سلام فياض: بعض الحقائق الصعبه في خطة بايدن

كتب… منه دمسلام فياض

جاءت الأيام التي انقضت منذ تبنّي مجلس الأمن الدولي للتصور الذي كان قد أعلنه الرئيس الأمريكي بشأن إنهاء الحرب المستعرة في غزة، منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر، لتبيّن صحة عدم التعويل على نهاية قريبة لهذه الحرب، بالرغم من فداحة ما جلبته، ولا تزال، من ويلات على أهل غزة وارتدادات سياسية وأمنية قلَّ مثيلها على الصعيدين الإقليمي والدولي. إذ، منذ البداية، بدا مشروعاً التساؤل بشأن إمكانية تصور متطابق تماماً مع الموقف الإسرائيلي، حسب ما ورد على لسان بايدن نفسه، أن يشكل اختراقاً كفيلاً ببعث الأمل في نهاية وشيكة للحرب، وخاصة في الوقت الذي لا تفوّت الحكومة الإسرائيلية فيه أيّ فرصة للتأكيد على إصرارها على المضي في حربها العدوانية حتى تحقيق أهداف أصبحت واقعيتها موضع تساؤل حتى في إسرائيل نفسها.

من الواضح أن الفشل المتتالي لمحاولات سابقة للتوصل لاتفاق يفضي إلى وقف الحرب بما يمهد لتهدئة مستدامة لا يعود إلى جهل بحقائق الأمور بقدر ما هو نتيجة التردد في قبولها أو إعطائها ما تستوجبه من اهتمام. وإذا كان الأمر كذلك، فمردّه صعوبة التسليم بهذه الحقائق من قبل طرف أو أكثر من الأطراف المؤثرة على مجريات الأمور.

وفي ما يلي استعراض تحليلي مختصر لأبرز هذه الحقائق:

الفشل المتتالي للتوصل لاتفاق يفضي إلى وقف الحرب لا يعود إلى جهل بحقائق الأمور، بقدر ما هو نتيجة التردد في قبولها أو إعطائها ما تستوجبه من اهتمام

أولاً: تبدد الوهم بإمكانية القضاء على حركة “حماس”. إذ بات من المتوقع على نطاق واسع ومتزايد أن الحركة ستكون جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي والميداني عندما تضع الحرب أوزارها. وأما وقد نجحت “حماس” في الاستمرار في الصمود لما يقارب التسعة أشهر في وجه جبروت آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، الذي لم تكن نفس الآلة بحاجة سوى لبضع ساعات لإحكام السيطرة عليه في عام 1967، فمن شبه المؤكد أن يتكرّس، في “اليوم التالي”، الشعور بالاعتقاد بأنها خرجت من هذه الحرب منتصرة.

وجدير بالذكر أن هذا الشعور لم ينشأ من فراغ، وإنما بدأ يتشكّل منذ مراحل الحرب الأولى، عندما بدا واضحاً أن هجوم السابع من أكتوبر كان مسبوقاً بالإعداد المحكم لمعركة طويلة المدى. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر ساهم في تمكين “حماس” من التصدي بفعالية لموجات متكررة من التشكيك، محلياً وكذلك إقليمياً، في وجاهة قرارها بشن الهجوم المذكور.

ثانياً: فشل إسرائيل في تحقيق أيّ من أهدافها المعلنة من الحرب التي شنتها في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر. إذ، وفي ما يتجاوز ما كان واضحاً منذ البداية، بشأن استحالة القضاء على حركة سياسية كـ “حماس”، لم يعد اليوم مجال كبير للاعتقاد بأن إسرائيل ستفلح حتى في مجرد إزاحة “حماس” من الحكم في قطاع غزة. فحركة “حماس”، كما كانت قبل أكتوبر الماضي، لا تزال اليوم القوة السياسية الأبرز في القطاع، لا بل ومن المتوقع أن تتعزز مكانتها السياسية بشكل ملحوظ على الأقل خلال المرحلة الأولى لما بعد الحرب. وللتدليل على ذلك، ربما يكفي التفكير، ولو على نحو عابر، في السمات التي من المرجح أن تطغى على المشهد الميداني في “اليوم التالي”. ولعل أبرز ملامح هذا المشهد ستكون عودة الحضور المؤسسي لحركة “حماس” للظهور بشكل فوري، من خلال نشر أفراد الشرطة، وعلى نحو متدرج في مناحي الإدارة العامة الأخرى. بيد أن ذلك لا ينبغي أن يفهم على أنه يفترض أنه سيكون في مقدور الحركة أن تتعامل مع المتطلبات الملحة لإعادة الحياة إلى القطاع، وخاصة في ما يتصل بالإيواء وإعادة الإعمار. فتلك حقيقة أخرى صعبة، ولكن لا بدّ من التسليم بها.

