كان القادة الفلسطينيون الأوائل في منظمة التحرير الفلسطينية على صواب عندما أكدوا في المادة 22 من الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1964 بأن ” الصهيونية حركة سياسية مرتبطة ارتباطا عضويا بالإمبريالية العالمية ومعادية لجميع حركات التحرر والتقدم في العالم ، وهي حركة عنصرية تعصبية في تكوينها ، عدوانية توسعية استيطانية في أهدافها وفاشية نازية في وسائلها ” . نفس هذا الموقف المبدئي تكرر في مؤتمر التضامن الاسيوي الافريقي ، الذي عقد في هافانا في كانون الثاني من العام 1966 عندما قرر أن ” الصهيونية حركة استعمارية في طبيعتها وهويتها ، عدوانية توسعية بأهدافها ، عنصرية في تكوينها وفاشية في أساليبها ووسائلها ”
عن هذه التواريخ تفصلنا عشرات السنوات تأكد على امتدادها بأن الصهيونية ليست فاشية فقط ، بل هي أعلى مراحل الفاشية فكرا وممارسة . فقد شهد العالم حركات وأنظمة فاشية خاصة في القارة الاوروبية بين الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية كفاشية بينيتو موسوليني في إيطاليا ونازية أدولف هتلر في ألمانيا وفاشية فراتسيسكو فرانكو في اسبانيا . تلك الفاشيات ، التي ضربت القارة الاوروبية في تلك الفترة ، كان لها خصائص مشتركة أخطرها الاعتقاد بسمو المجموعة الوطنية والإثنية وتفوقها على غيرها من المجموعات البشرية الوطنية والاثنية وما يترتب على ذلك من حقوق اللجوء الى تدابير ضد الأعداء في الداخل وفي الخارج ، حقيقيين كانوا أم وهميين .
في الأصل كانت القوى الفاشية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي ظاهرة سياسية في مجتمعات كانت تعاني من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة بفعل الحروب التي أثقلت كاهلها . القائد البلشفي ليو تروتسكي كان من اوائل الذين سلطوا الضوء على طبيعتها وأساسها الطبقي ووظيفتها الرئيسية كأداة للإرهاب السياسي ضد قوى اليسار وحركة الطبقة العاملة ، وكانت الفاشية بالنسبة له ديكتاتورية تعكس عداء البرجوازية الصغيرة لرأس المال الكبير، الذي يضاهي عداءها للتنظيمات العمالية. ووجدت تلك القوى ضالتها في القوى الاجتماعية المهمشة فاتجهت نحوها بقوة باعتبارها أداة حربها المعلنة على قوى اليسار والحركة العمالية والنقابية في الداخل وفي المحيط الأضعف في الخارج باعتبارها تملك من عناصر التفوق ما يؤهلها السيطرة عليها واستعبادها ، إذا هي وصلت للسلطة .
الحركة الصهيونية هي الابن الشرعي لتلك البيئة ، التي ولدت من رحمها . فموجات الهجرة الى فلسطين كانت في الأساس اوروبية . وكما هو الحال مع أي مجتمع مهاجر، جلب المهاجرون معهم أصولا ثقافية وأفكارا سياسية مكتسبة في بلدانهم الأصلية , في منتصف عشرينيات القرن الماضي عبر إيتمار بن أفي ، رئيس تحرير صحيفة ” دوأر هيوم “، التي صدر العدد الاول منها في 8/8/1919 في فلسطين وكانت تنافس جريدة ” هآرتس ” ، عن اعجابه الشديد بموسوليني فهو ” رجل استثنائي ” . بن أفي هذا وصف موسوليني بعد سنة من وصوله إلى السلطة بأنه ” روح لن تنجلي للعالم سوى مرة واحدة في القرن )
وفي موازاته ، كان هناك أيضا أبا أحيمنير ، كاتب بدأ حياته السياسية والصحافية في جريدة حزب ” المابام ” “هبوعيل هتسعير ” ، ثم غادرها ليصبح صاحب عمود دوري في “دوأر هيوم”، أواخر عشرينيات القرن الماضي بعنوان “من مفكرة فاشستي ” . أحيمئير هذا شكل مع كاتب وشاعر يدعى أوري تسفي غرينبرغ ، وطبيب وكاتب اسمه يهوشع هاشل ييفين مجموعة عرفت باسم ” تحالف البلطجية ” من بين أهدافها رفع شأن ” القومية اليهودية ” بين الشباب . هذا الثلاثي كان يحتقر الليبراليين وطالبي التسوية مع العرب والبريطانيين وكان يمجد العنف خاصة ضد الاشتراكيين والشيوعيين وضد الليبراليين والمعارضين السياسيين عموماً وتواصلوا بإعجاب مع حلقات اليمين المتطرف في أوروبا. وقد استمرت روابط هؤلاء مع نظام موسوليني حتى العام 1938 على الأقل ، عندما أصدر قوانين عرقية مشابهة لقوانين العرق النازية.
