
نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالاً لبن لينفيلد، مراسل صحيفة “جيروزاليم بوست” سابقاً، قال فيه إن معاناة الفلسطينيين غير حاضرة في تغطيات التلفزة الإسرائيلية، ما يسهم بفجوة فهم لحرب غزة.
وقال إن الصور القادمة من الحرب هي عن فلسطينيين يحفرون بأيديهم تحت الأنقاض بعد غارات إسرائيلية، وعن مسؤولين في الأمم المتحدة يصفون الجوع المتزايد، والأطفال المغطاة وجوههم وأجسادهم بالدماء وينقلون عبر ممرات المستشفى، وهي صور تتكرر في التغطية الإعلامية للهجوم الإسرائيلي الذي شن، بعد هجمات “حماس” المفاجئة، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ضد إسرائيل.
لكن على شاشات التلفزة الإسرائيلية من غير المحتمل أن تشاهد المعاناة هذه، والموت، وحتى وجوه المدنيين الفلسطينيين، حسب الناقدين الإعلاميين وغيرهم ممن راقبوا التغطية الإسرائيلية عن كثب.
ويقول شوكي توسينغ، محرر “سيفنث آي”، إن “الوسائل الإعلامية المركزية تتجاهل، وبشكل مستمر وكامل، وجود الناس في قطاع غزة”.
تحسّر مقدم برنامج على مقتل 14 كلباً من وحدة الكلاب البوليسية. نفس اليوم كان يوماً دموياً بالنسبة للفلسطينيين، حيث قتلت الغارات الإسرائيلية أكثر من 100 فلسطيني
ويقدّر توسينغ الوقت الممنوح لغزة في قنوات التلفزة الإسرائيلية بـ “صفر”. وتأكدت صحة هذا الرأي، في بث على التلفزيون الأكثر شهرة في إسرائيل، القناة12، فرغم أن التغطية ركزت على الحرب في غزة، إلا أن ما كرّس لمحنة الفلسطينيين لم يتجاوز لحظات.
وفي لقطة واحدة، ظهرت مجموعة من الناس تنتقل على عربة يجرها حمار، وأخبر تعليق إلكتروني المشاهدين أن حوالي مليوني فلسطيني تركوا بيوتهم، ولكن بدون أي تفصيل.
وتقول الين فيشر- إيلان، المحررة السابقة للأخبار في “جيروزاليم بوست” والنسخة الإنكليزية لـ “هآرتس”، إن المشاهدين الإسرائيليين لا يحصلون إلا على جانب واحد من الصورة عما يحصل في غزة، وعبر عدسة عدد المقاتلين في “حماس” الذين قتلوا، والسكان الذين تم إجلاؤهم، و”لا توجد هناك تفاصيل عن المعاناة هناك، وكله من خلال سياق لوم حماس”. وبدلاً من ذلك، يركز البث عادة على القصص التي تظهر الجنود الإسرائيليين وهم في طريقهم للقتال ومعاناة العائلات التي أخذت “حماس” أبناءها كرهائن.
ويقول المدافعون عن التغطية الإسرائيلية التي تتجاهل معاناة الفلسطينيين إن الدول التي تعيش نزاعاً حربياً، من الطبيعي أن تمنح الأولوية لمعاناة جانب واحد. ويقول ميتال بالماس، البرفسور في كلية الاتصالات بالجامعة العبرية: “هناك حرب، ولدينا رهائن بوضع صعب في غزة، وجنود يموتون كل يوم، وعدد ضخم من الناس بدون مأوى، فمن المعقول أن يتعامل الإعلام، وأثناء الحرب، أولاً وأخيراً مع المعاناة داخل إسرائيل”.
شجبت صحيفة “هآرتس” لا مبالاة الصحافيين الإسرائيليين تجاه محنة الصحافيين في غزة
وقال أور سيلكوفنيك، مدير القناة 13، إنه لا يوجد قرار حاسم لإخفاء معاناة الطرف الآخر، لكن رفع معنويات الإسرائيليين، جزءٌ مهم من وظيفته. وقال: “دائماً نقدم تحقيقاً للحقيقة، لكن في هذه الحرب فإننا أولاً وأخيراً إسرائيليون، ونغطي ما يحدث هنا للعائلات والقتل الفظيع [7 تشرين الأول/أكتوبر]، الشهادات والصور حولها، والتي تأتي باستمرار، والرهائن المحررين الذي يقدمون مقابلات. وفوق كل هذا، هذا هو ما يشغلنا”. و”نتبنى الجنود ونذهب معهم إلى الميدان، وهذه هي أولويتنا لإرسال رسالة حب وإعجاب إلى جانب البحث عن الحقيقة والنقد”.
وبالنسبة لبعض المراقبين، فمنح الأولوية للجنود الإسرائيليين هو أيضاً تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم. وقال مراسل الشؤون العربية تيسفي يحزقيلي، الشهر الماضي، معبّراً عن الأسى لعدم قتل إسرائيل أعداداً أكبر من 23.000 فلسطيني قتلوا في الحملة العسكرية: “حسب رأيي، كان علينا قتل أعداد مضاعفة أكثر من 20,000 شخصاً، وكان علينا البداية بضربة من 100,000 شخص”. بل ووضعت القناة 13 منشوراً على موقع إكس، بشأن دعوة يحزقيلي للقتل الجماعي للفلسطينيين قبل أن تحذفه. وقال سيلكوفنيك: “كان يتحدث عن الإرهابيين وداعمي حماس”، وأضاف: “كان هذا رأيه الشخصي، أما نحن فلن ندعم أبداً مقتل الناس الأبرياء”.
