المسار : تتحدث تقارير المنظمات الدولية والجهات الحكومية عن تفشي المجاعة والأوبئة في السودان، بينما تنعدم أي إشارة جادة إلى الأمراض النفسية والعقلية.
توقفت المستشفيات القليلة المتخصصة بالأمراض النفسية والعقلية في السودان عن العمل، والبالغ عددها ثلاثة فقط، اثنان منها في العاصمة الخرطوم، وجرى الاستعاضة عنها بمراكز صغيرة تقدم خدمات طبية محدودة لآلاف المرضى، في حين تكشف الأرقام الرسمية أن البلد الذي يبلغ عدد سكانه نحو 48 مليون نسمة بات يضم 12 طبيباً نفسياً فقط.
ولم يكن قطاع الطب النفسي في السودان يعمل بكفاءة قبل الحرب، بل كان يواجه تحديات جمة تشمل نقص الكوادر، وتردي المستشفيات الحكومية الثلاثة، والتي كان يتلقى العلاج فيها قبل الحرب وفقاً لإحصائية رسمية 58,765 مريضاً، جميعهم انقطعوا قسراً عن العلاج.
وتفشت الأمراض النفسية والعصبية بصورة لافتة بين المدنيين خلال الحرب، بينما لا تتوفر إحصائية رسمية لعدد المرضى في الوقت الحالي بسبب عجز الجهات الحكومية عن القيام بذلك نتيجة ضعف الإمكانات المادية ونقص الكوادر البشرية وتوقف المستشفيات الحكومية.
وتقول اختصاصية العلاج النفسي، أمل التيجاني سالم،”ارتفعت أعداد المصابين بالصدمات النفسية واضطراب ما بعد الصدمة والقلق، والمئات يعانون من نوبات الهلع، ومن الاكتئاب. حدثت تغيرات عميقة في مؤشرات الصحة النفسية نتيجة الحرب، وزادت حالات اضطراب ما بعد الصدمة، وأصبح لدى كثير من المرضى نوع من الإرهاق النفسي المزمن، وهى أعراض ناتجة من عيش فترات طويلة من الخوف وفقدان الأمان في ظل الحرب الدائرة وسط الأحياء السكنية، وداخل المناطق المأهولة بالسكان، كما ظهرت أنماط نفسية مختلفة تحتاج إلى تدخلات طبية مستمرة، ودعم مجتمعي واسع”.
يعاني آلاف السودانيين من نوبات هلع واضطراب ما بعد الصدمة، بينما لا تتوفر إحصائيات رسمية محدثة لأعداد المصابين بالأمراض النفسية
في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، قال وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم، إن أوضاع الصحة النفسية تتطلب تدخلات عاجلة، مشيراً إلى أن تزايد معدلات الإصابة يستدعي توفير خدمات تسهم في الكشف المبكر وتسهيل العلاج، ووضع رؤية شاملة للصحة النفسية، وتخصيص ميزانيات كافية لتوفير خدمات الرعاية الصحية الأساسية، وتدريب الكوادر لسد الفجوة في عدد الأطباء النفسيين.
وأوضح الوزير أن مسحاً أجري بواسطة المجلس الاستشاري للطب النفسي التابع للوزارة، وشمل ست ولايات هي الخرطوم، ونهر النيل، والجزيرة، والقضارف، وكسلا، وبورتسودان، كشف عن تدهور كبير في مراكز العلاج النفسي المتوقفة منذ بدء الحرب، وأن مركزاً حكومياً وحيداً يعمل في بورتسودان.
حرم المريض حيدر أحمد (56 سنة) من العلاج طوال العامين الماضيين، ما أصابه بانتكاسة حادة جعلته في كثير من الأوقات لا يسيطر على أفعاله الشخصية. ويصف شقيقه إبراهيم ظروفه المرضية القاسية قائلاً لـ”العربي الجديد”: “قبل الحرب بأشهر قليلة، شُخصت حالة حيدر باعتبارها اكتئاب غير حاد، وشرع في العلاج، لكن اندلاع الحرب وإغلاق المستشفيات عرضاه لانتكاسة حادة، وبات يعاني في أوقات مختلفة من فقدان الوعي، ومحاولة الانتحار، كما حاول الهرب من المنزل أكثر من مرة”. ويتابع: “تدهورت صحته بشدة بعد تصاعد المعارك في مدينة أم درمان، ليُصاب بحالات من الهلع والاضطراب، ويمتنع عن الأكل والشراب، وفي النهاية اضطررنا إلى نقله عبر طُرق التهريب إلى مصر لتلقي العلاج، نتيجة صعوبة الحصول على تأشيرة الدخول”.
نزحت أسرة المواطنة هدى عبد الرحيم (27 سنة) من ولاية النيل الأبيض إلى مدينة سواكن على البحر الأحمر، بعد أن تعرضت إلى صدمة قاسية من هول الحرب، والتي أجبرتهم على العيش في مراكز إيواء غير مؤهلة. يقول والدها “شخص الأطباء حالتها على أنها ارتفاع شديد في كهرباء الدماغ، ما جعلها عرضة لنوبات من الصرع، وحاولت إيذاء نفسها عدة مرات، ولعدم وجود اختصاصي، نقلناها إلى مصر عبر الطريق البري، رغم أنها كانت حامل في شهرها السادس”.
