلحة في الضفة الغربية إلى الذروة، فقد وضع هجوم حماس المقاومة المسلحة تارة أخرى على الأجندة كسبيل لفرض أجندة التحرير.

لو أن اتفاقيات أوسلو نجحت في إنتاج دولة فلسطينية خلال خمس سنين من التوقيع عليها، لما وُجدت حركة مثل حماس، أو لو وُجدت لربما تصرفت كما تتصرف مجموعة منفصلة عن الجيش الجمهوري الإيرلندي، ولما كانت قادرة على تغيير مسار الأحداث. 

أما اليوم فحماس هي التي تغير مسار الأحداث، لأن الطريق السلمي نحو دولة فلسطينية قابلة للحياة تم سده، وكل حديث عن عملية السلام غدا مجرد سراب.

لو سُمح الآن بتنظيم انتخابات لطيرت حماس فتح كما فعلت بها في عام 2006.

لم يقتصر الأمر على فشل أوسلو في إنتاج دولة فلسطينية، بل لقد أوجدت هذه الاتفاقيات الظروف التي مكنت الدولة الإسرائيلية من التوسع والازدهار بشكل غير مسبوق داخل الضفة الغربية وفي القدس.

كان هذا هو العامل الأهم والأكبر على الإطلاق الذي أقنع جيلاً جديداً من الشباب الفلسطينيين ببيع سياراتهم ودكاكينهم وشراء الأسلحة.

وحينما هاجمت كتائب القسام جنوب فلسطين المحتلة، لم يحتج هؤلاء الشباب إلى كثير من الإقناع. بعد مضي عام، ها هو جناح حماس المسلح يحظى بالبطولة في الضفة الغربية والأردن والعراق، وأظن كذلك، في أجزاء كبيرة من مصر ومن شمال أفريقيا.

وعلى مستوى الإقليم، ها هو محور المقاومة، الذي ظل طوال معظم الفترة التي تلت انطلاق ثورات الربيع العربي مجرد ظاهرة خطابية، قد غدا تحالفاً عسكرياً فاعلاً.

وحزب الله الذي ظل لوقت طويل ينأى بنفسه عن عملية حماس، ها هو يتعرض للهجوم في الحرب مثله مثل حماس. غادر ملايين اللبنانيين ديارهم، وها هي بيروت تعاني من نفس الرعب الذي عانت منه مدينة غزة بسبب الطائرات الإسرائيلية المسيرة والمقاتلة.

عادت فلسطين إلى موقعها الصحيح، حيث إنها تضطلع بالدور الأساسي في حسم أمر الاستقرار في المنطقة.

مسألة وقت

من بين الاستراتيجيتين، يبدو أن استراتيجية السنوار هي التي تنجح، فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، والذي لا قبل لأحد بوقفه.

لعل نتنياهو، الذي جرأه ضعف بايدن واحتمال مجيء دونالد ترامب، الذي يقول إن “إسرائيل” صغيرة أكثر من اللازم، يتوهم بأن بإمكانه أن يحتل شمال غزة وجنوب لبنان.

من المؤكد أن ضم المناطق “جيم”، والتي تشكل معظم أراضي الضفة الغربية، سيأتي من بعد.

ولكن ما لن يكون نتنياهو قادراً على فعله في غزة أو في لبنان أو في الضفة الغربية هو إنهاء ما بدأه.

إن الذي أجبر آرييل شارون على الانسحاب من غزة أو إيهود باراك على الانسحاب من لبنان، سوف ينطبق على القوات الإسرائيلية التي يحاول نتنياهو نشرها في غزة وفي لبنان، وبشكل أعنف بكثير. إنها مسألة وقت.

لقد نزعت هذه الحرب عن “إسرائيل” صورة الصهيوني الليبرالي، صورة الغلام الجديد في الحي السكني، الذي يدافع عن نفسه في مواجهة “الحي الصعب”.

حلت محل ذلك صورة البعبع الإقليمي، الدولة التي تمارس الإبادة الجماعية، بلا بوصلة أخلاقية، مستخدمة الإرهاب من أجل البقاء. مثل هذه الدولة لا يمكنها العيش بسلام مع جيرانها، فهي تسحق وتهيمن حتى تظل على قيد الحياة.

حرب نتنياهو قصيرة المدى وتكتيكية، بينما حرب السنوار طويلة المدى، هدفها جعل “إسرائيل” تدرك أنها لا يمكنها أبداً الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها إذا كانت فعلاً تنشد السلام.

حرب نتنياهو عمرها سنة، ولا يمكنها الاستمرار بنفس الطريقة التي بدأت بها إلا عبر إلحاق نفس الدمار بجنوب لبنان كالذي ألحقته بغزة. لا يوجد فيها غيار عكسي. 

