دولة الاحتلال نحو الهلاك.. حرب غزة عززت التناقضات في المجتمع الإسرائيلي وتدفعه نحو مستقبل قاتم

نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا لكل من إيلان زيد بارون أستاذ السياسة الدولية والنظرية السياسية بجامعة درهام البريطانية وإيلاي زيد سولتزمان، الأستاذ المشارك بالدراسات الإسرائيلية بجامعة ميريلاند الأمريكية، تحدثا فيه عن مستقبل قاتم ينتظر إسرائيل بعد نهاية الحرب في غزة.

وفي مقالهما الذي عنوناه بـ”هلاك إسرائيل” قال الكاتبان إن إعلان إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 أكد بالأساس على دولة ملتزمة بالقيم الإنسانية والقانون الدولي. وقد أكد إعلان الدولة على أنها “ستتأكد من المساواة الكاملة في الحقوق السياسية والاجتماعية لكل مواطنيها بغض النظر عن الدين، العرق أو الجنس” وأنها “ستكون وفية لميثاق الأمم المتحدة”. ومنذ البداية لم تتحقق رؤية مؤسسي إسرائيل هذه، فقد عاش الفلسطينيون في إسرائيل وعلى مدى عقدين تحت الأحكام العرفية، ولم تكن إسرائيل قادرة على حل التناقض بين المبدأ العالمي لإعلان الدولة والحاجة الضيقة لإنشاء إسرائيل كدولة يهودية ولحماية اليهود فقط. وقد برز هذا التناقض مرة بعد الأخرى وخلق الاضطرابات السياسية التي شكلت السياسة والمجتمع في إسرائيل بدون حل التناقض هذا. لكن الحرب الحالية في غزة والإصلاحات القضائية التي سبقتها جعلت من الصعوبة الاستمرار بهذه الطريقة ودفعت إسرائيل نحو نقطة الانهيار. وتسير الدولة على مسار غير ليبرالي عنيف ومدمر.

وتابع الكاتبان أنه إذا لم تغير إسرائيل المسار، فالمثل الإنسانية التي قام عليها إعلانها ستختفي حيث تمضي نحو مستقبل قاتم، واحد تهيمن عليه القيم غير الليبرالية وتحدد طبيعة الدولة والمجتمع. وتمضي إسرائيل على طريق التحول لدولة ديكتاتورية، ليس فقط في معاملتها للفلسطينيين ولكن لمواطنيها. وربما خسرت ما تبقى لها من أصدقاء وتحولت إلى دولة منبوذة. ولو أصبحت معزولة عن العالم فإنها ستنشغل في الاضطرابات الداخلية والتصدعات التي تفكك البلد. وهذا الوضع الخطير الذي يواجه إسرائيل يجعل من الأحداث المستقبلية غير مستبعدة على الإطلاق ولكنها ليست محتومة أيضا. ولا تزال إسرائيل قادرة على سحب نفسها من الحافة، فثمن عدم عمل هذا سيكون باهظا ولا يمكن تحمله.

ويقول الكاتبان إن هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر جاء في وقت كانت تعاني فيه إسرائيل من عدم استقرار سياسي. فالنظام الانتخابي القائم على التمثيل النسبي، سمح على مدى العقود الماضية بدخول أحزاب هامشية ومتطرفة إلى الكنيست.

وشهدت إسرائيل منذ عام 1996، 11 حكومة مختلفة، أي بمعدل حكومة جديد كل عامين ونصف، ستة منها برئاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو. وفي الفترة ما بين 2019- 2022 نظمت خمس جولات انتخابية، لعبت فيها الأحزاب الصغيرة دورا في تشكيل الحكومات والإطاحة بها وحصلت على تأثير غير متناسب مع حجمها. وجلب نتنياهو بعد انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022 أحزابا متطرفة إلى الحكومة وجعلها في مركز القرار السياسي مع أنها ظلت تحوم حول الهامش.

وفي عام 2023 قام نتنياهو وحلفاؤه في اليمين باقتراح إصلاحات قضائية تحد من رقابة المحكمة العليا على الحكومة. فقد كان نتنياهو يأمل من حماية هذه الإصلاحات له ووقف المحاكم التي تلاحقه، أما الأثوذكسيون المتشددون، فقد كانوا يأملون من هذه الإصلاحات، منع تجنيد طلاب المدارس الدينية بالجيش. وفي الوقت نفسه كانت الصهيونية القومية تأمل بأن تحد هذه الإصلاحات من سلطة المحكمة العليا لمنع توسع الاستيطان في الضفة الغربية.

وأدت المقترحات لاحتجاجات واسعة كشفت عن الانقسام داخل إسرائيل بين من يريدونها دولة ديمقراطية بقضاء مستقل ومن يريدون حكومة تعمل ما تريد. وهددت الاحتجاجات في معظم المدن بتوقف النشاط وهدد جنود الاحتياط بعدم الخدمة وألمح المستثمرون بأنهم سيسحبون استثماراتهم. إلا أن قراءة أولى للقانون مررت في تموز/يوليو، وتحاول حكومة الائتلاف الحالية تبني بعض المقترحات فيها رغم استمرار الحرب في غزة.

