فلسطينيمقالات

كتب فارس بدر .. *المستوطن والأصلاني: بين وهم التحوّل وإعادة إلانتاج *

المسار : تُعَدُّ مسألة المستوطن والأصلاني واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل والتعقيد في سياق نظريات الاستعمار الاستيطاني. يبرز هنا سؤال مركزي: هل بالضرورة للمستوطن أن يتحول إلى أصلاني مع مرور الوقت، من خلال الاندماج أو إعادة تشكيل هويته في علاقته بالأرض؟ في العقود الأخيرة، ظهرت محاولات تنظيرية تسعى إلى تجاوز الثنائية الصارمة بين المستوطن والأصلاني، مثل تلك التي قدّمها كل من رائف رزِّيق ومحمود ممداني. هذان المفكّران، كلٌّ بطريقته، يحاولان إعادة تعريف العلاقة بين الفاعلين في السياق الاستيطاني، متجاوزين المفاهيم التقليدية التي تؤكد على القطيعة الجوهرية بين المستوطن والأصلاني. ومع ذلك، ورغم ما تبدو عليه هذه المقاربات من طابع “تقدّمي”، إلا أنها تعاني من اختلالات فلسفية ومعرفية عميقة، تنتهي في جوهرها إلى التخفيف من حدة التناقض البنيوي للاستعمار الاستيطاني، بل وتمهد الطريق لسرديات تبريرية تُعيد إنتاج خطاب المستوطن، وإن كان بلغة أكثر مرونة.
يعتمد رائف رزِّيق في أطروحته على فكرة أن الاستعمار الاستيطاني ليس عملية خطية تنتهي عند نقطة محددة، بل هو سيرورة تاريخية قابلة للتحوّل والتكيّف. وفقًا لهذا المنطق، فإن المستوطن، عبر الأجيال، قد يفقد علاقته بمشروع اقتلاع و إزاحة الأصلي ويبدأ في التماهي مع المكان حتى يصبح “أصلانيًّا جديدًا”. لكن هذه الفكرة، رغم ما تبدو عليه من انفتاح، تقوم على مغالطة جوهرية: الأصلانية ليست مسألة زمنية، بل هي بنية سلطوية. لا يتحوّل المستوطن إلى أصلاني لأن المشكلة لا تكمن في كونه “غريبًا وافدًا”، بل في كونه جزءًا من منظومة هيمنة مستمرة تُعيد إنتاج علاقتها الاستيطانية بالأرض والأصلانيين.
إن الادعاء بأن الزمن قادر على تطبيع الاستيطان يتجاهل الطابع المتجدد للعنف الاستعماري، حيث لا ينتهي الاستعمار الاستيطاني عند لحظة “اكتماله”، بل يستمر في إعادة ابتكار آلياته للسيطرة والتهميش. حتى في الحالات التي تم فيها “توطين” المستوطنين عبر الزمن، كما في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، لم يكن ذلك يعني تحوّلهم إلى أصلانيين، بل نجاحهم في فرض سرديتهم على حساب الإبادة والاقتلاع. فالمستوطن لا يندمج في الأصلانية، بل يُعيد تشكيل الفضاء السياسي والاجتماعي وفق شروطه، ويُنتج خطابًا يُعيد توصيف نفسه كجزء طبيعي من الأرض.
من جهته، يحاول محمود ممداني في كتابه “لا مستوطن ولا أصلاني” تفكيك ثنائية المستوطن/الأصلاني عبر مقاربة ترى في هذه العلاقة مجرد تمظهر لصراعات تاريخية أوسع، تتعلق بالحداثة والاستعمار، بدلاً من كونها بنية مادية محددة. يذهب ممداني إلى أن الحل يكمن في تجاوز هذه التصنيفات عبر تفكيك الدولة الاستعمارية وتحويلها إلى كيان ديمقراطي يحتضن الجميع. لكن المشكلة في هذا الطرح أنه يُفكّك الاستعمار على مستوى الخطاب دون المساس بآلياته المادية.