من الذي سيكسب؟ يتوقف ذلك على درجة تحمل المستضعفين. لن أستغرب أن يكون هناك من يقول: “لقد كفانا ما أتانا، نريد التوقف”.

ولكن بعد مرور عام فما زالت روح المقاومة مرتفعة وآخذة في النمو. إذا كنت على صواب، فهذا القتال ما زال في مراحله الأولى.

لقد تبدلت معادلة القوة في الشرق الأوسط، ولكن ليس لصالح “إسرائيل” أو الولايات المتحدة.

——————————————–

معهد دراسات الامن القومي الاسرائيلي (INSS): 11/10/2024

غزو بري في الجبهة الشمالية: معان وتداعيات

بقلم: عوفر شيلح وغاي حزوت

في ايلول 2024، بعد حوالي سنة على الحرب التي كانت فيها جبهة اسرائيل الاساسية هي جبهة الجنوب، قررت حكومة اسرائيل نقل الجهد الاساسي للجيش الاسرائيلي الى الشمال، من خلال اضافة الى اهداف الحرب، كما تم تحديدها في تشرين الاول 2023 (تدمير حكم حماس وقدراتها العسكرية؛ ازالة تهديد الارهاب من القطاع، بذل الجهود الكبيرة لحل قضية الرهائن والدفاع عن حدود اسرائيل ومواطنيها)، هدف آخر وهو عودة سكان الشمال الى بيوتهم.

مقاربة اسرائيل الجديدة هدفت الى تغيير المعادلة التي تطورت في الشمال، التي في اطارها تبادل النار بين اسرائيل وحزب الله يحدث تحت مستوى الحرب الشاملة، وبناء على ذلك فهو محدود من حيث حجمه. رغم أن الجيش الاسرائيلي نجح تكتيكيا في خطة الدفاع في الشمال منذ 8 تشرين الاول الماضي، وقام بالحاق اصابات كبيرة بحزب الله، اضافة الى عدد قليل من المصابين في الطرف الاسرائيلي، فانه على المستوى الاستراتيجي نجح حزب الله في خلق حزام امني في شمال اسرائيل، و80 ألف اسرائيلي اصبحوا لاجئين في بلادهم.

منذ اتخاذ القرار فان الجيش الاسرائيلي يبذل في لبنان جهود كبيرة من لكمات النار الدقيقة على البنى التحتية لحزب الله، بما في ذلك، حسب منشورات اجنبية، عملية تفجير البيجرات والاجهزة اللاسلكية التي اصابت حوالي 1500 من نشطاء حزب الله حسب اعترافه هو نفسه. اضافة الى ذلك ضرب سلاح الجو كبار قادة حزب الله في قلب الضاحية الجنوبية، معقل الحزب في بيروت، ونفذ عدد كبير من الهجمات ضد منظومات النار حادة المسار للمدى القصير والمتوسط، وقدرات استراتيجية اخرى للحزب. ذروة هذا الهجوم كانت تفجير مقر قيادة حزب الله في الضاحية الجنوبية في 27 أيلول، الذي قتل فيه رئيسه المؤثر جدا، حسن نصر الله. عمليا، تقريبا كل القيادة التنفيذية العليا في حزب الله تمت تصفيتها، وحجم كبير من قدراته اصيب.

في العمليات الاخيرة في لبنان فان اسرائيل تستعرض تفوقها الكبير في جمع المعلومات لفترة طويلة، التي اوجدت “بنك اهداف” مثير للانطباع، وبواسطة قصف سلاح الجو الذي يسلب من حزب الله قدرات كثيرة. الهدف الفوري للعملية هو فصل العلاقة التي اوجدها حسن نصر الله بين القتال في قطاع غزة وبين استمرار اطلاق النار نحو اسرائيل، والفصل بين الساحات، والسماح بعودة سكان الشمال الى بيوتهم بأمان.

يجب التذكير بأن قرار اخلاء سكان الشمال تم اتخاذه في ظل الانطباع القاسي لاحداث 7 تشرين الاول، والخوف من غزو مشابه لقوة الرضوان لأراضي اسرائيل (ما سمي في حزب الله “خطة احتلال الجليل”). خلال ايام اوجدت قيادة المنطقة الشمالية منظومة دفاع سميكة على الحدود الشمالية، لكن في المقابل، اخلاء المستوطنات الاسرائيلية في منطقة الحدود الشمالية مكن حزب الله من اطلاق عدد كبير من منظومات النيران حادة المسار والصواريخ المضادة للدروع على بيوت فارغة والتسبب بتدمير كبير في البلدات القريبة من الجدار. الوزراء الذين شاركوا في هذا القرار، مثل اعضاء كابنت الحرب في حينه بني غانتس وغادي ايزنكوت، اعترفوا بعد ذلك بأن هذا كان خطأ رافقه ثمن استراتيجي باهظ وغير محتمل.

