المسار : يؤكد المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) أن التصريحات الإسرائيلية التي تؤطّر إجراءات الاحتلال والتهجير للمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، منذ قرابة عام، ترد ضمن مسوغات “ضرورة أمنية- عسكرية”، غير أن الهدف الإستراتيجي غير المعلن يتمثّل في إعادة هندسة الحيّز الفلسطيني بما يتناسب مع “المفهوم/التصور” الإسرائيلي الجديد لواقع الضفة الغربية بعد 7 أكتوبر 2023، وما أنتجه من تحولات في علاقة إسرائيل- المسألة الفلسطينية.
دراسات إسرائيلية: استمرار وجود الأونروا، والمخيمات الفلسطينية بشكلها الحالي، بعد مرور أكثر من 75 عامًا على النكبة والتطهير العرقي، يبقي على سردية حقّ العودة حيّة
ويقول إنه في 27 نوفمبر الحالي، أصدر قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال آفي بلوط قرارًا بهدم 24 منزلاً في مخيم جنين، الذي يُنفّذ فيه الجيش عملية عسكرية مستمرة منذ مطلع العام الحالي، يُضاف هذا الإجراء إلى سلسلة طويلة ومستمرّة من عمليات الهدم التي يُنفّذها الجيش لأحياء المخيم بشكلٍ كامل، وذلك بعد أن تم إفراغ المخيم بشكلٍ كامل وتهجير سكّانه إلى المناطق المحيطة به منذ بداية العملية العسكرية الواسعة (“الجدار الحديدي”- يناير 2025).
في هذا التقرير يركّز “مدار” على البعد السياسي للهدم الذي تشهده مخيمات شمال الضفة الغربية: جنين، طولكرم ونور شمس، باعتبارها عملية تدمير ومحو ممنهجة تتجاوز الأهداف “العسكرية- الأمنية” الإسرائيلية المُعلنة، وفهمها في ضوء “التصوّر” الجديد لمستقبل الضفة الغربية من وجهة نظر إسرائيل، وذلك بالاستناد إلى المصادر الإسرائيلية.
منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شرع الاحتلال في تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق طالت مخيمات شمال الضفة الغربية على وجه التحديد: جنين وطولكرم ونور شمس، فعّلت خلالها العديد من الأساليب التي استُخدمت خلال الانتفاضة الثانية: هدم واسع للمنازل والأحياء، تدمير البنية التحتية، بالإضافة إلى استمرار تهجير قرابة 50 ألف فلسطيني من هذه المخيمات نتيجة العمليات العسكرية المستمرّة. ويشير التقرير للهدف الحقيقي للاحتلال هنا: “تُشير إعلانات الهدم الجماعي المستمرّة للمخيمات إلى وجود أبعاد سياسية وأهداف أبعد من تلك التي أعلنتها الجهات الرسمية منذ بدء العملية، والتي تمحورت حول “الضرورات العسكرية والأمنية” والقضاء على الخلايا المسلحة للفصائل الفلسطينية، وتمسّ بشكل جوهري المخيم كحيّز مكاني ورمزي وإحالاته في سردية الصراع: النكبة، المقاومة والعودة، بما في ذلك دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين- الأونروا، وهو ما تسعى إسرائيل لتحقيقه مستفيدةً من الظروف الناشئة منذ بدء حرب الإبادة.
إعادة هندسة المخيم
فور انتهاء الاحتلال من تهجير سكّان المخيمات، التي تضمّنت اشتباكات مع المقاومين وعمليات تمشيط وملاحقة واغتيالات، انتقل الجيش إلى الجانب الهندسي والتخطيطي، حيث تم الكشف عن مخطط منهجي لتحويل المخيمات إلى أحياء عادية داخل المدن، وبموجبه، سيتم منع إعادة بناء أي منزل أو حيّ تم تدميره خلال العملية، والإبقاء على الطرق مفتوحة وعدم السماح بإعادة تضييقها مستقبلاً.
وبالتزامن مع عمليات الهدم، أقام الجيش الإسرائيلي وسائل مراقبة وتحكّم دائمة داخل المناطق المدمّرة وفي محيطها، وهي خطوة غير مسبوقة منذ عقود، تضمّنت إقامة أبراج مراقبة ومنظومة كاميرات وحراسات جديدة في محيط مخيم جنين مثلاً.