وكشفت الاحتجاجات بشأن الإصلاحات القضائية عن مظاهر قلق داخل إسرائيل حل طبيعة الديمقراطية فيها، ولكنها لم تطرح أسئلة حول مسؤولية إسرائيل عن الفلسطينيين الذي يعيشون تحت الاحتلال. وبالتأكيد فالكثير من الإسرائيليين يفرقون ما بين معاملة الفلسطينيين والعمل من خلال الديمقراطية. ولطالما تسامح الإسرائيليون، إن لم يوافقوا، مع عنف المستوطنين اليهود ضد الفلسطينيين.

وفي خرق واضح للقانون الدولي، تخضع إسرائيل الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية لما يشبه الأحكام العرفية. وأشرفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على توسيع المستوطنات في الضفة الغربية مما عرقل فرص إنشاء دولة فلسطينية في المستقبل.

وكشفت الحرب في غزة التي قتل فيها حسب التقديرات المتواضعة 40,000 فلسطيني عن بلد غير قادر على ما يبدو أو غير مستعد للالتزام بالقيم الملهمة في إعلان التأسيس. وذكر الكاتبان بما حذر منه الكثير من التقدميين في إسرائيل من الأثر المفسد للاحتلال العسكري وأن تحول دولة إلى قوة محتلة يترك أثره الفاسد على المجتمع. وقد لاحظ الباحث السياسي والفيلسوف الإسرائيلي يشياهو ليبوفيتز “الفخر الوطني والحماسة” فيما بعد حرب الأيام الستة عام 1967 ورأى في الوقت نفسه ما سيحدث من تحول قاتم. وكتب عام 1968 أن الدولة التي تحتفل “ستخرجنا من القومية الصاعدة إلى القومية الميسانية المفرطة” ، وتكهن ليبوفيتز من أن يكون هذا الفخر القومي العاطفي هو ما سيجلب الدمار على إسرائيل، وسيقود إلى “الوحشية” و”نهاية الصهيونية”. وباتت النهاية الآن أقرب مما يريد الكثير من الإسرائيليين الإعتراف به.

وحذر الكاتبان من إمكانية تحول إسرائيل التي تمشي نحو مسار غير ليبرالي إلى قومية دينية عرقية، تحت سيطرة القضاء اليهودي ومجلس تشريعي ومتطرفين دينيين، أي نسخة يهودية عن إيران.

ويشير الكاتبان إلى أن التغيرات الديمغرافية والاجتماعية- السياسية، بما في ذلك الزيادة المطردة للسكان الأرثوذكس والتحول نحو اليمين من الشبان الإسرائيلي اليهودي وكذا انخفاض عدد اليهود الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين، إلى ظهور جهة سياسية أكثر تدينا تربط استمرار إسرائيل بصراع بين اليهودية والإسلام بدون أي مساحة للتوفيق بينهما.

ومن بين الساسة القوميين المتدينين المتشددين، الذين يؤمنون بدولة يلعب فيها الدين دورا مهما، وزير المالية، بستلئيل سموتريتش ووزير الأمن الوطني، إيتمار بن غفير وآفي ماعوز، وكلهم لاعبون مهمون في حكومة نتنياهو. وهم يمثلون جزءا صغيرا ولكنه مؤثر في الحركة الصهيونية الدينية المعروفة باسم هاردال.

ويؤمن أتباع هذه الحركة بأن الرب منح كل فلسطين لليهود ويرفضون القيم الغربية مثل حركة المثليين. وأفراد من هذه الحركة ممثلون في الحكومة والكنيست والمدارس الدينية “يشيفا” والمدارس التحضيرية للجيش ميشينوت، وتكشف الاستطلاعات أن اليمين الإسرائيلي سيظل مؤثرا وعلى المستقبل المنظور.

ولكن الكثير من الإسرائيليين غير المتدينين عادة أصبحوا وبعد هجمات حماس أكثر ميلا للدولة القومية الإثنية المتطرفة. وقد أثبتت الهجمات لهذا التيار أنه لا تصالح أو سلام مع الفلسطينيين ومؤيديهم. وينظرون إلى إسرائيل بأنها في حالة حرب دائمة، دولة حسب عبارة المؤرخ ديفيد أوشانا “اسبرطة تلبس القلنسوة” أو يارمولك. وربما توسع الإجماع بين اليهود الإسرائيلي وكشف عن إسرائيل غير ليبرالية، تقود فيها الحرب في غزة إلى تآكل كامل للأعراف الديمقراطية والمؤسسات التي عمل نتنياهو وحلفاؤه على إضعافها. وقد منحت الحرب الحكومة فرصة لتقييد الحريات المدنية، فقد مررت لجنة الأمن في الكنيست قرارا قبل فترة منح الشرطة للتفتيش بدون أمر، كما زادت حالات العنف المدعوم من الدولة للفلسطينيين. وبات يطلق على دعاة السلام بالخونة.

