المسار : أعلنت حركة حماس، مساء الاثنين الماضي، أنّها والفصائل الفلسطينية أبلغت موافقتها على المقترح الذي قدّمه الوسيطان، المصري والقطري، بشأن تبادل الأسرى والمخطوفين ووقف إطلاق النار في غزة. جاء قرار “حماس” بعد نحو عشرة أيام من مصادقة المجلس الوزاري الأمني ـ السياسي في إسرائيل في الثامن من أغسطس/آب الحالي، على مقترح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالاستعداد لاحتلال مدينة غزة ومخيّمات الوسط. بعد أيام من إعلان حركة حماس موافقتها على المبادرة التي قدّمها الوسطاء بشأن صفقة جزئية، واصل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المماطلة في بلورة رد إسرائيل من دون أن يُعلن حتى الآن عقد اجتماع رسمي للمجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية لمناقشة الموضوع. في المقابل، تمضي حكومة الاحتلال وجيشه في التحضيرات لتوسيع حرب الإبادة على قطاع غزة، من خلال إقرار خطط عسكرية لاحتلال مدينة غزة بالكامل، وإصدار أوامر تجنيد لعشرات الآلاف من جنود الاحتياط.
ارتباك في إسرائيل
يسود الارتباك في التغطية الإعلامية الإسرائيلية، إذ لا يوجد وضوح في تحليل الموقف. بعض وسائل الإعلام تؤكد أن القرار لم يُتخذ بعد، فيما تشير أخرى إلى أن نتنياهو مصرّ على المضيّ في مخطط احتلال مدينة غزة. ولم يدعُ نتنياهو بعد إلى اجتماع للكابينت لمناقشة قرار حركة حماس. وقد أُبلغ الوسطاء بأن إسرائيل ستنقل ردّها إلى “حماس” بعد مناقشة الكابينت. بالتوازي، ووفقاً لموقع واينت، تتواصل خلف الكواليس الاتصالات بشأن صفقة تبادل الأسرى. ورغم أن نتنياهو أقل اهتماماً بصفقة جزئية، إلا أنه لم يغلق الباب أمامها نهائياً بعد.
وقال مسؤول رفيع في الحكومة: “نتنياهو يدرك أن الصفقة الجزئية ليست الخيار الأفضل، ويفهم أن استئناف القتال بعد 60 يوماً من وقف إطلاق النار سيكون مهمة في غاية الصعوبة”. وأضاف أن الولايات المتحدة تتوقع بدورها إنهاء القتال، وأن نتنياهو واعٍ لصعوبة الحصول على دعمها إن قرر استئناف العمليات العسكرية من جديد. بدوره، اعتبر محلل الشؤون السياسية، عيدان كفيلير، في موقع والا، أول من أمس الأربعاء، أن “إسرائيل تتجه نحو معركة مكثفة في غزة. وقد أفاد مقرّبون من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الأربعاء الماضي، بأنه حسم أمره بتنفيذ العملية في القطاع بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية.
وبحسب المصادر التي تحدّثت معه، فإن نتنياهو “مصمّم على تنفيذ الخطوة في أقرب وقت ممكن”. وأفادت صحيفة يسرائيل هيوم، الأربعاء أيضاً، بأن نتنياهو أمر بـ”تقليص الجداول الزمنية للسيطرة على معاقل الإرهاب المتبقية في القطاع والتوصل إلى حسم ضد حركة حماس”. ووفقاً للصحيفة، “رغم أنّ استدعاء جنود الاحتياط كان مقرراً في الأصل لشهر سبتمبر/أيلول المقبل، فقد تقرر تقديم الموعد لعشرات الآلاف من الجنود، استعداداً لإخلاء السكان من غزة قبل مرحلة الحسم في المعركة على المدينة. كذلك أشارت مصادر سياسية وأمنية إلى أن الجدول الزمني الذي عُرض على المجلس الوزاري المصغّر في جلسته الأخيرة قد قُدِّم بالفعل”.
وبالتوازي مع تسريع التحضيرات العسكرية وإقرار الخطط لاحتلال مدينة غزة، أكد مصدر إسرائيلي أن اتصالات جرت خلال اليومين الأخيرين مع الوسطاء تمهيداً لصياغة الموقف الإسرائيلي، وذلك بحسب ما أوردته صحيفة هآرتس مساء الأربعاء الماضي. وفي السياق نفسه، ذكرت القناة 12 أن الوزير رون ديرمر، رئيس طاقم التفاوض الإسرائيلي، عقد لقاءً في باريس مع مسؤولين قطريين رفيعي المستوى لبحث هذا الملف. الواضح في المرحلة الراهنة أن المفاوضات وبلورة الموقف الإسرائيلي تجري في ظل تعتيم جدي ومقصود.