فعندما يطالب ممداني بإعادة تعريف العلاقة بين المستوطن والأصلاني كمسألة تتعلق بالمواطنة وليس بالاستعمار، فإنه يُسقط البُعد الإبستيمولوجي للمشكلة، حيث لا يمكن للمواطنة أن تكون حلًّا في سياق لا تزال فيه البنية الاستعمارية قائمة.
بمعنى آخر، بينما يدّعي ممداني أنه يسعى إلى تجاوز الاستعمار الاستيطاني، فإنه في الواقع يقدّم وصفةً لإعادة إنتاجه بشكل أكثر قبولًا، حيث يصبح الحل هو دمج المستوطنين في منظومة مواطنية جديدة، عوضًا عن مساءلة موقعهم كمستفيدين من بنية إقصائية. وهذا يعيدنا إلى نقد فرانز فانون للاستعمار، حيث يوضح أن المستعمِر لا يصبح “غير مستعمِر” عبر إعادة تعريف موقعه القانوني، بل فقط عبر تفكيك سلطته بالكامل.
هذه المقاربات التي يحاول رزِّيق وممداني ترسيخها تجد صدى في أطروحات ظهرت في أماكن أخرى من العالم، مثل دراسات ما بعد الاستعمار التي حاولت في بعض الأحيان تقديم المستوطنين في الأمريكيتين وأستراليا كـ”شعوب محلية جديدة”. أحد أكثر الأمثلة تطرفًا على ذلك هو النقاش حول إضفاء الطابع الاصلاني على المستوطنين أي محاولة تصوير بعض المستوطنين كمجموعات أصلانية جديدة نتيجة انخراطهم في نضالات محلية أو إعادة تكييف هويتهم الثقافية.
في الواقع، مثل هذه السرديات لا تؤدي إلا إلى تعزيز المشروع الاستيطاني عبر تحويل مسألة الاستعمار إلى نقاش حول الهوية بدلاً من البنية المادية للهيمنة. الباحثة الأسترالية Aileen Moreton-Robinson تنتقد هذا التوجه بحدة، حيث ترى أن فكرة “الأصلاني الجديد” ليست سوى محاولة لإعادة إنتاج سيادة المستوطن عبر نزع الشرعية عن مطالبات الشعوب الأصلية، وإيهامهم بأن القضية لم تعد استعمارية، بل مجرد “تعددية ثقافية غير متكافئة”.
إذا كان المستوطن لا يتحوّل إلى أصلاني، فماذا يعني ذلك على المستوى السياسي؟ الإجابة واضحة: لا يمكن حل التناقض بين المستوطن والأصلاني عبر الزمن أو المواطنة الشكلية، بل فقط عبر تفكيك البنية الاستعمارية ذاتها. هذا لا يعني بالضرورة الطرد الجسدي للمستوطنين كما قد يدّعي البعض، لكنه يعني الاعتراف بأن وجودهم ليس مجرد “أمر واقع” يجب التكيف معه، بل مشكلة سياسية لا تُحل إلا عبر إعادة توزيع السلطة، والموارد، والسيادة، على أسس تعيد للأصلاني موقعه التاريخي الذي سُلِب منه.
إن محاولات مثل تلك التي يقدّمها رزِّيق وممداني ليست سوى شكل جديد من الإنكار، حتى لو كانت تتخفّى خلف لغة نقدية تبدو جذابة للبعض. إنها لا تطرح حلولًا حقيقية، بل تكرّس الوهم بأن الاستعمار يمكن أن يصبح “أقل استعمارًا” مع مرور الوقت، وأن الجريمة يمكن أن تتحول إلى حق طبيعي فقط لأنها استمرت لقرون. وكما يقول والتر بنيامين: “حتى الموتى لن يكونوا في مأمن من العدو إذا انتصر، وهذا العدو لم يتوقف عن الانتصار.”