من ناحية، يؤشّر إبقاء القوات العسكرية داخل المخيم طيلة هذه الفترة، بالتزامن مع عمليات الهدم، وإقامة أنظمة المراقبة، إلى نية إسرائيلية للبقاء مستقبلاً في نقاط عسكرية ثابتة.
من ناحية ثانية، يُشير لجوء الجيش إلى تدمير أي إصلاح يتم تنفيذه من قِبَل الجهات التابعة للسلطة في المناطق القريبة من المخيمات إلى رغبة إسرائيل في إبقائها في حالة شلل وعزلة إلى حين فرض “الواقع الهندسي الجديد”.
القضاء على حقّ العودة
تُشير الإجراءات العسكرية الإسرائيلية، بما فيها عمليات الهدم وإعادة هندسة الفضاء والحيّز المكاني للمخيمات شمال الضفة الغربية، وبالنظر إلى عمليات المحو التي شهدتها مخيمات قطاع غزة، إلى أن الأبعاد “الأمنية- العسكرية” لا تنفصل عن الأهداف السياسية المتمثّلة بالقضاء على فكرة حقّ العودة، وقد أعدّت معاهد بحث وتفكير إسرائيلية فاعلة في صوغ التصورات الإسرائيلية لمستقبل القضية الفلسطينية (“منتدى كوهيلت” على سبيل المثال) دراسات عديدة ناقشت فيها المسألة من تصور مفاده أن استمرار وجود الأونروا، والمخيمات الفلسطينية بشكلها الحالي، بعد مرور أكثر من 75 عامًا على النكبة والتطهير العرقي، يبقي على سردية حقّ العودة حيّة في الوعي الجمعي الفلسطيني والدولي، ويمنح الفلسطينيين ورقة ضغط سياسية وأخلاقية ضد إسرائيل، وهذه بمثابة “مفارقة خطرة” تستغلها القيادة السياسية الفلسطينية للإبقاء على مطلب العودة ورفض تسوية الصراع مع إسرائيل.
ويخلص “مدار” للقول إنه بالاستناد إلى هذا التوجّه، وهو مركزي في الخطاب الإسرائيلي الحالي، ظهرت مطالب “حسم هذه القضية” واستغلال الواقع الميداني وحرب الإبادة على غزة، حيث بدأ الخطاب الرسمي وغير الرسمي في إسرائيل يُلمّح إلى أن إعادة سكان هذه المخيمات لن تتم إلا بشروط جوهرية:
المسعى الإسرائيلي الإستراتيجي يرمي إلى تفكيك المخيم فعليًا، ليس على مستوى الحيّز المكاني فقط، وإنما على المستوى الرمزي والسياسي
أولاً؛ اشتراط عدم عودة خدمات الأونروا للمخيمات.
ثانيًا؛ تغيير تسمية المخيمات بوصفها محطّات لجوء واستبدال ذلك بدمجها إداريًا كأحياء ضمن البلديات المحيطة.
ثالثًا؛ استنساخ نموذج التهجير في قطاع غزة، حيث اشتراط إجراء “فحص أمني دقيق” لكل من سيُسمح له بالعودة.
رابعًا؛ أشارت بعض التسريبات الإعلامية إلى أن خطة إسرائيل ما بعد الهدم تتضمّن أيضًا “خارطة طريق لمرحلة ما بعد”- تتضمّن تصورًا هندسيًا تخطيطيًا جديدًا تلتزم به السلطة الفلسطينية يقوم على شوارع واسعة بدل الأزقة القديمة ومنع العودة إلى البيوت المهدّمة نهائيًا.
خامسًا؛ مطالبة السلطة بالعمل على “إعادة توطين” قرابة 50% من سكّان المخيم خارجه بشكلٍ دائم، في إطار مساعي خفض الكثافة السكّانية التي كانت قائمة في السابق.
ويؤكد التقرير أن هذه الشروط والمطالب تُشير بشكلٍ واضح إلى أن المسعى الإسرائيلي الإستراتيجي تفكيك المخيم فعليًا، ليس على مستوى الحيّز المكاني فقط، وإنما على المستوى الرمزي والسياسي وما يتضمّنه من إحالات وطنية سياسية مرتبطة بفكرة اللجوء وحقّ العودة، حيث اعتبرت جهات إسرائيلية أن تطبيق ذلك في جنين وطولكرم “سيُعد “نموذجاً” مستقبليًا لإلغاء حقّ العودة بشكلٍ رمزي على الأقل.

