المسار ■ في عتمة الحرب الوحشية غير المسبوقة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، تبرز حقيقة صادمة لا تقل فظاعة عن القصف والدمار والتهجير والتجويع، ألا وهي الاستهداف الممنهج للصحفيين. إنها ليست مجرد حوادث فردية، بل هي جريمة حرب متكاملة، تهدف إلى إخراس صوت الحقيقة، وطمس الرواية الفلسطينية، وتشويه الواقع على الأرض. في هذه الحرب، لم يكن الصحفي مجرد شاهد، بل تحول إلى هدف، لأن وجوده يمثل تهديداً مباشراً لرواية المحتل التي يسعى جاهداً لفرضها على العالم.
لقد بلغت إحصائيات استهداف الصحفيين أرقاماً مفزعة ومؤلمة، ففي مساء أحد الأيام، انضم مراسلا الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع، إلى قائمة مروعة تضم «238» صحفياً قتلتهم إسرائيل خلال حربها الوحشية على قطاع غزة. هذا العدد، الذي يتزايد باستمرار، ليس مجرد أرقام جامدة، بل هو إحصائية تنزف دماً، وتخبر عن حياةٍ أُزهقت، وأقلامٍ كُسرت، وكاميراتٍ حُطمت، وعائلاتٍ تكلّلت بالحداد، ومجتمعاتٍ فُقد فيها جزء من ضميرها وذاكرتها. استهداف أنس الشريف ومحمد قريقع لم يكن عرضياً، فقد قصفت خيمة تضم صحفيين في محيط مجمع الشفاء الطبي، وهو مكان يفترض أن يتمتع بحماية خاصة وفقاً للقانون الدولي الإنساني، ليتحول إلى مسرح لجريمة أخرى تضاف إلى سجل جرائم الاحتلال الطويل.
إن جوهر هذه الجرائم، وطريقة تبريرها، يكشف عن خطة استخباراتية محكمة. فبحسب المصادر، شكلت استخبارات الاحتلال الإسرائيلي «خلية متخصصة في البحث عن ذرائع للقتل الممنهج في غزة». هذه الخلية، التي بدأت عملها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تتخصص في البحث عن أي صحفي أو شخصية بارزة في غزة، والعمل على «نسج علاقة مباشرة له مع أي من فصائل المقاومة». الهدف من هذا التكتيك واضح ومكشوف: هو نزع الحصانة عن هؤلاء الأفراد، وتصويرهم كأهداف عسكرية مشروعة، وبالتالي، إضفاء شرعية زائفة على قتلهم أمام الرأي العام العالمي، ومحاولة الإفلات من المساءلة القانونية والأخلاقية. إنها استراتيجية شيطنة ممنهجة تهدف إلى تحويل حامل الكاميرا إلى حامل سلاح في عيون العالم.
وفقاً لتقرير بثته قناة الجزيرة، تقوم الدعاية الإسرائيلية على استراتيجية واضحة المعالم لتشويه الحقيقة وطمسها، وذلك من خلال احتمالين رئيسيين
التحريض الممنهج على شخص معين ومحاولة إلصاق صورة العمل السياسي أو العسكري به: هذا الأسلوب يعتمد على شيطنة الفرد المستهدف، وتجريده من صفته المهنية كصحفي، وتحويله في نظر الرأي العام إلى «مقاتل» أو «ناشط سياسي» ينتمي إلى فصيل مقاومة. الهدف هنا ليس فقط تبرير القتل، بل أيضاً تقويض مصداقية التقارير الإخبارية التي يقدمها هذا الصحفي، وإيهام العالم بأن كل ما يصدر عن الصحافة الفلسطينية هو «دعاية مقاومة» وليس تغطية صحفية موضوعية. إنها حرب على الرواية، تستخدم التضليل كسلاح فتاك.
التبرير المباشر والتهرب بعد تنفيذ عمليات القتل الممنهجة: بعد وقوع الجريمة، تتحول الدعاية الإسرائيلية إلى مرحلة الدفاع، وتقديم التبريرات المباشرة التي غالباً ما تكون ضعيفة ومفبركة، في محاولة للتهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم على الضحية. هذا التكتيك يعتمد على مبدأ «الهجوم خير وسيلة للدفاع»، حيث يتم توجيه الاتهامات للضحايا بهدف صرف الانتباه عن الجريمة الأصلية وتحويل النقاش إلى مسألة «شرعية» الهدف المقتول بدلاً من التركيز على جريمة القتل بحد ذاتها.
لقد شهدنا تطبيقات واضحة لهذه الاستراتيجية على أرض الواقع. فالناطق باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، لم يتوانَ عن اتهام أنس الشريف بأنه «مقاتل في حركة المقاومة الإسلامية». ولم يكن أنس الشريف الوحيد الذي تعرض لهذه الاتهامات الباطلة، فقد زعم أدرعي سابقاً أن حمزة الدحدوح، وهو صحفي آخر استشهد في قصف إسرائيلي، كان «مقاتلًا في حركة الجهاد الإسلامي». هذه الاتهامات ليست سوى جزء من حملة تشويه ممنهجة، وإلى تبرير جريمة قتلهم، وتزييف صورة المقاومة الفلسطينية ككل، على أنها «إرهاب». إنها محاولة مكشوفة لتغيير الحقائق على الأرض، ليس فقط من خلال الأفعال العسكرية، بل أيضاً من خلال الرواية الإعلامية.