بدوره، يصف عبد الله جودة الظروف الصحية التي عاشها ابنه (27 سنة) في إحدى قرى ولاية شمال كردفان، والذي تدهورت صحته النفسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. ويقول “لا مرافق للصحة النفسية في إقليم كردفان الذي يتكون من ثلاث ولايات، ما دفعني للانتقال بابني إلى بورتسودان، وفيها مركز حكومي لعلاج الأمراض النفسية والعصبية، لكني عدت في النهاية به إلى القرية لأن العلاج يتطلب الانتظام لسنوات، بينما لا أملك المال اللازم لذلك.
من جانبها، تقول رئيسة قسم الصحة النفسية بوزارة الصحة في ولاية الخرطوم، ناهد عبد الرحمن، “حالات الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية شهدت ارتفاعاً كبيراً، ويمكن رصد ذلك من خلال عدد المرضى الذين يترددون على المراكز الصغيرة التي تعمل بدلاً عن المستشفيات التي لم تعاود فتح أبوابها بعد، وغالبية الأمراض المتفشية تتمثل في الاكتئاب، والصدمة، والعزلة. الكثير من المرضى تعرضوا لصدمات قاسية، مثل وقوع انتهاكات قاسية، أو مقتل أفراد من أسرهم بصورة مأساوية أمام أعينهم”.
وفي مقابل الزيادة المطردة في أعداد المرضى، لا تتوفر مستشفيات تستقبل الحالات الحرجة التي تحتاج إلى تنويم تحت الإشراف الطبي، ما يحرم الآلاف من الخدمات الطبية. وتقول رئيسة قسم الصحة النفسية بولاية الخرطوم: “تتوفر حالياً عيادات صغيرة تتم فيها مقابلة الطبيب الذي يقدم الاستشارة مهما كانت الحالة، وفي النهاية يذهب المريض إلى منزل أسرته. إلى جانب تعدد الحالات الجديدة، هناك الكثير من المرضى الذين لم يتمكنوا خلال الحرب من مواصلة العلاج بسبب توقف المستشفيات، أو انعدام العلاج، وهؤلاء يحتاجون حالياً إلى العودة إلى برامج العلاج مجدداً. استشاريو الأمراض النفسية والعصبية الذين كان عددهم نحو 22 على مستوى ولاية الخرطوم، حصل معظمهم على إجازات من دون راتب، وغالبيتهم يعملون حالياً خارج السودان، ولم يتبق لدينا سوى ستة أطباء في الوقت الحالي”.
بدورها، تقول استشارية الأمراض النفسية والعصبية مدير مستشفى التيجاني الماحي (حكومي)، مي محمد يوسف: “يشير الواقع إلى ارتفاع كبير في أعداد المصابين بالأمراض النفسية والعصبية خلال الحرب، والتي أدت إلى زيادة ملحوظة في أمراض مثل الفصام، والاكتئاب المزمن، والاضطراب الوجداني ثنائي القطب، وظهور أمراض جديدة لم تكن منتشرة بين السودانيين، مثل ألزهايمر، والاكتئاب، واضطرابات النوم، والرهاب الاجتماعي أو الفوبيا”.
وتضيف يوسف: “نلاحظ مختلف أنواع أمراض الصدمة، والتي تسببها غالباً السلوكيات والانتهاكات العنيفة التي تقع على الضحايا وذويهم، مثل حالات الاغتصاب التي تعرضت لها النساء أمام أسرهن، والتي تقود إلى أحد أعنف الصدمات النفسية. كان المستشفى الذي أديره مرجعياً في الأمراض النفسية والعصبية، لكنه دمر خلال الحرب، ولم يعاد تأهيله بصورة رسمية، لكن حجم التردد اليومي على العيادات المحدودة التي بدأت تعمل في جانب منه منذ أغسطس/آب الماضي، تُبيِّن أن أعداد المرضى في تزايد غير مسبوق، إذ بلغ عدد المراجعين في شهر أغسطس وحده 295 مريضاً، وفي سبتمبر/أيلول الماضي 375 مريضاً، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 685 مريضاً”.
ويصف استشاري الأمراض النفسية والعصبية السوداني، مجدي إسحق، تأثيراب الحرب على الصحة النفسية للسودانيين بأنها كارثية. ويقول لـ”العربي الجديد”: “تنتشر الكثير من الأمراض النفسية بين المدنيين، وفي مقدمتها أمراض مثل القلق، والخوف، واضطرابات الصدمة بأنواعها، مع زيادة حالات الإدمان نتيجة الخوف والحزن والتوتر، وفقدان الأمل في المستقبل”.
ويضيف الطبيب إسحق: “لو رصدنا حالات الانتكاسة التي نتجت من توقف العلاج خلال أشهر الحرب، لوجدنا أن الأرقام مخيفة، وتعكس الواقع المزري، بخاصة أن هناك أمراضاً ذهانية تحتاج إلى الرعاية الدائمة، وهؤلاء حدثت لهم انتكاسات كبيرة بسبب نقص الرعاية الطبية. كان قطاع الصحة النفسية في السودان يعاني من تدهور كبير خلال السنوات التي سبقت الحرب، ثم جاءت الحرب لتؤدي إلى انهياره الكامل”.

