الكاتب : سليمان أبو ارشيد
المسار: يلاحظ العديد من الباحثين والمهتمين في الشأن الإسرائيلي أن الدولة اليهودية تغير وجهها، وأن هذا التغيير هو نتيجة تحولات عميقة طرأت على بنية المجتمع الإسرائيلي وتركيبته الاجتماعية والديموغرافية، تميزت بصعود شأن فئات الشرقيين والحريديين وجماعات الصهيونية الدينية مقابل تراجع قوة ذوي الأصول الأوروبية من “الأشكناز” الذين كانوا قد أسسوا الدولة وأرسوا قيمها الليبرالية وهم يصارعون اليوم دون طائل من أجل الحفاظ على هذا الطابع.
وإن بدا أن هجمات السابع من أكتوبر وما أعقبه من حرب متعددة الجبهات دامت أكثر من سنتين وشملت عملية إبادة جماعية ما زالت متواصلة في غزة، قد شكل أبرز أبطالها الطيارين الذين كانوا قد هددوا، خلال أحداث ما سميت بـ”الثورة القضائية” بالامتناع عن الخدمة العسكرية احتجاجا، أن هذه الحرب وتلك الهجمات قد رأبت هذا الصدع الإسرائيلي العميق فإن نجاح حكومة اليمين التي تتشكل من هذه الفئات سالفة الذكر في توظيف نتائجها (الهجمات والحرب) لصالح تعزيز هذه التحولات والانقلاب على مؤسسات الدولة العميقة، يكشف ليس فقط عن عمق الأزمة بل عن وجهة إسرائيل مستقبلا أيضا.
في هذا السياق تندرج نتائج استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية الذي كشف أن 39% من اليهود العلمانيين عموما يفكرون بالهجرة من إسرائيل، في حين تنخفض هذه النسبة بين العلمانيين من صفوف اليمين إلى 34% فقط، وقد أدرج الجمهور الإسرائيلي الوضع الأمني (65%) وعدم الثقة بالمنظومة السياسية (57%) كأسباب شرعية للهجرة من إسرائيل.
وعلى أرض الواقع كشفت معطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، أن سنة 2024 سجلت ميزان هجرة سلبيا بين الأكاديميين بشكل خاص، حيث بلغ عدد الأكاديميين ممن يحملون اللقب الأول فما فوق، الذين انتقلوا للسكن خارج البلاد أكثر من عدد الذين عادوا إلى البلاد، وأشارت النتائج إلى أن المهاجرين هم من فئة الشباب المتعلمين وينحدرون من مدن ومستوطنات غنية خاصة من مناطق الشارون وتل أبيب.
المعطيات التي ميزت فترة الحرب و”الانقلاب القضائي” تعكس بالأصل توجها آخذ في الازدياد، وتبين أن 25% من حملة شهادة الدكتوراة في الرياضيات وقرابة 20% من أصحاب اللقب الثالث في علوم الحاسوب، وبين 14-20% من سائر المواضيع العلمية المختلفة ممن أنهوا دراسة البوست دكتوراة يعيشون اليوم في الخارج، وأن هذا التوجه قد تصاعد بعد عام 2023.
بالمقابل فإن تفحص معطيات أخرى متعلقة بالاستيطان جرى تناولها في الإعلام الإسرائيلي مؤخرا، تشير إلى أن نسبة اليهود الحريديين من مجموع المستوطنين في الضفة الغربية ما عدا القدس وصلت مع نهاية أيلول/ سبتمبر من السنة الحالية 38%، وبالأرقام 197,397 مستوطنا من مجموع 517,319 مستوطنا، وهم يشكلون ما يقارب الـ20% من الحريديين في إسرائيل والذين يتمثلون بـ18 عضوا في الكنيست.
وإذا كان الحريديون يمثلون المحرك الديموغرافي الرئيسي للاستيطان حيث يشكلون مع القدس ما يقارب من نصف نادته البشرية، فإنهم مع تيار الصهيونية العقائدي المتشدد الذي يعتبر عماد الاستيطان الأساسي ويشكل 35% من المستوطنين ويتمثل بـ14 عضوا في الكنيست، يؤلفون معا الغالبية العددية للمستوطنين، بينما تعتبر أحزابهم الأربعة بمثابة الأركان الرئيسية التي تقوم عليها حكومة نتنياهو زعيم حزب الليكود الذي تتنازعه الانتماءات الشرقية والنزعات الدينية الاستيطانية بعد أن فقد طابعه التاريخي كيمين ليبرالي.
من هنا فإن انتصار التحالف سالف الذكر المؤلف من الشرقيين والحريديين وجماعات الصهيونية الدينية والذي أفرزته التحولات الديموغرافية الحاصلة في إسرائيل، من شأنه أن يغير طابع ووجه إسرائيل ويصبغها باللون الديني الأصولي الأمر الذي يدفع بالعلمانيين والليبراليين ليس إلى الهامش فقط بل إلى الخارج أيضا.
المصدر: عرب 48