لكن هذه الاتهامات، بل وهذه الاستراتيجية برمتها، لم تمر دون اعتراض حتى من داخل إسرائيل نفسها، مما يضفي عليها بعداً مهماً من المصداقية ويؤكد زيفها. فقد رفضها «أحد أشهر الصحفيين الاستقصائيين في إسرائيل، يوفال أبراهام». في حسابه على منصة «إكس» «تويتر سابقاً»، وجه أبراهام نقداً لاذعاً للخطاب الرسمي، معتبراً أن «الصحفي الذي لا يُشكك في تصريحات المتحدث باسم الجيش في هذه المرحلة، بعد أكاذيب لا تُحصى، يخون مهنته». هذا التصريح القوي يكشف مدى تغلغل ثقافة التضليل والأكاذيب في الخطاب الرسمي الإسرائيلي، ويدعو إلى يقظة مهنية وأخلاقية حتى داخل المجتمع الإسرائيلي. إنه نداء للصحفيين لتحمل مسؤوليتهم المهنية والأخلاقية في مواجهة الروايات الرسمية المشوهة.
ولم يتوقف أبراهام عند هذا الحد من النقد، بل طرح تساؤلاً جوهرياً يكشف زيف التبريرات الإسرائيلية ويكشف النفاق الكامن في هذه الادعاءات. فإنه يقول: «ولكن حتى لو افترضنا صحة ذلك، فلا يهم». ويضيف، وفقاً لهذا المنطق، فإن «الغالبية العظمى من الصحفيين في إسرائيل، إن وُجدت أي وثيقة تُثبت أنهم كانوا في الجيش أو خدموا في قوات الاحتياط، هم أهداف مشروعة للتصفية». هذا التساؤل المبطن بالاستنكار يكشف النفاق الصارخ في المعايير التي يطبقها الاحتلال. فإذا كانت الخدمة العسكرية أو الانتماء السياسي المفترض يبرر القتل خارج نطاق الاشتباكات المباشرة، فلماذا لا يطبق هذا المنطق على الصحفيين الإسرائيليين الذين خدموا في جيش الاحتلال، والذي يفرض التجنيد الإجباري على مواطنيه؟. إنها معايير مزدوجة تكشف بوضوح أن الهدف ليس «القتال» وإنما «الصحافة»، والهدف هو إسكات كل صوت يكشف حقيقة ما يجري على الأرض.
وقد تساءل أبراهام أيضاً عن توقيت قتل أنس الشريف: «لماذا قتلوه الآن؟ فمكانه معروف منذ أشهر»، هذا السؤال يكشف أن عملية القتل ليست «اشتباكاً عابراً» أو «خطأً غير مقصود»، بل هي عملية متعمدة ومخطط لها، تتم في توقيت محدد. ويقدم أبراهام الإجابة بنفسه بوضوح: «الجواب واضح، عشية خطط استكمال إحتلال غزة. «
هذه الإجابة تحمل في طياتها المعنى الأعمق وراء استهداف الصحفيين. إنها ليست مجرد محاولة لإسكات صوت فردي أو طمس دليل محدد، بل هي جزء لا يتجزأ من استراتيجية أوسع للسيطرة الشاملة على غزة. فالسيطرة لا تقتصر على الأرض والحدود والبنية التحتية، بل تمتد إلى السيطرة على الرواية، على المعلومة، على الصورة التي تصل إلى العالم. الصحفيون هم الشهود، هم العيون التي ترى، والأقلام التي تكتب، والكاميرات التي تصور الفظائع، والميكروفونات التي تنقل صوت الضحايا. إنهم يشكلون عقبة أمام تنفيذ «خطط احتلال غزة» في الظلام، بعيداً عن رقابة الضمير العالمي. ولذلك، يصبح استهدافهم جزءاً لا يتجزأ من الحرب، يهدف إلى إحداث فراغ إعلامي يسمح للاحتلال بتشكيل الرواية الوحيدة الممكنة، وهي رواية تسعى لتبرير العدوان وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بأكمله
إن مفهوم «احتلال غزة» يتجاوز البعد العسكري ليشمل السيطرة المعرفية والإدراكية. إن إسرائيل تسعى إلى فرض حصار معلوماتي، حيث لا يُسمح إلا للرواية الإسرائيلية بالانتشار، وحيث تُصوَّر أفعالها على أنها دفاعية ومبررة، بينما تُصوَّر المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب مطلق لا يمتلك أي شرعية. في هذا السياق، يصبح الصحفي الفلسطيني، وخاصة من ينقل صورة المعاناة اليومية والدمار الهائل، عدواً يجب «تحييده». هو ليس عدواً يحمل السلاح، بل عدوٍ يحمل الحقيقة، والحقيقة في هذه الحرب هي السلاح الأقوى ضد الظلم■