المسار الإخباري :■ أهمية هذا السؤال، تعكس طبيعة الحال الفلسطينية التي باتت تبعث على القلق الشديد، ولم يعد بالإمكان تجاهل المخاطر المحدقة بهاـ والتي باتت على الأعتاب، لا يفيد معها أن نتجاهلها أو أن نتمهل أو نتلكأ تحت أي عذر كان، خاصة ذلك العذر القبيح الذي يدعي الحكمة، حين يقول عليكم قبل أن تبادروا إلى أي خطوة أن تدرسوا اليوم التالي، حتى لا يصيبنا ما أصاب قطاع غزة بعد طوفان الأقصى، في موقف يحمل في طياته دعوة إلى الاستغراق في الغيبوبة والانتظار، والجمود، في رهان على ما سوف يقدمه لنا الآخرون من حلول.
والحال الفلسطينية كما أراها باتت أشبه بطائرة بلا ربان، تطير على غير هدى، تتقاذفها الرياح في أمل أن تصطدم بجبل، أو أن تهوي إلى وادٍ سحيق، أو أن تغرق في ممر يبتلعها فلا يبقى لها أثراً.
كما تشبه من جهة أخرى، سفينة، وقف بها القبطان، في قمرته فقد بوصلته، كما انكسرت الدفة وغاصت في المياه، تتقاذف السفينة الأمواج العاتية، والرياح العاتية بانتظار موجة صاخبة تبتلعها هي الأخرى وتغوص بها إلى الأعماق، لتصبح مجرد ذكرى، لا أكثر.
ولا يفيد القول هنا، إن هذه المشاهد شديدة القتامة، والتشاؤم، وإن إرادة الصمود أقوى من كل المؤامرات والمشاريع المعادية، وإن إرادة النصر سوف تتغلب على كل صور التشاؤم.
هذا كلام مرسل لا يفيد في رسم مستقبل الشعوب والدفاع عن مصالحها.
كما لا يفيد القول هنا، إننا نملك هدفاً واضحاً، هو الدولة المستقلة، على حدود حزيران (يونيو) 67 وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين. هذا الهدف رسمناه منذ العام 1974، ومازال الطريق يزداد بعداً، وتزداد العقبات تباعاً، ومازالت المشاريع المضادة تغلق عليه المسار وتعيقه وتعرضه لمخاطر جمة. رغم كل ما قدمنا من أجل هذا الهدف المقدس، من تضحيات غالية، خاصة وأن الآخرين يعملون بطرائق مخالفة لطريقتنا. نحن نرسم الهدف ولا نملك الخطة، ولا نرسم الطريق ولا نكرس الأدوات لذلك.
أما هم، فيعلنون عن أهدافهم المبيّتة، ويرسمون طريقهم، ويعملون على التقدم نحوها، ليصلو إلى الهدف المبيّت، والقائمة حافلة بالأمثلة الكثيرة.
■■■
واشنطن تملك مشروعاً واضح المعالم لمستقبل القطاع، قدمته إلى القيادة السياسية للسلطة، أشركت في صياغته، وجندت لتنفيذه أطرافاً عربية، وغربية، تجعل فيه، من السلطة الفلسطينية شاهد زور، مطلوباً منها أن تصدر المراسيم والقوانين لتشرع الخطة الأميركية القادمة كما هو واضح، إلى فصل القطاع عن الضفة الغربية في خطوة مكشوفة، لتدمير الأساس الجغرافي والديمغرافي، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، في عناصرها، بما يستجيب للمشروع الوطني الفلسطيني.
بالمقابل يعمل نتنياهو وجيشه على تهيئة الأوضاع في قطاع غزة، لفرض مشروعه الاستعماري، بذريعة توفير الأمن لإسرائيل، والمجازر في الشمال على قدم وساق، يُقتل فيها ويجرح بالآلاف وكأن هذا العدد من الشهداء والجرحى بات ظاهرة طبيعية، ينظر إليها المجتمع الدولي، بما في ذلك العرب وبعض الفلسطينيون باعتباره قدراً لا مفر منه تعبيراً عن حالة عجز وافتقار للإرادة.
نتنياهو يعمل على تحضير شمال القطاع ليكون امتداداً لمشروعه الاستعماري الأمني الاستيطاني في رهان على حشر الملايين في جنوب القطاع، سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى انفجار داخلي يصبح معه التهجير بالقوة أو طوعاً هو الحل، في ظل نزاع سياسي أمني، وغياب الحلول المدروسة خاصة مشاريع إعادة البناء وإعادة تنظيم صفوف المجتمع وتوفير عناصر العيش الكريم ولو بحده الأدنى.