ثالثاً: سعي إسرائيل المحموم لنيل “النصر الكامل” أدخلها في نفق حرب بلا نهاية، أو حتى بلا أيّ هدف يمكنها الاستمرار في محاولة تحقيقه دون تكبد خسائر إضافية فادحة، ومن المرجح دائمة، على الساحة الدولية، وذلك لما ترتب على عدوانيتها، ولا يزال، من تدمير ممنهج للحياة وسبلها في قطاع غزة. إذ بات واضحاً أن لجوء إسرائيل المتكرر لتوظيف الاتهام بمعاداة السامية في مواجهة اتهامها على نطاق متزايد بارتكاب جرائم حرب وإبادة بات ممجوجاً وموضع استخفاف، على الأقل من قبل البعض، بالخطورة البالغة للمعاداة الحقيقية للسامية.

رابعاً: من الناحية الفعلية، فقد آلَ لواءُ التمثيل الفلسطيني لحركة “حماس”. وقد تأتّى ذلك على خلفية فشل رهان “منظمة التحرير الفلسطينية” على المسار السياسي الذي تبنّته في عام 1988 سبيلاً لنيل حقوق الشعب الفلسطيني، خاصة في ما يشمل قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967، ومروراً بانخراطها في عملية تفاوضية غير مستندة إلى الإقرار بأيّ من هذه الحقوق في إطار اتفاقيات أوسلو. ليس هذا فحسب، وإنما أسست العملية تلك لشرخ عميق في النظام السياسي الفلسطيني، وواكبها إفشال إسرائيلي، وقصور ذاتي في تحويل إطار الحكم الذاتي المتمثل في السلطة الفلسطينية إلى أداة تمكين للشعب الفلسطيني في نضاله لنيل حقوقه.

تبدد الوهم بإمكانية القضاء على حركة “حماس”، إذ بات من المتوقع على نطاق واسع ومتزايد أن الحركة ستكون جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي والميداني عندما تضع الحرب أوزارها

وعلى خلفية التآكل الذي ترتَّبَ على ذلك كلّه في القدرة التمثيلية لـ “منظمة التحرير”، أتى موقف النأي بالنفس الذي تبنّته فعلياً قيادة المنظمة في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر ليحرمها من أيّ دور تمثيلي مؤثر، سواء على الصعيد المحلي، أو الصعيدين الإقليمي والدولي. وما كان لهذه النهاية المؤسفة أن تكون لو بادرت قيادة المنظمة إلى توسيع قاعدة تمثيلها لتضم كافة الفصائل والقوى السياسية المؤثرة، وفي مقدمتها “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، خاصة وأن هاتين الحركتين أعلنتا، مع قوى أخرى، موافقتهما على الانضمام لـ “منظمة التحرير” دون الإصرار على تغيير برنامجها السياسي، وكذلك على تشكيل حكومة توافق وطني لفترة انتقالية تنتهي بانتخابات عامة. ولو تم ذلك بالفعل، لكان قد جعل من إمكانية اضطلاع السلطة الوطنية بمسؤولياتها في قطاع غزة أداة إضافية في الدفع لتجنيب غزة وأهلها المزيد من ويلات عدوانية إسرائيل وحربها التدميرية.