في الوضع الذي نشأ فان اعادة سكان الشمال الى بيوتهم مرهون ليس فقط بازالة التهديد باقتحام البلدات، بل ايضا تحييد تهديد النيران مستوية المسار والصواريخ ثقيلة الوزن وقصيرة المدى عن هذه البلدات. اضافة الى ذلك هذا يقتضي ايضا تجديد الثقة والشعور بالأمان لدى السكان بعد سنة من المعاناة والاحباط، اذا تمكنوا من اتخاذ قرار باعادة العائلات قريبا من خط الحدود. في الوقت الحالي يجب السعي الى تسوية سياسية تؤدي الى وقف اطلاق النار في الشمال، ويمكن أن ترتبط ايضا بصفقة لتحرير المخطوفين المحتجزين لدى حماس وتغيير الوضع في قطاع غزة. اذا كانت هناك مثل هذه التسوية فانه من الواضح أن اسرائيل ستصمم على ابعاد قوات حزب الله الى ما وراء المدى الفعال للاقتحام أو اطلاق الصواريخ المضادة للدروع على البلدات في الشمال.

اذا تمت بلورة مثل هذه التسوية فعندها المعركة في الشمال ستكون انجاز عملياتي مؤثر، حيث أن جزء كبير من الواقع المهدد في 6 تشرين الاول، حزب الله ينتشر قرب الجدار وقوة الرضوان على بعد خطوة من اقتحام كبير لاراضي اسرائيل ومنظومة صواريخ تهدد بشكل غير مسبوق كل اراضي اسرائيل، سيتآكل بشكل كبير، بفضل معركة قصيرة وقوية ترتكز الى معلومات دقيقة وسرية تم تجميعها خلال فترة طويلة وتم اظهار فيها قدرة تنفيذية لسلاح الجو.

هذه العملية، التي هي تجسيد لنظرية أمن اسرائيل الكلاسيكية التي تعتمد على المبادرة والتحايل ونقل الحرب الى ارض العدو وتحقيق انتصار عملياتي حازم في فترة قصيرة، سيكون لها تأثير بعيد المدى على استعادة ردع اسرائيل، ليس فقط امام حزب الله الذي تم اضعافه، بل ايضا امام “محور المقاومة” برئاسة ايران. 

لكن هناك احتمالية ملموسة وهي أن مثل هذه التسوية لن تكون، بسبب عدم رغبة أي طرف من الاطراف ذات الصلة. المعركة بالنيران يمكن أن تفقد النجاعة عند استنفاد الاهداف المهمة كما كانت في السابق، وستكون قريبة من استنفاد الجدوى منها، في حين أن حزب الله من ناحيته، بقيادته الجديدة عديمة التجربة ومن خلال ضغط البقاء، والذي لا يعترف بالهزيمة العملية ويفقد ما بقي من مكانته كحامي لبنان وكمنظمة حققت نجاحات كثيرة ضد اسرائيل، يتوقع أن يصمم على مواصلة الاطلاق الى داخل اسرائيل طالما استمر القتال في قطاع غزة. 

النجاح العملي والرد المنضبط نسبيا لحزب الله (حتى كتابة هذه السطور) يمكن أن يزيد شهية اسرائيل من اجل استغلال الانجازات حتى الآن لتعميق المس بكل “محور المقاومة” وحتى تحطيم مرفقه. يجب فحص هذه الرغبة، وفي نفس الوقت من المهم ذكر أن “التاريخ الامني لاسرائيل مليء بالنجاحات العملياتية التي خلقت الشعور بـ “الرغبة بالمزيد”، وفي الحالات الصعبة التوقف ومحاولة تجسيد الانجازات بوسائل سياسية من اجل الوصول الى وضع محسن لفترة طويلة. هكذا كان الامر بعد حرب الايام الستة، وبعد طرد ياسر عرفات ورجال منظمة التحرير من لبنان في ايلول 1982، وبدرجة اقل بكثير بعد عملية “وزن نوعي” في حرب لبنان الثانية.

يجب عدم نسيان أن المعركة هي ضد “محور المقاومة”، وهدفها الاستراتيجي هو خلق ثقل مضاد قوي، بدعم ناجع من الولايات المتحدة ضد “المحور”، وايران في مركزه. العملية في لبنان غير منفصلة عما تقوم به اسرائيل وما ستقوم به في قطاع غزة، وعن الجهد الشامل لاستغلال النجاحات العملياتية لاضعاف وكبح “المحور” لفترة طويلة جدا.