بالمقابل، يلاحظ أن الحالة الفلسطينية وفي تثاقل غير طبيعي، فشلت حتى الآن في الوصول إلى صيغة من شأنها إسناد أبناء القطاع، وتعزيز قدرتهم على الصمود والبقاء. إلى أن يفاجئنا مشهد اقتحام الجائعين، الحاجز إلى سيناء هرباً من الموت والجوع، واليأس من قدرة القيادات الفلسطينية على تحمل مسؤولياتها.
أما ما يجري في الضفة الغربية، فهو أكثر خطراً مما يجري في القطاع، فالضفة هي المحطة الجوهرية للمشروع الوطني، وفيها تدور معركة الحسم ضد المشروع الصهيوني. ما يجري في الضفة الغربية تجاوز حدود التخطيط، وانتقل على مرحلة التنفيذ.
الضفة تتعرض لحرب مفتوحة يشنها ضدها جيشان، الجيش الإسرائيلي وجيش المستوطنين المؤطرين في تشكيلات مسلحة ومدربة، وتقوم على اقتراف الأعمال القذرة من حرق وتدمير، وإتلاف للمزروعات والاستيلاء على الأراضي، وإقامة بؤر استيطانية غير شرعية، سرعان ما يتم تسريبها وضمها إلى الكتل الاستيطانية.
ودون الدخول في تفاصيل ما يجري في الضفة، ودون أن نعود لاستعراض تفاصيل مشروع سموتريتش، حول مستقبل الكيان الفلسطيني، ودون أن نستعيد وقوف نتنياهو في الأمم المتحدة، وفي الكونغرس الأميركي يعرض خرائط مستقبل دولته، التي خلت من أي إشارة إلى الضفة الغربية، نتساءل ما هو المشروع الوطني وخطته العملية للتصدي لما يجري ميدانياً. وأي دولة فلسطينية هذه التي نتغنى بها واقتصادها رهن بجندي إسرائيلي على المعابر، يسمح ويمنع حركة التصدير والاستيراد. وأي دولة فلسطين هذه التي نتغنى بها ومفتاح ماليتها العامة بيد وزير المال الإسرائيلي سموتريتش. وأيّة سلطة فلسطينية هذه التي لا تمتلك سلطة منح رخصة بناء لمنزل، هنا وهناك. وأيّة حكومة فلسطينية هذه التي يتم الإشادة بها، لا تمتلك القدرة على التحرك بين المحافظات دون التنسيق المسبق مع حواجز الاحتلال، ثم أيّ مشروع وطني نتحدث عنه لا يملك الخطة للوصول إلى تحقيق أهدافه؟
■■■
راهنت القيادة الفلسطينية منذ العام 2004 على حل الدولتين الذي دعا له بوش الابن، والذي كان ثمنه باهظاً وباهظاً جداً. انتهى الوعد عام 2008 باعتذار بائس، في ظل حرب دموية شنتها إسرائيل على قطاع غزة.
انتقل الرهان إلى الرئيس أوباما، الذي انتهى بالاعتراف أن إسرائيل غير راغبة بالسلام.
ورغم هذا الاعتراف الصارخ على لسان وزير الخارجية جون كيري، عاد الرهان هذه المرة على الرئيس ترامب الذي وعدنا «بصفقة القرن»، للكشف أن الصفقة كانت في حقيقتها «صفعة مدوية» لم تكتفِ بسلب الحقوق الوطنية، وعناصر المشروع الوطني فحسب، بل ذهبت إلى إعادة هندسة المنطقة عبر وضع الأساس للتحالف العربي الإسرائيلي، على حساب الحقوق الفلسطينية، ونسف مبادرة السلام العربية التي تحولت إلى مجرد خرقة بالية.
ورغم الدروس القاسية التي حملتها التجربة مع ترامب، عاد الرهان على وعود بايدن، بما في ذلك تقديم التنازلات المجانية له، بما في ذلك الانقلاب على قرار 19/5/2020 للتحلل من التزامات اتفاق أوسلو، والانقلاب على مخرجات اجتماع الأمناء العامين في 3/ 9 /2020 بناء القيادة الموحدة للمقاومة الشعبية، وبناء استراتيجية كفاحية جامعة وموحدة ضد الاحتلال والاستيطان.
وعود بايدن كانت كلها كاذبة، بل منحازة إلى جانب إسرائيل وحربها الوحشية ضد أبناء القطاع، كما كشفت عن هويتها الصهيونية، وألقت بكل وعودها والتزاماتها تجاه القيادة السياسية الفلسطينية في سلة المهملات.
ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، بدأت وسائل إعلام عربية معروفة المقاصد والأهداف والمرجعيات، تحاول أن تعيد تقديم الرئيس المنتخب في نسخة جديدة، تمحو من الذاكرة نسخته القديمة التي ألحقت بالقضية الوطنية خسائر كبرى، ليس أولها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وفرض الحصار المالي على وكالة الأونروا.. وقد أسهمت وسائل الإعلام التابعة لترامب في صياغة هذه النسخة، حين نقلت عنه قوله إنه قادم لوقف الحروب، وليس لإشعالها، ولنشر السلام في العالم. دون أن توضح عن أي سلام يتحدث؟، ألم يكن تحالف أبراهام هو مشروعه للسلام في المنطقة. ألم يطلق «صفقة القرن» باعتبارها هي مشروعه للسلام، ثم هل يكفي أن يتحدث ترامب عن السلام، كي نندفع ونصافحه ونقول له إننا نمد يدنا نحوه من أجل العمل معه لصناعة السلام. هل تجاهلنا ما اقترفه، وهل قدم لنا ضمانات بأن سلامه المزعوم سيكفل للشعب الفلسطيني حقه في الحياة الكريمة في دولة مستقلة كاملة السيادة. وبالتالي هل سينازع نتنياهو من أجل الفلسطينيين، كي يرغمه على التراجع عن مشروعه لإسرائيل الكبرى.
إن العودة إلى الرهان على الوعود الأميركية، ماهي إلا خطوة جديدة نحو كارثة وطنية، سيدفع الشعب الفلسطيني ثمنها غالياً، كما دفع في ولاية ترامب الأولى وما زال ندفع.
■■■
ما العمل؟
نحن أمام خياران:
• الخيار الأول هو الاستمرار على النهج ذاته في الرهان على الآخرين ووعودهم ليخططوا للشعب الفلسطيني ويرسموا له مستقبله السياسي، على يد الولايات المتحدة، وتكتفي المراجع الرسمية الفلسطينية بإصدار البيانات وتدبيج الخطابات، والتمويه على سياستها الإنتظارية بشعارات فارغة المضمون، معلقة في الهواء، لا تستند إلى رؤية وخطة وإرادة. في الوقت نفسه تستمر في إسرائيل وأميركا رسم خططهما وتنفيذها وتحقيق أهدافهما السوداء، إلى أن نصل إلى موقف نبدي فيه الندامة، حيث لا نفعل للندامة.
• الخيار الثاني أن يلتفت الفلسطينيون إلى أوضاعنا الداخلية، وأن يخطوا الخطوات الجريئة لإعادة بناء نظامهم السياسي، في مؤسسات جامعة للكل، دون استثناء أو دون حسابات ضيقة، توحدهم في مواجهة المشاريع المعادية، وترسم في سياقها استراتيجية كفاحية وطنية، وفقاً لرؤية جامعة، تشرع للشعب الفلسطيني اللجوء إلى كل أشكال المواجهة والمقاومة في الميدان، وفي المحافل الدولية، وأن نعيد تقديم القضية الوطنية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر لشعب تحت الاحتلال، له الحق في اللجوء إلى كل ما يمكّنه من تحرير أرضه واستعادة سيادته عليها، وبناء دولته المستقلة، وعودة لاجئيه ، مستنداً إلى الشرعية الدولية، وإلى دعم المجتمع الدولي.
ولا شك أن الحوارات الوطنية في القاهرة والجزائر وبيروت، وموسكو وبكين، تركت للفلسطينيين تراثاً غنياً من المشاريع والأفكار ما يمكنهم من تحويلها إلى خطط فاعلة، وإلى آليات فعّالة، تعزز إرادتهم والتحامهم الوطني، تقطع الطريق على المطبعين اليائسين المرعوبين مما يسمونه اليوم التالي إذا ما دخلت المواجهة، اليوم التالي نحن نصنعه ونحن نفرضه، وأن الأمر شديد البؤس أن نبقى صامتين، مترددين، نتهرب من المواجهة حتى لا تقودنا المواجهة إلى اليوم التالي الإسرائيلي.
نحن في محطة مفصلية، في فلسطين ولبنان وإسرائيل، وفي أكثر من بقعة في العالم. علينا أن نكون على مستوى استحقاقات المرحلة، فنحن، لمن لا يدري، قوة فاعلة في العالم وقضيتنا قضية مركزية في الإقليم وفي العالم، وآن لنا أن ننهض لنكون على مستوى هذه الصفة، وأن ننفض عنا غبار الانتظار، والجمود، والتردد، والرهان على الآخرين.
لنترك روح الانكسار، جانباً، ولنتسلح بإرادة المواجهة والمقاومة، قبل فوات الأوان. ■