نذكر هنا كذلك بأحد القادة البارزين للحركة الصهيونية والوكالة اليهودية ومواقفه من صعود النازية الى الحكم في ألمانيا . فقد كان أكثر النماذج المثيرة للصدمة في هذا المجال احتفاء قادة مرموقين في الحركة الصهيونية بانتصار النازية على الليبرالية وفق تعبيرهم ، كما كان حال الدكتور يواخيم برينس ، الحاخام اليهودي ، الذي صعد في صفوف المؤتمر اليهودي العالمي ليصبح نائبا للرئيس وكان مقربا من جولدا مائير وأصبح أحد القادة البارزين في الحركة الصهيونية العالمية . فقد انساق الدكتور يواخيم برينس مع هيستيريا التفوق العرقي على الطريقة النازية وألف كتابا باللغة الألمانية بعنوان ( نحن اليهود – Wir Juden ) تملق فيه الى حد الهوس الايدولوجية النازية حيث قال : ” سوف يتضح ما تعنيه الثورة الألمانية للأمة الألمانية ( ثورة أدولف هتلر ) في النهاية لأولئك الذين صنعوها ورسموا صورتها . لقد فقدت الليبرالية حظوظها ، الليبرالية تلك الصيغة للحياة السياسية التي ساعدت على اندماج اليهود ، هذه الليبرالية تتعرض الآن للهزيمة ” . الليبرالية حسب يواخيم برينس ، وهذا غيض من فيض كتابه كانت العدو المشترك لكل من النازية والصهيونية . كتاب يواخيم برينس ذاك يصلح ان يكون هذه الأيام مادة للتربية والتأهيل في مدارس الصهيونية الدينية ويصلح ان يكون كذلك مادة للتربية والتأهيل في الدفاع عن قانون القومية وفي تسويق ما يسمونه الانقلاب على الديمقراطية والنظام القضائي في اسرائيل .
والى جانب هؤلاء الاوائل من رواد الفكر الفاشي ، فرخت الحركة الصهيونية عددا غير قليل من القادة والمنظمات والجمعيات ، ممن يؤمنون بسمو الأمة على الفرد ووجوب خضوع الفرد لها ، بدءا بالسجود لصنم الخدمة العسكرية ، مرورا بالمطالبة بإخضاع جميع قوانين الأحوال الشخصية للمؤسسة الحاخامية وصولا إلى ازدراء من يختارون الهجرة المعاكسة ويقدسون الحاجة إلى مجتمع ” أكثر نقاء ” كزعران حركة ” لهافا ” وغيرهم من الذين يكنون العداء الصريح لطالبي اللجوء ويصمون ” اليسار الصهيوني ” ليس كمعارضة سياسية داخل المجتمع ، بل كعملاء للأجنبي . ثم إن الإيمان بحق ” الشعب المختار ” في السيطرة على الآخرين نراه ينتشر بلا حدود منذ أكثر من نصف قرن في الضفة الغربية وغزة.
