فلسطينيمن الذاكرة

الحاجة عريفة.. عندما تصدح الحكايات من جدران البيوت المهجورة

المسار … “حكايتي من البيرة”

هناك حكايات لا تُروى، بل تُحسّ. حكايات لا تُحفظ في كتب، بل تتسرّب في الذاكرة كما يتسرّب العطر في مسامات الورد اليابس. ومن بين أزقة البيرة القديمة، حيث تصدح الحكايات من جدران البيوت المهجورة، وتنبت الذكريات بين حجارة الطابون ورائحة الميرمية، تنهض عريفة عابد (أم أيمن). تعجبني تفاصيل حياتها، انفردت بها وحدها، وكانت قصصها تسير كالحكايات في أزقة الذاكرة.

الحاجة عريفة عابد (أم أيمن)… ما عرفتها البيرة صوتاً عابراً، بل كانت الزغرودة التي تشقّ صمت الحارات، وكانت المهاهاة التي تُعلن فرح البيوت، وكانت النسوة لا يبدأن زفّة دون أن تتقدّمهن عريفة. نحيلة الجسد، حادة الملامح، وكان صوتها علامة فارقة. كانت البيرة تُخاطبها، وكانت تردّ عليها بزغاريد، وبضحكةٍ ملأى بالتحدّي رغم مرارة الزمن.

في زفّات كل عروس من أهل البيرة، كان العريس يمتطي فرساً وينتظر عند الجامع العمري، وتحيط به النساء من كل صوب. تزفّه النساء وتكون عريفة بينهن، وخلفهن حلقات من الرجال يتسامرون ويرددون تراث البيرة، مشياً على الأقدام، نزولاً إلى منتزه البيرة. يرتدين أثواباً ملونة جميلة؛ خمري، وأبيض، وأحمر، وثوب رومي… وكانت تفخر بكل ثوب صنعته بيديها.

كنتُ طفلةً صغيرة أُدقّق في ملامحها التي ترسمت على عثرات الزمان، كنت أدقق في تفاصيل وجهها الذي يروي حكايات المرارة والفقدان، وأحياناً أخرى أرى فيها تفاصيل ذاكرة بيراوية عريقة. أنظر إلى وجهها الصغير جداً، وإلى عينيها الحادتين، وأتساءل: كيف تختزن كل هذه القوة؟ كنتُ أراكِ يا عريفة، في زوايا البيرة، تصرخين عليّ وأنا ألعب في الأزقة.

ربما كانت تزعجك مشاكساتي، وربما كنتِ تحبين هدوء اللحظة.

وأشتاق اليوم لصراخك ذاك، الذي كان يصدح صدى صوته في كل بيت قديم في حارة عابد، اغترب أهله إلى أمريكا.

كنتِ أنتِ ترقصين مع الحكايات والذكريات.

أتدرين يا عريفة؟ لم أكن أجد مرحاً في أي مكان كما كنت أجده في النظر إلى أغنامك وخرافك الصغيرة.

كنتُ أخاف من عيونهم، وأخاف من كلب جارنا أبو حربي. كانت لديّ فوبيا الكلاب، وكنت أحبّ القطط منذ صغري.

أتذكّر فرن الطابون، والحجارة الصغيرة التي ترتّبينها، ومطبخك الضيق الدافئ الذي يفيض حناناً لعائلتك الكبيرة.

وتلك العتبة التي كنتِ تجلسين عليها مع نساء الحارة: سامية، حورية، وسكيبة…

منكِ تعلّمت تراث البيرة، من أثوابك، ولهجتك، ومأكولاتك، وكأس الشاي بالجعدة والأعشاب. كنتِ ترددين دائماً: “جينا نغني ونهاهاي، مشان إمّه!”، ما أجمل صوتك حين يعلو، كان مميزاً بين تلك النسوة. هذا صوت أم أيمن… عريفة.

وترفعين يديكِ بالتسحيج، ويلوح منديليكِ بالفرح، وتقولين: “الله يمسيكم بالخير يا ضيوف، ويا محلية!”، إنها عريفة، الحافظة للأهازيج البيراوية التي لا تجدها في كتب، ولا تتناقلها الإذاعات.

