مفكر إيطالي ينتقد موقف حكومته من الحرب على غزة

كان الإيطاليون يمضون عطلة نهاية أسبوع طويلة بدأت بعيد التحرر الموافق للـ25 من أبريل/نيسان وامتدت 4 أيام استغلها الكثيرون للسفر والاستجمام في منتجعات الشمال أو على شواطئ الجنوب من أجل الترحيب بربيع أتى ممطرا هذه السنة. في هذه الأثناء، كان كًتاب إيطاليا ينزلون ضيوف شرف على معرض تونس الدولي للكتاب، لكنني لم أكن أتابع تفاصيل الدورة.

عدّلتُ لابني الصغير الحفاظة العازلة للماء قبل أن ألقيه في حوض السباحة لأبيه، واستلقيت أتأمل من وراء الزجاج جبال الألب التي لا تزال قممها مكسوة بالثلوج.

ـ أنا أيضا لدي طفلان ولكنني لم أعد أصطحبهما معي في العطل.

ـ تركتِهما مع الجدة؟ (سألتُ مداعبة)

ـ أحدهما عمره 32 والآخر 27.

ـ لم أكن لأخمن سوى أنك في الأربعين! أطريتُ عليها بصدق

ابتسمت لمجاراتي فخرها الواضح بجمالها، وقامت للسباحة.

ـ أتمنى أن يكون الماء دافئا بما فيه الكفاية..

بادلتها ابتسامة حقيقية، وتناولت هاتفي. وبالرغم من أنني لا أقرأ الرسائل غير المستعجلة أيام العطل إلا أنني فتحت الفيديو الذي وصلني بفضول: “إيطاليا فاشية..” كتمتُ الصوت على نحو غريزي ونظرت من حولي. لم تكن تلك الكلمات بحاجة إلى ترجمة. أعدت مشاهدة الفيديو وتأملت تفاصيله. كانت تلك هي صورة مارتشيللو فينيتسياني في الخلفية. نقرت كلمات سريعة على محرك البحث، وتأكدت: محتجون على الحرب في غزة يقطعون تقديم كتاب مبرمج في المعرض الدولي للكتاب بتونس ضمن فعاليات الوفد الإيطالي بمشاركة وزير الثقافة، مما أدى لإلغاء الندوة وانسحاب المشاركين.

فكرت أن أتصل بفرانتشيسكو بورغونوفو، نائب مدير صحيفة “لافيريتا” حتى يجس لي نبض فينيتسياني ويرى إن كان يرغب في التكلم عما حدث، خصوصا أن تعليقه على الواقعة في صفحاته على مواقع التواصل حمل الكثير من المرارة. قلّبتُ المسألة في ذهني وقررت أن أؤجل المسألة وأعود للعائلة.

بعدها كتبتُ مباشرة لفينيتسياني وهو الذي طالما مثّل بالنسبة لي وجها “عائليا”. والواقع أن فينيتسياني يشبه خالي، بل فولة وانقسمت لنصفين، وخالي بالمناسبة دكتور في الصيدلة نصفه سوري وربعه جزائري وربعه الآخر تركي. خلطة من شرق وجنوب المتوسط أنتجت التوأم المسلم لفينيتسياني الإيطالي الكاثوليكي اليميني والذي يعد واحدا من بين أبرز كتاب ومفكري إيطاليا المعاصرين.

ولد فينيتسياني جنوب إيطاليا في إقليم بوليا المطل على البحر المتوسط عام 1955 وصدر له منذ 1979 إلى اليوم 50 كتابا في الفكر، والأدب، والنقد السياسي، والفلسفة، من بين أهمها: “البحث عن المطلق لدى يوليوس إيفولا” (1979)، “ثقافة اليمين” (2002)، “الله، الوطن، العائلة” (2012)، “الحنين للآلهة” (2019)، “فيكو المعجزات” (2023)، وفي الرواية والقصة القصيرة: “العروس غير المرئية” (2005)، “متنفس ساعة. ستون قصة دقيقة” (2015). وأدار عددا من المجلات وكتَب لكبريات الصحف الإيطالية، ويعد حاليا أهم أقلام يومية “لافيريتا” اليمينية.