خامساً: من السذاجة بمكان حتى مجرد التفكير في أن إصلاح السلطة الفلسطينية بالمفهوم التقني، على أهميته وضرورته، يمكن أن يغني عن الإصلاح السياسي المطلوب لتمكين السلطة من أن تصبح عنوان توافق وطني يمكنها من ممارسة مهامها في قطاع غزة والضفة الغربية على حد سواء. وإذا كان من غير المستغرب أن تتجاهل القوى المؤثرة على الساحة الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، هذه الحقيقة لتجنب الإقرار علناً بضرورة عدم إقصاء “حماس”، بوجه خاص، والقوى السياسية الأخرى المعارضة للبرنامج السياسي لـ “منظمة التحرير”، بوجه عام، فليس من المقبول إطلاقاً التسليم بهذا المنطق الملتوي من قبل الكيان السياسي، الذي من المفترض أن يكون البيت الجامع للفلسطينيين كافة والممثل الشرعي الوحيد لهم. ثم، وليس في هذا السؤال أي ادّعاء بالبراءة، ما الذي حصل ليكتشف العالم فقط بعد السابع من أكتوبر الماضي أن السلطة الفلسطينية بحاجة لتحسين كفاءتها الإدارية والتقنية؟ ويتصل بهذا السؤال بطبيعة الحال التساؤل عمّا دفع بالسلطة، بعد ادعائها بمثالية إدارتها، لتبني الدعوة الدولية للتجديد والإصلاح وتغيير حكومتها لتحقيق ذلك. ما الجدي في أيٍّ من هذا؟

سادساً: لا يوجد أي خيار واقعي أو منطقي للتعامل مع الوضع في قطاع غزة سوى تولي السلطة الوطنية مسؤولية الحكم فيه. بيد أن مجرد واقعية هذا الخيار، أو حتى كونه خيار ضرورة وطنية لتحقيق وحدة الوطن ومؤسساته، لا يجعل منه قابلاً للتنفيذ التلقائي. كما وليس من المقبول إطلاقاً السماح بمجرد التفكير في فرضه عنوة، خاصة أن تحقيق التوافق الوطني بشأنه يمرّ عبر بوابة تمكين “منظمة التحرير” من أن تكون بالفعل، وليس قولاً فقط، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

ستكون عودة الحضور المؤسسي لحركة “حماس” للظهور بشكل فوري، من خلال نشر أفراد الشرطة، وعلى نحو متدرج في مناحي الإدارة العامة الأخرى

ومن دواعي الأسف أن الإمعان في تجاهل هذه الحقيقة والتواني عن التصرف بمسؤولية إزاءها فَتَحَ الباب مشرعاً على التداول في مقترحات وبدائل للتعامل مع الوضع في غزة يجمعها فكر سياسي إسرائيلي يهدف إلى الإبقاء على قطاع غزة منفصلاً عن أي كيانية فلسطينية جامعة. وبالإضافة لذلك، فإن ما تقوم عليه معظم هذه البدائل من توظيف إدارة دولية مدعومة بقوة عسكرية متعددة الأطراف تمهيداً لتأسيس إدارة محلية في غزة ينطوي على الكثير من السذاجة، إن لم يكن الخطورة البالغة. إذ من هي الدول المستعدة لإرسال قواتها لقطاع غزة دون دعوة رسمية من إطار فلسطيني جامع يشمل حركة “حماس”، أو، في غياب ذلك، على الأقل بموافقة الحركة؟ ثم كيف ينسجم الإبقاء على قطاع غزة منفصلاً عن الضفة الغربية، ولو لأجلٍ يقال إنه مؤقت، ولكن من المرجح أن يكون خلاف ذلك، مع هدف لا يفوت قادة العرب والعالم فرصة للتأكيد على أهميته، ألا وهو قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967؟