حركة ” كاخ ” التي انبثقت عن “رابطة الدفاع اليهودية” التي أسسها مائير كاهانا في الولايات المتحدة كانت مثالا ناصعا للفاشية . فقد استهدفت كل جهة اعتبرتها تهديدا لصعود ” القومية اليهودية المتطرفة ” بمن فيهم المنظمات والناشطين العرب والمسلمين، والصحفيين والعلماء، وأعضاء الجالية اليهودية ” الذين ليسوا يهودا بما فيه الكفاية “، على حد قولهم . نشأت تلك الرابطة على أيديولوجية يمينية متطرفة بخمسة مبادئ أساسية كتبها مائير كاهانا وهي : حب إسرائيل وشعب إسرائيل. واعتزاز اليهود بتاريخهم وثقافتهم والانضباط والوحدة بين اليهود والإيمان بعظمة الشعب اليهودي ومبدأ القوة الحديدية . هذه الحركة شكلت تنظيما سريا مسلحا في الضفة الغربية عرف باسم ” لجنة الأمن على الطرق “، وتلقى أعضاؤها تدريبا عاليا وامتلكت وسائل نقل سريعة ، ومنها تخرج باروخ غولدشتاين ، الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل عام 1994 ، واستشهد فيها 29 مصليا . في أعقاب المذبحة أدرجت إسرائيل والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية تلك الحركة في قوائم الإرهاب ، وفي شهر أيار 2022 أزالت وزارة الخارجية الأميركية الحركة من قائمة الإرهاب .
أحزاب ” القوة اليهودية ” و ” الصهيونية الدينية ” وصف واسع في حزب ” الليكود ” حافظوا على تراث ” رابطة الدفاع اليهودية – حركة كاخ ” . وعلى كل حال فقد كان إيتامار بن جفير، زعيم حزب ” القوة اليهودية ” المعادي للأغراب ، يتولى هذه الأيام منصب وزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو الائتلافية. وقد كان عضواً في ” حركة كاخ ” قبل حظرها . ولا يزال مدافعاً صريحاً عن ” لاهوت مئير كاهانا ” وسياسته الفاشية. في نيسان الماضي ألقى بن جفير ، محاطاً بفريق أمني قدمه له مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ، خطاباً أشاد فيه بكل من كاهانا وباروخ غولدشتاين . أما بتسلئيل سموتريتش ، وزير المالية ووزير الاستيطان في وزارة الجيش فيقدم نفسه كفاشي نموذجي . سئل ذات يوم عن موقفه من يهودي يقوم برمي زجاجة حارقة داخل بيت ويقتل عربًا (المقصود مجزرة دوما التي حرق فيها المستوطنون أسرة دوابشة ) هل هذا عمل إرهابي ؟ فأجاب بالنفي ، وسئل كذلك ، هل باروخ غولدشتاين ، الذي ارتكب مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف عام 1994 ، إرهابي ؟ فأجاب ، كلا ليس إرهابيًا ، وهل عامي بوبر – منفذ مجزرة عيون قارة – إرهابي ؟ فكان جوابه لا. إنه إنسان مؤمن
وفي الحرب الوحشية ، التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة ، كما في الضفة الغربية ، شاع استحضار ” مبدأ كاهانا ” للانتقام من قبل القادة الإسرائيليين بشكل متزايد . ففي بداية الحرب أعلن نتنياهو في خطاب عام ، “عليك أن تتذكر ما فعله عماليق بك، كما يقول كتابنا المقدس. ونحن نتذكره.’ وقد تم توضيح دلالات إشارة نتنياهو إلى ” عماليق ” في تصريح لوزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت : ” نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك. سوف نزيل كل شيء، وسوف يندمون على ذلك ” . لقد أدلى القادة الإسرائيليون بالعديد من التصريحات ذات الطابع المتطابق منذ بداية الحرب، وقد تحققت هذه التصريحات في أعمال الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي .
هذه الأيام كثيرة هي الأيادي الملطخة بالدم وكثيرون هم المتعطشون لسفك اللدماء في اسرائيل . ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش نموذجان لقومية وهمية ومتعالية ، في غابة تيار عنصري يدعي التفوق العرقي وحولهما زعماء قاماتهم في مستوى العشب من رجال ونساء . الأول لا يكتفي بتغليب حرية الحركة في شوارع الضفة الغربية للمستوطنين على الحق في حرية الحركة والحياة للفلسطينيين بل يذهب في فاشيته ابعد من ذلك ويقوم بتسليح المستوطنين ويدعوهم للضغط على الزناد في مواجهة ” مثيري الشغب ، راجمي الحجارة ” من الفلسطينيين ، والثاني لا يكتفي بالدعوة لفصل المرأة العربية عن اليهودية أثناء الولادة في المستشفيات بل يذهب أبعد من ذلك بالدعوة الى محو بلدة حواره من الوجود أو في أحسن الاحوال وضع الفلسطينيين أمام خيارت ثلاثة ، إما العيش كأغيار مسلوبي الحقوق في دولته الممتدة من النهر الى البحر أو الهجرة الى الخارج مع كل التسهيلات أو يقوم جيش الاحتلال بتصفية الحساب معهم بالقوة . زوجته فرويتل سموتريتش كانت اكثر وضوحا منه في تظهير الصورة حين قالت في مقابلة لها مع رافي ريشف في القناة العاشرة الاسرائيلية إنها ما كانت مستعدة لأن تولدها قابلة عربية ، فهي تعتقد أن لحظة الولادة لحظة طاهرة ، يهودية ، لدرجة انه لا يوجد ما يبرر تدنيسها بأيادي عربية .
هذه العقلية المريضة تجد لها انعكاسا واضحا في حصيلة الحرب الوحشية في قطاع غزة . ضحاياها حتى الآن أكثر من 42 الف شهيد وصلوا الى المستشفيات منهم 17 الف طفل ز 12 الفا من النساء بينهم نحو 900 من الطواقم الطبية ، نحو 90 الفا من الدفاع المدني واكثر من 175 صحفيا ونحو مئة الف جريح ومصاب . في هذه الحرب تم استهداف 177 مركزا للإيواء ، وتم تدمير نحو 200 مقرا حكوميا ونحو 125 مدرسة و 5 من أصل 6 جامعات في قطاع غزة تم تدميرها بشكل كامل أو جزئي منها 3 جامعات تم تدميرها بشكل كامل واكثر من 600 مسجد وثلاث كنائس وخرج اكثر من 34 مستشفى و 80 مركزا صحيا عن الخدمة وتم تدمير 206 مواقع أثرية وتراثية ونحو 3130 كلم من شبكات الكهرباء و 34 منشأة وملعبا وصالة رياضية و 700 بئر مياه وإخراجها عن الخدمة. أما في الضفة الغربية فقد اقترب عدد الشهداء الفلسطينيين من 700 شهيدا منذ 7 أكتوبر الماضي عدا عن تدمير البنية التحتية في عدد من المخيمات وخاصة في محافظات جنين وطولكرم ونابلس وطوباس .
هذه الحصيلة توضح أننا أمام فاشية ظلامية تتحول بتصميم الى نازية عارية محمولة على موجة عالية من الكراهية العمياء لعماليق العصر ، حسب بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالنت وغيرهما من الوزراء والزعماء في اسرائيل ، الذين يشاغلون الرأي العام بالبحث عن ” مخطوفين ” وينفخون في الوقت نفسه في ” بوق الانتقام ” من العماليق في أجواء يغيب عنها العقل . قليلة إن لم تكن نادرة في اسرائيل هي الاصوات ، التي تدرك عمق الهوة ، التي انحدرت اليها الاحزاب الصهيونية على اختلاف تلاوينها ، هوة السقوط في انحدار ضحايا النازية الى نازيين جدد . الاصوات ، التي ترى هذا السقوط المتسارع ، هي حالات استثنائية ، كحالة رئيس الكنيست الأسبق ابراعام بورغ ، الذي كتب في الثالث من آذار العام الماضي مقالا في جريدة ” هارتس كسر فيه الصمت . ” هناك نازية يهودية تحكم في اسرائيل ” في اشارة الى الحكومة الاسرائيلية الحالية ” يقودها زعماء يؤمنون بعقيدة العرق اليهودي والتفوق اليهودي ، تماما كما النازية الألمانية ” . حسب ابراهام بورغ فإن نتنياهو يقود تحالفا من أحزاب تستند الى نفس منطلقات الحزب النازي الألماني ، الذي كان يمجد القومية الألمانية باعتبارها قيمة عليا تعلو جميع القيم ويروج لعقيدة العرق الآري وتفوقه على غيره من الأعراق ، تماما كما يفعل قادة أحزاب الصهيونية الدينية وعدد من قادة الليكود ، الذين يتشاركون معهم في قيادة الدولة .