مقالات

جواد بولس// هل واجهت إسرائيل في السابع من أكتوبر خطرا وجوديا؟

من دون أن ينتبه الكثيرون تحوّل التساؤل أو الهاجس، الذي فرضته الدبلوماسية الأمريكية على الفضاءات السياسية الدولية والإقليمية والمحلية، حيال المرحلة التي ستعقب سقوط حكم حماس في قطاع غزة، إلى الشغل الشاغل بين معظم متابعي تداعيات الحرب، وحديث وسائل الإعلام المركزية في العالم.
لقد عنى فرض هذه المسألة، والحديث عنها في المراحل المبكرة للهجمات الاسرائيلية، إعطاء الضوء الأخضر لحكومة إسرائيل أن تفعل ما تشاء في القطاع، حتى لو اتهمها العالم باقتراف جرائم الحرب، أو بإبادة جماعية لشعب، كما يحصل فعلا في العديد من المنابر والمحافل الدولية. واليوم، مع اقتراب اليوم الثمانين على الحرب، بات واضحا أن ما اعلنته اسرائيل كهدف لحربها على غزة، وهو ضرورة القضاء على حماس، أو على قدرات حماس العسكرية والتنظيمية، لم يكن إلا حجة لحربها الشرسة الشاملة، التي بررتها لها هجمة حماس نفسها في السابع من أكتوبر.
لا أحد يستطيع أن يتكهن متى ستوقف إسرائيل هجومها الدموي؛ فرغم تزايد أعداد الضحايا بين المدنيين، ورغم الدمار الشامل الذي حل بالعديد من مناطق القطاع، لا يوجد في الأفق أي مؤشر على اقتراب انتهاء العدوان؛ بل كل الدلائل تشير إلى أن حكومة إسرائيل مستمرة، وأنها تخطط للبقاء في غزة بشكل أو بآخر. فالحديث داخل أروقة مقربة من الحكومة يدور حول عدة احتمالات، تبدأ من إعادة احتلالها للقطاع عسكريا، أو الانسحاب من معظمه بعد تدميره الشامل، مع احتفاظها بمناطق واسعة ستشكل لحدودها الجنوبية شريطا أمنيا، أو انسحابها العسكري الكامل منه، على أن تضمن فيه تشكيل «سلطة فلسطينية» تدعم «السلام»، شريطة ألا تشكلها «فصائل إرهابية» كحركة حماس، أو كالسلطة الحاكمة في رام الله، كما صرّح مؤخرا رئيس الحكومة نتنياهو. حاول نتنياهو وما زال يحاول تضليل الرأي العام، لاسيما رأي المواطنين في إسرائيل، ليس عن طريق إشغالهم بأخبار إنجازاته العسكرية في غزة وبما سيجري فيها بعد سقوط سلطة حماس وحسب، بل بإمعانه، منذ اللحظة الأولى، في تشبيه الجرائم التي ارتكبتها حماس بحق المدنيين اليهود في السابع من أكتوبر بأحداث الكارثة، وبتشديده على وصف حركة حماس «بالحركة النازية». لم تكن هذه مجرد دعاية عفوية أو تصريحات عارضة مبالغا فيها، فهو، عن سبق إصرار وفهم لما ستفضي إليه هذه السياسة الدعائية، نجح بإشاعة تلك الشعارات التضليلية وترسيخها كحقائق مقبوله في كثير من دول العالم وحكّامها، وبين المواطنين الاسرائيليين. وقد ضمن بذلك أولا، إسكات احتجاجات حركة معارضيه التي اكتسبت حتى السابع من أكتوبر قوة مد جماهيرية متنامية، وأصبحت تشكل تهديدا حقيقيا على استمرار حكمه، وثانيا مهّد لضرب غزة وحرقها كمأوى «للنازيين الجدد» من دون أن يقلق من ردّة فعل دعاة حقوق الإنسان داخل إسرائيل وخارجها، ومن محاذير القوانين الدولية. فمن سيقف مع غزة، سيكون إما خائنا، أو لاساميا، أو نازيا.