ويتابع الكاتبان القول إنه لو سيطر اليمين المتطرف على الدولة فستتحول إلى دولة ديكتاتورية تقيد فيها الحريات المدنية. ويتم استبدال التعليم عن الديمقراطية بتعليم غير ليبرالي. وستتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة، وقد أصبحت منذ الحرب معزلة، وملاحقة بقضايا اتهامات بالإبادة ومذكرات اعتقال قادة لها، سواء في محكمة الجنايات الدولية أو العدل الدولية، بشكل وجه ضربة قوية لموقفها الدولي. وستهمش إسرائيل على المسرح الدولي بسبب الرأي العام السلبي والقضايا القضائية، وحتى لو استمر دعم الحلفاء لها. وستظل إسرائيل غير الليبرالية تحظى بدعم دول، مثل الولايات المتحدة، لكن علاقاتها التجارية مع الدول الأخرى ستتأثر وستتوقف دول السبع الكبار التنسيق معها في الأمور الأمنية، كما ولن تشتري دول الأسلحة الإسرائيلية. وبالمحصلة فستصبح إسرائيل تابعة كليا للولايات المتحدة، مما يعرضها لخطر التقلبات في المشهد السياسي الأمريكي، وفي وقت بات فيه الكثير من الأمريكيين يطرحون أسئلة حول الدعم الأمريكي لها. وتعاني إسرائيل من مشكلة تتعلق بالعقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع الذي بات في مهب الريح. ولو كان الأمر بيد نتنياهو وحلفائه لتحولت الديمقراطية الإسرائيلية إلى مجرد هيكل أجوف وإجرائي ولا مكان فيه للتقاليد الديمقراطية عن الرقابة والإشراف على عمل المؤسسات الحكومية. كل هذا سيدفع إلى هجرة العقول التي لن ترى أي مكان لها في هذا البلد.

ومن المخاطر الناجمة عن تحول إسرائيل غير الليبرالي هو زيادة الصدع في داخل المجتمع وفقدان الدولة السيطرة على صلاحية استخدام القوة. ويمثل حادث هجوم المتطرفين على قاعدة سديه تيمان صورة عن تآكل سلطة الدولة، حيث حاول متطرفون تحرير جنود اعتقلوا بتهم انتهاك سجناء فلسطينيين. ومن مظاهر التصدع في المجتمع الإسرائيلي الانقسام في الأجهزة الأمنية وظهور ميليشيات المستوطنين، الذين ياخذون القانون بأيديهم ويروعون الفلسطينيين، وتراجع دور الجيش الذي بات يعطي المستوطنين معلومات عن قوافل المساعدات إلى غزة.

وربما انهار حكم القانون في إسرائيل، لكنها ستحافظ على اقتصاد نشط وربما حمت الملكية الخاصة وكان لديها مستشفيات ومدارس وجامعات واستمرت بالزعم أنها “أمة الشركات الناشئة” والتكنولوجيا الجديدة، لكن بدون حكم القانون متناسب مع الديمقراطية الجوفاء التي يفضلها المتطرفون. وبالمحصلة فسينهار النظام بدون أن تكون هناك أي قيادة موحدة لديها شرعية استخدام القوة.

ويعتقد الكاتبان أن ما سبق ليس مجرد رواية خيال علمي، بل حقيقة وهو أثر تركته حرب غزة على إسرائيل. فقد عززت الانقسام السياسي، وبخاصة بين الجماعات المتطرفة التي تريد استخدام القوة بدون التفات للقانون الدولي وجماعات أخرى تدعم مدخلا تصالحيا مع الفلسطينيين. كما وعمقت الحرب من الإنقسام بين العلمانيين واليهود المتدينين، ومن أهم الموضوعات القائمة الآن داخل إسرائيل تلك التي تتعلق بخدمة المتدينين بالجيش.

ولا ريب أن هذه التحولات ستترك أثرها على السلطة المركزية التي لن تكون قادرة على ممارسة دورها ومسؤوليتها التقليدية، بما في ذلك توفير الأمن والمحاسبة والحفاظ على النظام القضائي.

وفي ظل وجود جماعات أمن متنافسة وتساهل في الرقابة البرلمانية، ستفقد إسرائيل قوة الردع الشاملة وتقوض أي نظام متماسك للحكم في داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وربما أصبحت إسرائيل كيانا مبلقنا (البلقان) حيث تقوم الأجنحة الدينية والجماعات القومية المتطرفة ببناء مناطق نفوذ فعلي لها، في المستوطنات مثلا. وربما شهدت تمردا من المتطرفين الدينيين الذي قد يدخل إسرائيل في حرب أهلية بين اليمين الديني وما تبقى من أجهزة للدولة.

ويرى الكاتبان أن ثقل الأحداث والقوى السياسية البارزة تدفع إسرائيل نحو هذه الاتجاهات الخطيرة. فقد أصبحت إسرائيل بلدا لن يتعرف عليه من قام بتأسيسه. كل هذا لا يعني أنها بحاجة للسير نحو الانهيار، فعليها أن تعيد الاستقرار السياسي وتعزز الأسس الدستورية وحكم القانون وتتوصل لحل دائم مع الفلسطينيين وترسخ نفسها أفضل داخل المنطقة.