أتذكّر محلك الصغير على الشارع، ذلك الذي كنتِ تديرينه مع زوجك، لكن ما بقي عالقاً في ذاكرتي هو طعم البوظة بالليمون. أينما التفتّ، أجدكِ، تمشين بخفة، بجسد ممشوق، ترقصين رقصة البيرة كأنكِ حبّة ذرة في مقلاة الزيت.

لا أذكر كيف توفي زوجك، فقد كنتُ صغيرة، لكنني أذكر أن ريناد كانت تأخذني إلى قبره وتبكي بحرقة. كانت طفلة، لكن قلبها كان مليئاً بالحنان. لقد عانيتِ، يا عريفة… أصبحتِ أرملة، وكنتِ خير أمّ، تربي وتكدّ وتجتهد.

كنتِ كاللبؤة، تنقضّ على كل من يعكر صفو ابنك مأمون رحمه الله، ذلك الطفل المختلف، الذي لم نفهم صغاراً أنه من ذوي الإعاقة. ولكنكِ كنتِ تفهمين وتحمين، بل كنتِ تذودين عن كل حفيد وحفيدة، لا تحبين أن يقترب أحد من حدود محبتك لهم.

كانت عريفة لا تسمح لأحد أن يعبث بكرامة من تحب، وكانت تحبّ كثيراً… حدّ الذوبان. وكانت لكِ لغة خاصة مع خرافك، تحكين لها حكايات الشاطر حسن، وقصص القهر، والاغتراب، عن خبز الطابون والرز بالفلفل،

عن نضال، وأيمن، ونادر، عن دموع إيمان، وأمل، واغتراب نادرة، عن جمال هنادي، وحظ ريمان، وحلم ريناد.وعنادٍ تشبه ابنةً لا أذكر اسمها، وهدوءٍ يشبه الأخرى التي كانت تزرع الصبر في الحكاية.

كنتِ تحبين البيرة أكثر من قريتك الأصلية دير جرير، بل إنكِ كنتِ “بيراوية” أكثر من أبناء البيرة أنفسهم. كنتِ جزءاً أصيلاً من تراثها. تزوجتِ صغيرة، وزوّجتِ بناتك في عمر صغير، لكن من غيرك يملك قاموس الأهازيج والسحجات البيراوية؟

من بعدك يخبز خبز الطابون؟ من غيركِ يحدّث خرافه؟ من غيركِ مشت أرجاء البيرة بحكاياتها المتعثّرة؟ أتذكّر يوم أحضرتِ لأمي زوجاً من الحمام بعد عملية جراحية، لنعمل شوربة الزغاليل… كان كلامكِ يداوي الجروح، ودمعتكِ عند موت أمي، لا تُنسى. بكيتِ بحرقة وأنتِ تخبرينني عن حفيدك إسماعيل رحمه الله، وتغمرينني فخراً وأنتِ تحدّثينني عن عزيزة وذكائها في الغربة.

وإن سألت عن البيرة، فلا تذكرها دون عريفة. لم تكن من المدينة في الأصل، لكن المدينة تبنّتها، بل احتضنتها في وجدانها. كانت تعجن الطحين بالحنان، وتخبز لأهل الحاجة قبل أن يطرقوا بابها. كانت تسير نحو المحتل، لا تهاب، ترعى غنمها في الحقول المغلقة وتقول: “ما حدا بيمنع رزق من ربّه”.

ليت الزهايمر لم يأتك يا عريفة… أيّ ذاكرة تلك التي مُحيت؟ لكنني أجزم أنه لم يمحُ مدينة البيرة من قلبك، ولا ثوبك المطرّز، ولا خبز الطابون من تحت يديك.

ليت الذاكرة تعود، ليتكِ تصرخين فينا من جديد ونحن نلعب بين زقاق حارتكِ. ليت حمامكِ يعود ليطير فوق بيتنا بعد كل شفاء، وليَت شوربة الزغاليل التي كنتِ تحضرينها تُداوي أرواحنا من بعدك. ليت تجاعيد العمر لم تُخفِ ملامحكِ الأصيلة.

أم أيمن… كنتِ وما زلتِ عنواناً بيراوياً للتراث. وستبقين، مهما تغيّر الزمان،حكاية لا تُنسى، وصوتاً لا يصمت.

المصدر ….القدس دوت كوم

الكاتب …د. إيمان هريدي