ما أعلنته إسرائيل كهدف لحربها على غزة، وهو ضرورة القضاء على حماس، أو على قدرات حماس العسكرية والتنظيمية، لم يكن إلا حجة لحربها الشرسة الشاملة

نجحت سياسة نتنياهو في بداية الحرب؛ فهبت حكومات العالم والمؤسسات الدولية لنصرة ضحايا الهجمة الحماسية، وعاضدوا إسرائيل وغفروا لها كونها دولة تحتل هؤلاء الفلسطينيين منذ خمسة وخمسين عاما وتحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية؛ بيد أن شعوب دول عديدة، رغم ما تعانيه حكوماتها من عقم سياسي وعقم إنساني، لم تحتمل صراخات هذا الكم من دماء الضحايا الأبرياء ومشاهد أشلاء الأطفال وهي «ترتاح» في أحضان أمهاتهم الهامدة، فهبوا يطالبون إسرائيل بأن توقف هذه الحرب، إذ ليس مقبولا أن تغدو إسرائيل، ضحية ذاك الزمن، كدولة محتلة جلاد الفلسطينيين، ضحية هذا الزمن. لم ينحصر هذا التغيير في الموقف إزاء ما يحصل في غزة خارج حدود إسرائيل، فقد بدأنا مؤخرا نقرأ ونسمع ونشاهد أصواتا يهودية متزايدة تنادي بضرورة وقف الحرب على غزة، ويهاجم أصحابها سياسة نتنياهو ويتهمونه باستخدام دماء ضحايا أكتوبر في دعايته لصالح سياسة حكومته في ترسيخ الاحتلال في الضفة الغربية، وإعادته إلى قطاع غزة؛ ويتهمونه، كذلك، بالتمادي في ردة فعله غير المبررة، حتى إن بعضهم وصف ما يقوم به الجيش الإسرائيلي بجرائم حرب وبتنفيذ عملية إبادة جماعية للفلسطينيين وتهجيرهم القسري للمرة الثالثة منذ عام النكبة مرورا بالنكسة إلى ما يجري بحقهم هذه الأسابيع.
لن آتي على ذكر جميع الشخصيات والمؤسسات اليهودية من داخل إسرائيل وخارجها، التي بدأت تطلق مواقفها المعارضة لسياسة نتنياهو، لكنني سأشير إلى حالتين لافتتين خصّتهما مؤخرا جريدة «هآرتس» العبرية بتقريرين قد يكونان عينتين لظاهرة آخذة بالاتساع، علينا كمواطنين فلسطينيين في إسرائيل أن نتابعها بحرص، وان نجد الفرصة للتواصل مع من يلحق بها، والوسائل لبناء جسور العمل الجبهوي الموحد معهم. كتب التقرير الأول الصحافي عوفر أديرت بتاريخ 14/12/2023 تحت العنوان اللافت «حرب المؤرخين: هل حماس هي النازيون الجدد، وهل الاعتداءات على غزة هي إبادة شعب» حيث جاء في التقرير: «يدور في الأسابيع الأخيرة نقاش قاس بين مؤرخين إسرائيليين حول أسئلة ذات صلة في الحرب في قطاع غزة. ومن بين هذه الأسئلة، مدى مسؤولية إسرائيل عن الحرب، وهل تنفذ إسرائيل ضد الفلسطينيين هناك عملية إبادة شعب؟ وهل يمكن مساواة حماس، ومذبحة السابع من أكتوبر بالكارثة؟». وجاء في التقرير أن الأستاذ عومر بارطوف وهو مؤرخ إسرائيلي مرموق، يعمل حاليا في جامعات الولايات المتحدة كمتخصص في تاريخ النازيين، يقود حملة واسعة، إلى جانب عدد من زملائه المؤرخين ضد ما يجري في غزة، ونشر مؤخرا مع زملائه رسالة مفتوحة عبّروا فيها عن استيائهم وخيبتهم من قياديين سياسيين وشخصيات عامة بارزة، يثيرون ذكرى