على فرض أن هزيمة عسكرية مطلقة لحزب الله ومحور المقاومة غير محتملة في الفترة الحالية، ومن خلال الاعتراف بأن البقاء الطويل في اراضي لبنان سيضر بالجيش الاسرائيلي والشرعية الدولية والداخلية لاسرائيل بسبب هذا البقاء، يجب السعي الى تسوية سياسية امام الولايات المتحدة والعالم وربما حتى أمام دولة لبنان، على اساس موقف قوة اسرائيل الحالية. هذا هو الخيار المفضل لاسرائيل. هذه الوثيقة تتناول بدائل لعملية برية في حالة أن هذا الوضع لن يكون قابل للتحقق في ظل الظروف المفضلة لاسرائيل وبقوة عمليات النار فقط. ويمكن تلخيص ذلك بالتوصية بأحدها كطريقة العمل المفضلة.

شروط ضرورية لكل اتفاق

من اجل اعادة الامن لسكان الشمال فانه يجب على اسرائيل التأكد من أنه في أي وضع، بواسطة تسوية أو بعملية عسكرية، ستتحقق الشروط التالية:

تدمير البنى التحتية الهجومية لحزب الله، وابعاده عن المنطقة الامنية، التي سيدمرها الجيش الاسرائيلي أو برقابة اسرائيل في غضون بضعة اسابيع. 

التواجد الدولي وراء الحدود سيتم تعزيزه بقوات من الدول الضامنة للاتفاق.

الحفاظ لاسرائيل على حرية عمل من اجل منع اعادة تسلح حزب الله بالقدرات التي تضررت، ومنع زحفه نحو الحدود كما حدث بعد حرب لبنان الثانية، خلافا لقرار مجلس الامن رقم 1701.

بدائل العملية البرية

فيما يلي سنذكر البدائل بالترتيب حسب الانجازات المطلوبة من اجل تحقيقها.

1- هزيمة حزب الله عسكريا بواسطة احتلال معظم دولة لبنان وتدمير البنى التحتية له والقضاء على معظم مقاتليه (بما يشبه ما نفذه الجيش في قطاع غزة).

2- احتلال المنطقة واقامة حزام امني ي جنوب لبنان بما يشبه الحزام الامني الذي اقيم في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. 

3- سلسلة من الاقتحامات البرية لمواقع حزب الله في جنوب لبنان من اجل تقليص قدرته وردعه.

4- احتلال المناطق التي تسيطر على خط الحدود وايجاد فضاء آمن للمستوطنات الاسرائيلية جنوب الحدود، ومنع الاطلاق المباشر بكل اشكاله وافشال امكانية اقتحام قوة الرضوان لهذه المستوطنات.

5- تعرية خط التماس من قدرة الاغارة لقوة الرضوان (بما يشبه الخيار الرابع، لكن على مساحة أصغر. وخلافا للخيار الرابع، عدم بقاء قوات الجيش الاسرائيلي بعد انتهاء المهمة والى حين تحقيق التسوية السياسية).

المعايير الثلاثة لتحليل البدائل

1- تحقيق هدف الحرب في الشمال – استخدام العملية البرية كأداة ضغط على حزب الله من اجل هزيمته عسكريا، أو من اجل تحقيق اتفاق 1701 محسن وقابل للتنفيذ، الذي يدفع حزب الله الى شمال نهر الليطاني ويزيل تهديد اطلاق النار بشكل مباشر واقتحام مستوطنات الشمال.

2- احتمالية تنفيذ البديل – القوى البشرية، حجم القوات والوسائل (ذخائر، قطع غيار ومنصات)، شرعية داخلية وخارجية لاسرائيل.

3- القدرة على تنفيذ البديل لفترة طويلة.

افتراضات عمل البدائل الموجودة لتفعيل القوات البرية في الجيش الاسرائيلي

1- الجيش الاسرائيل يوجد منذ سنة في حالة حرب. القوات البرية راكمت تجربة عملياتية كبيرة في قطاع غزة وفي الدفاع في الجبهة الشمالية ايضا.

2- مستوطنات الشمال فارغة من السكان والجيش الاسرائيلي مستعد وينتشر في حالة دفاع بحجم قوات، ثلاث فرق، ومنطقة جنوب لبنان فارغة تقريبا من نشطاء حزب الله في اعقاب الخوف من المس بهم.

هذه الحقائق الثلاث يمكن أن تخفف على الجيش الاسرائيلي الانتقال من حالة الدفاع الى الهجوم.

3- قيادة المنطقة الشمالية انتهت من اجراء قتالي طويل لعملية برية في لبنان، ويوجد لها خطة منظمة.

4- وحدات السلاح البري اجتازت في الاشهر الاخيرة تدريبات شاملة على العملية البرية في لبنان.