سابعاً: تشكّل عودة مسألة إيجاد حل مستدام للقضية الفلسطينية، بعد سنين طويلة من الدوران في حلقة مفرغة تلو الأخرى، إلى دائرة الضوء والاهتمام العالمي، على الصعيدين الأهلي والرسمي، تطوراً إيجابيًا نوعياً يجب البناء عليه والاستفادة منه. كما وهناك إيجابية كبيرة في الموقف الذي بات موضع إجماع عربي بشأن ضرورة أن يكون هناك مسار غير قابل للتراجع أو النقض لعملية تفضي لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود عام 1967. ومن أجل ترجمة هذا الموقف لخطة وبرنامج عمل، يجب العمل بشكل عاجل على تحديد المكونات الأساسية لهكذا مسار، مع ضرورة الأخذ بالحسبان منذ البداية أن ليس هناك أي جدوى لمحاولة الحصول على موافقة إسرائيلية، لا على الموقف العربي المذكور ولاعلى مكوناته، في الوقت الحاضر، أو حتى على المدى المنظور. إذ كيف يمكن توقع أن تلتزم حكومة إسرائيل الحالية بأمر يتناقض تماماً مع برنامجها السياسي المعارض بشدة لقيام دولة فلسطينية مهما كانت مسخاً أوهزالاً، وفي الوقت الذي يجاهر فيه بعض أعضائها بنيّتهم القضاء حتى على ما تبقى من سلطة وطنية عمدت حكومات عدة في إسرائيل على إضعافها لكيلا تتحول يوماً لدولة عتيدة؟ غير أن هذا لا يعني على الإطلاق التخلي عن فكرة وضع برنامج عمل فلسطيني يحظى بدعم عربي لتحرك سياسي قادر على تمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق تطلعاته الوطنية، بل بالعكس من ذلك تماماً.

لجوء إسرائيل المتكرر لتوظيف الاتهام بمعاداة السامية، في مواجهة اتهامها بارتكاب جرائم حرب وإبادة، بات ممجوجاً وموضع استخفاف

وكخطوة أولى نحو التأسيس لبرنامج عمل وطني بالمواصفات المرجوة للمرحلة القادمة، قد يكون من المفيد السعي الحثيث للحصول على اعتراف دولي بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني كافة، وفي ما يشمل على وجه التحديد الحق في إقامة دولة مستقلة كاملة السيادة على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وتضمين هذا الاعتراف في قرار أممي صادر عن مجلس الأمن الدولي.

وأما بشأن التفاوض مع إسرائيل في أيّ مسألة تتصل بتجسيد الدولة المنشودة، فينبغي أن يكون الشروع في ذلك مرهوناً بإقرار إسرائيلي رسمي مسبق بالحق الفلسطيني في إقامة هذه الدولة، كما بالحقوق الوطنية الأخرى للفلسطينيين كشعب، وكقضية تعود جذورها إلى إنكار المشروع الصهيوني لحقيقة وجود الشعب الفلسطيني.

وتجدر الإشارة إلى أن بلورة رؤية سياسية فلسطينية كهذه تجعل من الممكن الشروع الفوري في توحيد القيادة الفلسطينية في إطار “منظمة التحرير”، دونما أيّ حاجة لتغيير أيّ مكوّن من مكوّنات النظام السياسي الفلسطيني لتغيير رؤيته السياسية. إذ لا يمكن، خاصة في ضوء فشل مسار أوسلو التفاوضي، الاستمرار في القبول باشتراط قبول الكل الفلسطيني بصيغة أي حل للقضية الفلسطينية لا ترتكز إلى اعتراف اسرائيل المسبق بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

من الواضح أنه لا يمكن التقّدم في اتجاه تبنّي رؤية وطنية فلسطينية جامعة بما يمهّد لاعتمادها عربياً، وللسعي لتكريسها دولياً، دون البدء في تحقيق الوحدة القيادية في إطار “منظمة التحرير”. وفي غياب ذلك، لن يكون بالإمكان التعامل مع أيٍّ من الحقائق الصعبة المتصلة بالوضع المأساوي في غزة، لا بل من المرجح أن تصبح غزة، وهي التي لطالما وصفت بأنها أكبر سجن في العالم، أكبر مخيم فيه لعقود متصلة. وهذه حقيقة صعبة لا يجوز أن تكون مقبولة على الإطلاق.