الكارثة في مسعى لشرح الأزمة الحالية بين غزة وإسرائيل. لقد هاجم وزملاؤه في رسالتهم سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان، والرئيس بايدن ورئيس الحكومة نتنياهو بسبب لجوئهم إلى نبش ذكرى الكارثة في سياق أحداث غزة. وطالبت المجموعة بالامتناع عن تشبيه جريمة حماس بالكارثة، وتشبيه حماس بالنازيين، وأضافوا: «إن هذه التصريحات تزيد من التطرف في الخطاب السياسي وتؤدي إلى عدم أنسنة الفلسطينيين وإلى إخراج الأحداث من سياقاتها». وأضافوا: «تستعمل هذه التصريحات في هذا الصراع غير المتكافئ في غزة لتسويغ جرائم الحرب؛ فإذا كانت هذه الحرب بين «أولاد النور وأولاد الظلام» بين المتحضرين والبربريين، بين اليهود والنازيين، عندها ستصبح كل أعمال العنف مبررة بشكل مطلق بحجة منع حدوث كارثة ثانية.. فمثل هذه اللغة تدفع إسرائيل لقتل آلاف الأبرياء ولهدم ممنهج لمدن ومخيمات لاجئين وتحويل أكثرية سكان غزة إلى لاجئين».
إلى جانب هذا التقرير أوردت جريدة «هآرتس»، نقلا عن جريدة «نيويورك تايمز»، قصة عائلة يهودية أمريكية رفضت واحدة من بناتها أن تهاجر مع أبيها وأمها وأخيها من أمريكا إلى إسرائيل معلنة لهم أنها تعتقد بعدم شرعية «إقامة دولة إسرائيل لأنها قامت على فكرة تفوق اليهودية». ويؤكد التقرير اتساع مثل هذا الشرخ، القائم كشرخ بين الأجيال، داخل العائلات اليهودية في أمريكا. اعرف أن أمثال هؤلاء اليهود هم قلة، لكن، نحن بحاجة إلى بعض الأمل؛ إذ لسنا مشروع مهاجرين ولا دولة لنا غير هذه الدولة. والعالم، هذا الكائن السحري، رغم موجات التضامن التي نشهدها منه مع الفلسطينيين مؤخرا، قد يعود إلى عقمه السياسي والأخلاقي وينسى الضحية؛ والاشقاء العرب والمسلمين بحاجة أولا، قبل أن يتذكروا وجودنا، إلى أن يتفقوا على كيف تورد الأبل ومن يك راعيها ومن كبشها ومن الضحية؟ لم يبق معنا، نحن، المواطنين العرب في إسرائيل، بعد أن تخزّقت آذاننا صغارا من دردبات الطبول وهي «تدق على باب مصر» وتنعق باكية على عتبات «بغداد قلعة الأسود»، سوى رشدنا وإصرارنا، وأحرار من العالم وكمشات من يهود أمثال عومر بارطوف، محاضر التاريخ في جامعة براون، وبروفيسور عاموس جولدبرغ مدير معهد أبحاث اليهودية المعاصرة في الجامعة العبرية، والبروفيسور ألون كونفينو، مدير معهد أبحاث الكارثة وإبادة شعب والذكرى في جامعة ماستشوسيتش، والمؤرخ الأمريكي كريستوفر براونينغ، مؤلف كتاب «أشخاص عاديون» وغيرهم مما لا سعة لذكرهم في هذه العجالة. لقد جاء في الرسالة المذكورة، وعلى الملأ، من برأيهم يقترف اليوم جرائم الحرب وإبادة الشعب، ومن يقف في وجه خطر وجودي حقيقي، فعملية «السابع من أكتوبر، لم تشكل خطرا وجوديا على دولة إسرائيل». فلسطين والفلسطينيون وقضيتهم هم من يواجهون خطرا وجوديا. فإلى متى سنظل، نحن وهم، ننام على حافة خوفنا ونصحو على الريح؟
كاتب فلسطيني