5- القوات البرية توجد لها قيود كثيرة. فالقوى البشرية في الجيش النظامي وفي الاحتياط تآكلت بعد سنة من الحرب، ونظام القوات البرية في الجيش الاسرائيلي محدود النطاق، ومخزون السلاح وقطع الغيار محدود ويعاني من فجوات كثيرة (ايضا ازاء الحصار الجزئي الذي فرض على اسرائيل والذي قد يتفاقم مع فقدان شرعية نشاطاتها الحالية في لبنان).

6- الشرعية الداخلية في اوساط المجتمع الاسرائيلي للعملية البرية في الشمال بعد سنة على حرب استنزاف، مرتفعة. مع ذلك، القدرة على تكبد خسائر كبيرة محدودة، بعد سنة من الحرب واكثر من 1500 قتيل. ايضا القتال بقوة زائدة في لبنان سيضاف الى مواصلة القتال في قطاع غزة والحرب المتزايدة ضد الارهاب في يهودا والسامرة.

7- الشرعية الدولية لاحتلال مناطق في لبنان لفترة طويلة، والتسبب بالتدمير وقتل المدنيين في لبنان نتيجة العملية البرية الاسرائيلية، اضافة الى الاستمرار في القصف لكل ارجاء لبنان، محدودة جدا مقارنة مع الحرب في قطاع غزة. خلافا للقطاع يوجد لدول كثيرة، التي دعمها حيوي بالنسبة لاسرائيل وعلى رأسها امريكا وفرنسا، مصلحة واضحة في الحفاظ على النظام في لبنان وتقليص المس بالمدنيين ومنع الفوضى في الدولة التي هي مضعضعة حتى الاساس. كل ذلك صحيح، لا سيما ازاء الانتخابات الرئاسية القريبة في امريكا، وشبكة العلاقات المتوترة اصلا بين الادارة التاركة (التي ستستمر ولايتها حتى شهر كانون الثاني 2025) وبين حكومة اسرائيل الحالية.

8- سكان الشمال لن يعودوا الى بيوتهم في ظل أي بديل لا يعمل على ازالة خطر اطلاق النار بشكل مباشر على المستوطنات، وتهديد الاقتحامات، واذا لم يكن لديهم شعور بالأمان في قدرة الجيش الاسرائيلي على حمايتهم من هذه التهديدات لفترة طويلة. أي تسوية سياسية ستستقبل بعدم الثقة، الامر الذي سيكون له مبرر على خلفية تجربة الماضي.

الاستنتاجات من فرضيات العمل

1- خلافا لقطاع غزة امام حماس فانه ليس للجيش الاسرائيلي القدرة على التسبب بهزيمة عسكرية لحزب الله من خلال احتلال منطقة واسعة في لبنان (مرورا ببيروت على الاقل)، والبقاء فيها لفترة طويلة، وهو الوضع الذي سيعمل على تآكل حتى النهاية ايضا الشرعية الدولية للعملية، ومع مرور الوقت سيضر ايضا بالشرعية الداخلية كما حدث في حرب لبنان الاولى وفي اعقابها.

2- في كل بديل، باستثناء الهزيمة العسكرية لحماس، لن يتم اعطاء رد كامل لتهديد المسيرات والمنظومات حادة المسار الموجهة للجبهة الداخلية في اسرائيل. التقليل من هذه التهديدات يتم بالتوازي مع عملية برية عن طريق الاستمرار في ضربات النيران، لكنه لن يزيلها. 

الانجاز المطلوب من العملية البرية، بناء على ذلك، هو ازالة واضحة – اعادة ثقة السكان بأنه يمكنهم العودة بأمان الى بيوتهم – لتهديدين. الاول هو تهديد الاقتحام البري لحزب الله. والثاني هو تهديد النار “القريبة” مستوية المسار والصواريخ المضادة للدروع.

تحليل البدائل

البديل الاول – الهزيمة العسكرية

في هذا البديل الجيش الاسرائيلي يجب عليه احتلال دولة لبنان بما يشبه خطة “اورانيم الكبيرة” في حرب لبنان الاولى، وتطهير اراضيه من البنى التحتية لحزب الله ومن نشطائه. ولأن حزب الله ينتشر في ارجاء لبنان، ويوجد له مراكز تبعد عشرات الكيلومترات عن الحدود، في بيروت وفي البقاع، فانه ستكون حاجة الى احتلال منطقة واسعة حتى مداخل بيروت على الاقل، والاحتفاظ بها لفترة طويلة. 

في كل ما يتعلق بتحقيق اهداف الحرب في الشمال فان هذه الخطة ستكون الاكثر نجاعة. اسرائيل ستقوم بازالة التهديد الاستراتيجي والتكتيكي لذراع ايران الاخطبوطي الاقوى، وسترمم الردع الذي تضرر في 7 اكتوبر، وسكان الشمال يمكنهم العودة الى بيوتهم بدون خوف.