وكما توقعت أجاب فينيتسياني فورا على رسالتي حتى ونحن في يوم عطلة. “بكل سرور”. هكذا رد بألفة. ورتبنا مباشرة موعدا للحديث، وكان هذا الحوار:

عندما وصلني الفيديو الذي جرى على إثره إلغاء تقديم “فيكو المعجزات” في تونس تذكرت مباشرة مشهدا من الكتاب وصفتَ فيه العراك الذي دار في الكنيسة فوق رأس الفيلسوف الإيطالي فيكو وهو مسجّى في نعشه مما أدى لإعادة التابوت للبيت وعدم استكمال مراسم دفنه كما كان مرتبا لها. في كتابك قلت: “وكأن ذلك اليوم أراد أن يكون تمثيلا لحياة فيكو الذي بقي وحيدا حتى في يوم كهذا”! اليوم لن نترك فيكو وحيدا.. لكن قبل أن نتحدث عن كتابك، بدا لي من نبرة منشورك على فيسبوك تعليقا على إلغاء التقديم في تونس، وكأنك لم تكن تتوقع أي احتجاجات تتعلق بالمشاركة الإيطالية في المعرض.. الشعب التونسي عربي مسلم وهو يرى كل يوم ما يحدث في غزة من مجازر تحصد أرواح أشقائه، ألم يتوقع الوفد الإيطالي أن مواقف حكومته ستؤثر على نشاطاته؟

في الحقيقة لم أتوقع ذلك بالنظر لموضوع الندوة الذي يتعلق بفيلسوف ينتمي إلى منطقة تجمعنا هي المتوسط. ظننت أنه قد يكون هناك مناسبات أخرى للاحتجاج على الحكومة الإيطالية، وهو أمر مفهوم جدا. لكن أن يحصل ذلك في لحظة كنت أتأهب فيها للحديث عن فيكو أشعرني بغصة كبيرة. ومع ذلك فأنا أتفهم بالطبع كل المظاهرات ضد هذه الحرب سواء عندنا أو في أي مكان آخر، ولا أعتبرها مفاجئة.

ولكن هذا لا ينفي أنني شعرت بالخيبة لأن موضوع الندوة لا علاقة له بكل ما يجري بل بفيلسوف طالما رأى في البحر المتوسط فضاءً روحيا يوحّدنا مقابل عالم الشمال البروتستاني الكالفيني. فيكو صاحب فكر يتوافق مع عالم الجنوب، لذلك تفاجأت مما حصل في ندوة كانت مخصصة له.

كتاب “فيكو المعجزات” للمفكر الإيطالي مارتشيللو فينيتسياني

فلنتخيل أنك قدمت فعلا كتابك في معرض تونس للكتاب وكالعادة في نهاية الجلسة سيقوم الجمهور بطرح الأسئلة. أنا شخصيا كنت مدعوة ضمن الوفد الإيطالي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر قبل أشهر، وكانت الحرب قد بدأت على غزة وموقف الاتحاد الأوربي ودوله كان معروفا حيالها. ضمن إحدى الندوات التي نشطتُها وقف شاب جزائري وطرح سؤالا على زميلي الكاتب كوسي كوملا الذي كان حاضرا معي في جناح الاتحاد الأوروبي ضمن ندوة بعنوان “الثقافة المتوسطية تجمعنا”. وسأنقل لك هنا نص السؤال الذي بقي عالقا في ذهني، وأنا على يقين أنه سؤال كان ليطرحه عليك أي شاب تونسي بعد نهاية ندوتك “أنتم هنا تتحدثون عن القيم الانسانية في هذا الجناح الجميل والمنمق. وفي التلفاز تتحدثون أيضا عن حقوق الانسان والقانون الدولي وهي أيضا أمور جميلة جدا وبراقة. عندما اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا جميعكم وقفتم مع أوكرانيا في حربها، لكن اليوم تقفون جميعكم ضد الشعب الفلسطيني الذي يُقتل بالآلاف وكأن من يقتل يوميا ليسوا من البشر. أليس هذه اسمها عنصرية؟..” السؤال أتى بنبرة هادئة ورصينة، وقد وقف الشاب ينتظر الإجابة بصدق. كيف كنت لترد عليه؟

سأقول إنني أتحسر على تضييعنا الخط الذي طالما حافظت عليه بلادنا في سياستها الخارجية. طالما كان لدينا رجال دولة وسياسيون كبيتينو كراكسي، وآخِرهم بيرلسكوني ممن عرفوا كيف يبقون على مسافة واحدة في العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وهو ببساطة الدفاع عن حل الدولتين. هذا هو الموقف المتوازن الذي أعتقد أن أوروبا كان ينبغي أن تتبناه لأسباب جيوسياسية أيضا تتمثل في أنه لا ينبغي لأوروبا أن تكون دوما تابعة للولايات المتحدة. أوروبا لها تاريخها وخصوصياتها ومصالحها الإستراتيجية والسياسية وهي تختلف كليا عن تاريخ وخصوصيات ومصالح أميركا.