وفي لقطة من القناة 12، في برنامج ليلي بث قبل فترة، ركزت على ما قدّمه وحلّله الجنرال المتقاعد إسرائيل تسيفي عن “الحملة المدروسة والدقيقة” التي شنّها الجيش الإسرائيلي، مرفقة بصور الجنود والدبابات. واحتوت اللقطة على تصريح للمتحدث باسم الجيش بشأن اختفاء ثلاثة من الرهائن لدى “حماس”. وعرضت القناة لقطات عن زيارة نائب الرئيس الأمريكي السابق مايك بنس التضامنية، والذي زار المناطق التي تعرضت لهجمات “حماس” على إسرائيل، وعرضت لقطة دعائية عن مقابلة قادمة لواحدة من الرهائن المحررين، وهي ممرضة عالجت الآخرين أثناء احتجازهم لدى “حماس”. وذكرت القناة أن المستشفيات في إسرائيل مزدحمة بسبب نزلات البرد الموسمية والجنود الجرحى. وفي نهاية العرض تحسّر مقدم البرنامج على مقتل 14 كلباً من وحدة الكلاب البوليسية.
وفي نفس اليوم الذي تحسّر فيه المذيع على الكلاب كان يوماً دموياً بالنسبة للفلسطينيين، حيث قتلت الغارات الإسرائيلية أكثر من 100 فلسطيني.
واستهدفت الغارات محور المواصي الذي حددته إسرائيل كمنطقة آمنة من العمليات العسكرية في الشمال والوسط والجنوب في غزة، وقتل 12 شخصاً في تلك الغارة الجوية، بمن فيهم أطفال. ونشرت “الغارديان” صورة امرأة تندب في المواصي أمام جثث القتلى في مستشفى. ونفى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، في تصريحات لفورين بوليسي، معرفته بالحادث.
وتقول فيشر- إيلان، التي عملت أيضاً مع “رويترز” و”أسوشيتد برس”، إن القنوات الإسرائيلية، وبهذه التغطية من جانب واحد، تنتهي وكأنها مطبلة للحرب. وقالت: “هناك نوع من أسلوب الدعاية: “هذا ما فعلوه لنا”، وأنا غير متأكدة من أنها فكرة جيدة لعدم رؤية ما يجري للطرف الآخر”.
وتعطي تغطية القناة 12 فكرة عن الفجوة في فهم الحرب في إسرائيل، وأنها حرب وجودية، بالمقارنة مع الإعلام الدولي الذي يؤكد على أن الحصيلة العالية من القتلى المدنيين لم تعد محتملة. وتزعم إسرائيل أنها تتخذ الاحتياطات لخفض الضحايا بين المدنيين، ولكنها تتهم “حماس” بالتخفي بينهم. ومنعت الصحافيين من دخول غزة باستثناء من يرافقون الجيش.
وقال توسينغ إن الخبراء الذين تقابلهم القنوات الإسرائيلية عادة يكونون ضباطاً عسكريين واستخباراتيين متقاعدين و”في الصورة، ربما شاهد الإسرائيليون بناية تدمر، ولكنهم لا يرون بشراً” كانوا فيها.
الخبراء الذين تقابلهم القنوات الإسرائيلية هم غالباً ضباط عسكريون واستخباراتيون متقاعدون
أما الأزمة الإنسانية، فيتم الإشارة إليها، ولكن ليس دائماً، و”إنها مثل ثقب أسود”.
وفي جولة لأنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي بالمنطقة، قال إنه حث الإسرائيليين على تجنب قتل المدنيين، وكان يتحدث بعد مقتل الصحافيين في “الجزيرة” حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا، بشكل زاد عدد الصحافيين الفلسطينيين الذين قتلوا في غزة إلى 72 صحافياً، حسب أرقام استشهدت بها “هآرتس”، وشجبت الصحيفة لا مبالاة الصحافيين الإسرائيليين لمحنة الصحافيين في غزة.
وخصصت الصحيفة مساحة واسعة للأزمة الإنسانية في غزة، وزيادة عدد القتلى المدنيين إلى جانب مجلة +972 والتي تنشر طبعة بالعبرية، لكن مدى وصول هذه الوسائل الإعلامية ضيق، مقارنة مع قنوات تلفزيونية. وكان عدد المشتركين في موقع “هآرتس” عام 2021 بنسختيه الإنكليزية والعبرية والمالية “ذي ماركر” هو 100,000 مشترك، مقابل أضعاف المشاركين في القناة 12 والمتابعين لها.
وتقول فيشر- إيلان إن التغطية من جانب واحد مضرة للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء: “عندما تبدأ بالرقابة على المعاناة الإنسانية، فلا تستطيع فرض الرقابة على ما يحدث لشعبك”.