في المقابل، لا توجد لهذه الخطة أي احتمالية من ناحية القوى البشرية وحجم قوات الجيش الاسرائيلي، الجيش النظامي والاحتياط. في حرب لبنان الاولى دخل الجيش الاسرائيلي الى لبنان بثماني فرق، المقارنة التاريخية غير دقيقة بالطبع ولكنها تمنح تناسب لحجم القوات المطلوبة. في هذه المرة الجيش الاسرائيلي سيحتاج الجيش الى تنفيذ المهمة في الوقت الذي ما زال يحتفظ فيه بقوات كبيرة في قطاع غزة (فرقتين على الاقل)، وفي يهودا والسامرة (في آذار 2024 تم ابقاء هناك على 23 كتيبة).

منظومة الجيش النظامي والاحتياط ستدخل الى العملية البرية بعد سنة قتال، قتل فيها اكثر من 700 جندي واصيب الآلاف بشكل يمنعهم من العودة الى الخدمة. رجال الاحتياط الذين سيتم استدعاءهم للخدمة خدموا فعليا عدة اشهر، حتى لو كان من غير الممكن التشكيك في دافعيتهم ازاء اهمية المهمة، لكن هناك شك كبير اذا كان يمكنهم مواصلتها لفترة طويلة (كما حدث ايضا في العام 1983).

اضافة الى ذلك، لا يوجد للجيش الاسرائيلي ما يكفي من الوسائل القتالية (منصات اطلاق، قطع غيار، ذخيرة) لشن حرب كهذه. الشرعية الدولية لهذه الحرب ستكون صفر. وضمن ذلك امكانية أن تقوم الادارة الامريكية الحالية التي تعيق الآن تزويد اسرائيل بالقنابل ثقيلة الوزن والاجهزة الدقيقة، بزيادة شدة الضغط في هذا المجال. ايضا في الداخل ستكون شرعية لعملية هزيمة كهذه في البداية، ولكن كلما مر الوقت ستزداد الخسائر وسيتولد شعور المراوحة في المكان، ايضا هذه الشرعية ستتلاشى بالتدريج كما حدث في حرب لبنان الاولى.

بناء على ذلك لا يوجد إلا الاستنتاج بأنه لا يوجد لاسرائيل وللجيش الاسرائيلي أي احتمالية حقيقية لتطبيق هذا البديل، ويجب شطبه من جدول الاعمال.

البديل الثاني – احتلال مناطق واقامة حزام امني في جنوب لبنان

هذا البديل توجد له مرحلتان. الاولى هي احتلال مناطق: عمق القطاع الذي سيتم احتلاله سيحدد بواسطة الاعتبارات التكتيكية والعملياتية. ولكن الحد الادنى المطلوب هو السيطرة على خط رؤية مباشر لمستوطنات الشمال، أو أن لديه امكانية اطلاق الصواريخ والقذائف المضادة للدروع نحوها – تطهير هذه المناطق من البنى التحتية لحزب الله ومن مخربيه.

المرحلة الثانية هي اقامة حزام امني بما يشبه المنطقة التي احتفظت بها اسرائيل في لبنان في التسعينيات. هنا يجب التذكر بأن هناك  فروقات مهمة بين ذلك الوقت والآن، الذي من شأن مفهوم “الحزام الامني” يمكن أن يضلل بالنسبة لهذه الفروقات.

معظم القوات في “الحزام الامني” في الاعوام 1985 – 2000 كانت من رجال جيش لبنان الجنوبي، مع تواجد محدود نسبيا لجنود الجيش الاسرائيلي. في الوقت الحالي جيش لبنان الجنوبي غير موجود، المهمة كلها ستكون للجيش الاسرائيلي، ومن اجل الاحتفاظ بالمنطقة على المدى المتوسط والبعيد سنكون بحاجة الى حجم كبير من القوات (على مستوى الفرق على الاقل) في موازاة تكثيف خط الدفاع عن الحدود الدولية اضافة الى الاحتياجات في جبهات اخرى.

الاهم من ذلك هو أن حزب الله قاتل في تلك السنوات ضد جيش لبنان الجنوبي والجيش الاسرائيلي في المنطقة الامنية نفسها، ولم يقم بفحص فاعلية القطاع بالنسبة للتسلل الى مستوطنات الجليل. هذه المرة الهدف الرئيسي لحزب الله هو التسلل من اجل اقتحام، حتى لو كان محدود في حجمه، مستوطنات الشمال لتقويض الشعور بالانجاز في اسرائيل واجبارها على استثمار المزيد من القوات في منطقة الحزام الامني، والغرق في “وحل لبنان” وهرب السكان مرة اخرى من بيوتهم التي عادوا اليها. هناك شك كبير اذا كان يمكن للقوات التي توجد في داخل الحزام الامني أن تمنع كليا هذه الامكانية. 

لذلك، رغم أن هذا الخيار سيعيد سكان الشمال الى بيوتهم (إلا أنه لن يقدم أي رد على تهديد المنظومات حادة المسار والمسيرات التي يتم اطلاقها من العمق اللبناني)،  إلا أنه غير قابل للتطبيق.

يجب ايضا زيادة مناقشة الافكار التي تسمع حول الاستيطان الاسرائيلي في جنوب لبنان. هذه العملية ستكون مدمرة بالنسبة لاسرائيل وستقرب بشكل كبير تدهورها الى مكانة “دولة مجذومة”. بناء على ذلك فان هذا الخيار لا توجد له أي امكانية، أو منطق داخلي، وبالتالي يجب عدم مناقشته.

البديل الثالث – سلسلة اقتحامات برية

حسب هذا البديل فان الجيش الاسرائيلي سيقوم بتنفيذ عدة اقتحامات لمنشآت حزب الله في المنطقة جنوب نهر الليطاني لتدمير البنى التحتية لحزب الله والقضاء على نشطائه، وبعد عملية مركزة سينسحب ويعود الى اسرائيل. هذه الاقتحامات يمكن أن تكون ايضا بحجم كبير نسبيا للقوات، مثل عملية “المرجل 4 موسعة” في ايلول 1972، التي شارك فيها اثنين من الوية المشاة، غولاني والمظليين، ولواء مدرع “براك”، وقوات هندسة ومدفعية. ولكن في كل الحالات هذه القوات لن تبقى في المنطقة، بل هي ستكمل المهمة وستخرج منها.

هذا البديل يمتنع عن الاضرار بعيد المدى للشرعية، وتآكل القوة التي تنطوي على البدائل الاخرى، لكن توجد له ايضا قيود. الاقتحام، مثلما شاهد ذلك الجيش الاسرائيلي في القطاع، يوجد له انجاز محدود، حيث أنه بعد انسحاب القوات يقوم العدو بترميم بنيته التحتية. ايضا مشكوك فيه أن يكون في الاقتحام ما يمكنه أن يعيد للسكان الشعور بالأمان المطلوب من اجل العودة الى بيوتهم. حزب الله سيرد بالتأكيد باطلاق النار، الذي بحد ذاته سيستأنف المطالبة بتنفيذ عمليات اوسع.

رغم أنه يوجد لهذا البديل احتمالية بمعاني القوى البشرية وحجم القوات والسلاح والشرعية، إلا أنه لن يحقق الانجاز المطلوب. 

البديل الرابع – احتلال المناطق المسيطرة على الحدود وخلق فضاء آمن

الجيش الاسرائيلي اطلق في السابق على خطة احتلال المناطق المسيطرة على الحدود اسم “جلوس صحيح”. حسب هذه الخطة الجيش الاسرائيلي سيقوم باحتلال المناطق المسيطرة شمال الحدود الدولية (“جلوس صحيح” موسع لأن قدرات حزب الله الآن تقتضي احتلال منطقة اوسع من التي خطط لها في فرقة الجليل قبل حرب لبنان الثانية)، وسيدمر في هذه المنطقة البنى التحتية لحزب الله ويقضي على رجاله، وسيعمل في المنطقة كفضاء حماية لفضاء الاحتفاظ بالدفاع، الفضاء الذي تنتشر فيه المستوطنات الاسرائيلية. هذه الخطة ستحل للجيش الاسرائيلي المعضلة الاكبر له في الدفاع عن مستوطنات الشمال – غياب عمق للدفاع ازاء تموضع المستوطنات على خط الحدود. المعايير لعرض الحزام الذي سيتم احتلاله تم تفصيلها في البند السابق. 

هذا البديل سيزيل تهديد الاقتحام والاطلاق المباشر للنار على المستوطنات الاسرائيلية، رغم أنه لن يزيل تهديد المنظومات حادة الانحدار والمسيرات إلا أنه يمكن من عودة السكان الى بيوتهم. اذا دمج هذا البديل أي تهديد فعلي لتدمير القرى الشيعية في المنطقة (19 قرية)، وتهديد قابل للتطبيق بأنه لن يتم اعادة ترميمها، فربما يشكل اداة ضغط على حزب الله من اجل التوصل الى تسوية.

هذا البديل توجد له احتمالية من جهة استخدام منظومة القوات لفترة محدودة، والسلاح والشرعية الداخلية والدولية، حتى لو كانت هذه الشرعية ستتلاشى اذا كان هناك شعور بأن اسرائيل تنوي البقاء في المنطقة لفترة طويلة. لكل هذه الاسباب يجب السعي الى عملية سياسية تؤدي الى تسوية، يطلق عليها “1701 محسنة”، أي ابعاد نشطاء حزب الله وبنيته التحتية الى شمال نهر الليطاني، ادخال قوة دولية قوية مثل قوات امريكية وفرنسية الى المنطقة، ووقف الحرب في منطقة الشمال.

اذا لم تنجح العملية السياسية فانه يجب الحذر من خلق غير متعمد لـ “حزام امني” مع كل عيوبه، والاستعداد لتواجد صحيح في المنطقة – حد ادنى من الاهداف لعمليات العصابات ونيران مضادة لحزب الله وسياسة نيران وعمل واسع من اجل منع اعادة اقامة بنى تحتية ارهابية. خلافا للسنوات التي سبقت الحرب، يجب أن تكون هذه السياسة حازمة وثابتة من اجل منع ظاهرة “الزحف نحو الحدود”، وزيادة القوة غير المسبوقة لحزب الله في الـ 15 سنة الاخيرة.

البديل الخامس – كشف خط التماس

حسب هذا البديل فان الجيش الاسرائيلي سيعمل من الجهة الثانية لخط الحدود من اجل تدمير البنى التحتية لقوة الرضوان التي توجد في مناطق معقدة قرب الحدود. هذا البديل لن يزيل تهديد النار المباشرة لحزب الله. لذلك، حتى لو كان قابل للتنفيذ بالنسبة للجيش الاسرائيلي والحكومة الاسرائيلية، إلا أنه غير ذي صلة.

الخلاصة

الوضع الذي تطور في الشمال في سنة الحرب الاخيرة أدى الى فشل استراتيجي غير مسبوق في تاريخ اسرائيل، رغم النجاحات التكتيكية لقيادة المنطقة الشمالية في الحرب الدفاعية. اسرائيل فقدت منطقة كاملة من البلاد، التي اصبح سكانها لاجئون في دولتهم. من اجل تغيير الواقع الصعب اضافت اسرائيل هدف جديد للحرب الى الاهداف الخمسة الاصلية، اعادة سكان الشمال الى بيوتهم بأمان. ومن اجل تحقيق هذا الهدف فقد غيرت اسرائيل المعادلة القائمة امام حزب الله، عندما اخرجت الى حيز التنفيذ خطة “اللكمات”. مع ذلك، ربما أنه حتى لكمات النار لن تجعل حزب الله يوقف حرب الاستنزاف، التي الشرط لوقفها هو وقف القتال في قطاع غزة.

اسرائيل يجب عليها الاستعداد للوقت الذي فيه النار ستكون اقل نجاعة، وعندها الانتقال الى العملية البرية في موازاة استمرار تفعيل النيران. العملية البرية توجد لها ستة بدائل. بعضها قابل للتنفيذ وبعضها لا. بعضها يمكن أن يحقق الهدف والبعض لا. بالنسبة لكل بديل اسرائيل تدفع ثمن تقليص واهمال الجيش البري خلال سنوات. اضافة الى ذلك تجري في قطاع غزة حرب طويلة بدون حساب للموارد: الوقت والانسان والسلاح. 

البديل الافضل، الذي ربما سيؤدي الى تغيير الواقع الاستراتيجي في الشمال وسيردع حزب الله ويكون قابل للتنفيذ، هو خلق حزام امني شمال الحدود وتدمير البنى التحتية لحزب الله والقضاء على نشطائه. هذه الخطة ستزيل تهديد اقتحامات قوة الرضوان، اضافة الى تهديد النار المباشر على مستوطنات الشمال. وفقا لذلك فان سكان الشمال سيعودون الى بيوتهم رغم النقص في الخطة، غياب القدرة على ازالة تهديد المسيرات بشكل كامل، واطلاق النار حادة الانحدار.

يجب التأكيد على أنه من اجل التوصل الى الشرعية الدولية لهذه العملية ومنع تآكل الجيش الاسرائيلي والتدهور غير المخطط له الى “الحزام الامني” لفترة طويلة، يجب أن يرافق الجهد العسكري السعي الى تسوية سياسية تستكمله، التي ستغير الوضع في جنوب لبنان من اساسه مقارنة مع 8 تشرين الاول، وتمكن من عودة سكان الشمال الى بيوتهم. هذه التسوية بظروف موثوقة والاستعداد المناسب لليوم التالي، قد يؤدي ذلك الى الامتناع عن القيام بعملية برية، لكن الوقت اللازم لتحقيق ذلك بدون هذه العملية هو محدود جدا.

في كل الحالات، بعد استقرار الوضع والعودة الى وضع الدفاع، يجب تطبيق بحزم سياسة عمل واضحة، تمنع التدهور بالتدريج لحزب الله نحو الجنوب واستئناف التهديد وفقدان الردع المتجدد.

——————انتهت النشرة——————