نتنياهو والغموض
ووفقاً لصحيفة هآرتس، “يواصل نتنياهو الحفاظ على الغموض في هذا الملف، مع أنه أوضح علناً أنه معنيّ بدفع صفقة شاملة فقط، إلا أنه لم يُغلق الباب بعد أمام المقترح الحالي. وعلى مدار الأيام الأخيرة، حرصت إسرائيل على إظهار استعداداتها العلنية للعملية البرية في قلب مدينة غزة. وحتى الآن يحتفظ نتنياهو بأوراقه قريبة جداً من صدره، ولا يشارك أحد، حتى وزراؤه المركزيون، بما يجري خلف الكواليس”. يسعى نتنياهو إلى استمرار حرب الإبادة، ليس من أجل الحفاظ على تماسك التحالف الحكومي فقط، أو بدافع مصالحه السياسية الشخصية، بل أيضاً انطلاقاً من قناعات أيديولوجية عقائدية ونزعة انتقامية تجاه غزة وسكانها. فهو معنيّ بتدمير القطاع وتحويله إلى منطقة غير قابلة للحياة، بما في ذلك دفع سكانه إلى التهجير.
في المقابل، لا يستطيع نتنياهو تجاهل موافقة حركة حماس على مقترح الوسطاء، وهو صيغة معدّلة لمقترح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف الذي قبلته إسرائيل قبل عدة أشهر. كذلك فإنه لا يمكنه تجاهل موقف المؤسستين الأمنية والعسكرية اللتين تؤكدان أن “حماس” قدّمت تنازلات جوهرية مقارنة بمواقفها السابقة، وأن التوصل إلى اتفاق قد يفضي إلى استعادة عدد من الأسرى الأحياء. كذلك، يواجه نتنياهو ضغوطاً متزايدة من الشارع الإسرائيلي، إذ يتصاعد حجم الاحتجاجات المطالِبة بصفقة تبادل ووقف الحرب، بقيادة منتدى أهالي الأسرى والمخطوفين. وقد نُظم يوم الأحد الماضي “يوم غضب” تخلله إضراب جزئي في إسرائيل بمشاركة جماهيرية واسعة. وتخطط عائلات الأسرى لتوسيع نطاق الاحتجاجات، بانتظار قرار الحكومة. إضافة إلى ذلك، لا يمكن لنتنياهو أن يتجاهل التدهور الاقتصادي والانتقادات الدولية المتزايدة التي تقترب بإسرائيل من وضع الدولة المنبوذة.
حتى لو نجح نتنياهو حتى الآن في إفشال المبادرات السابقة ومنع إيقاف الحرب، فإن من الصعب عليه تبرير رفضه الحالي، إن قرر ذلك، لموافقة حركة حماس ومنعه من التوصل إلى صفقة قد تؤدي إلى إطلاق سراح عدد من الأسرى، مقابل وقفٍ لإطلاق النار لمدة ستين يوماً، قد يتحول عملياً إلى إنهاء الحرب. تزداد هذه الاعتبارات أهمية في ضوء موقف الجيش، الذي حذّر من المخاطر المترتبة عن توسيع الحرب واحتلال مدينة غزة، سواء على حياة الأسرى والمخطوفين، أو على حياة الجنود المشاركين في العمليات العسكرية. وأظهرت عملية حركة حماس في خانيونس، أول من أمس الأربعاء، أن الحركة، رغم الضربات القاسية وتدمير جزء كبير من قدراتها العسكرية، ما زالت قادرة على التخطيط وتنفيذ عمليات نوعية ضد الجنود الإسرائيليين داخل مناطق القطاع، بل حتى داخل نقطة عسكرية محصّنة، تُوقِع إصابات.
مخاوف الاحتلال
هذا التطور عزّز مخاوف المؤسسة الأمنية من احتمال تكرار سيناريوهات مشابهة في مدينة غزة، إذا ما أقدم الجيش الإسرائيلي على تنفيذ خطة احتلالها. ليس من المستبعد أن تكون تصرفات نتنياهو وتصريحاته جزءاً من مناورة جديدة تهدف إلى تعديل شروط الصفقة، والمطالبة باتفاق شامل يشمل جميع الأسرى والمخطوفين. ويبدو أنه يستخدم تعميق الحرب وتوسيعها وسيلةَ ضغط على حركة حماس وعلى الوسطاء، إذ يفضّل التفاوض في ظل تصعيد عسكري مستمر. كذلك يتيح له هذا النهج هامشاً أوسع للمناورة داخل التحالف الحكومي، ويحول دون انسحاب الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. في المرحلة الراهنة لا يمكن الجزم بخيار نتنياهو النهائي: فهل سيعلن رسمياً وبشكل واضح رفض مقترح الصفقة الذي قبلته حركة حماس؟ أم سيواصل المماطلة والمناورة من دون رفض صريح، بالتوازي مع توسيع نطاق الحرب والشروع في تنفيذ خطة احتلال مدينة غزة؟ أم أن الحكومة الإسرائيلية ستوافق على المقترح مع المطالبة بإدخال تعديلات معينة؟
الواضح أن ثمن رفض الحكومة الإسرائيلية، ونتنياهو تحديداً، للتوصل إلى صفقة قد يكون باهظاً، إذ قد يفاقم الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي ويؤدي إلى تصعيد الاحتجاجات، بل قد يفتح المجال لانضمام أطراف إضافية، مثل نقابة العمال العامة والشركات الكبرى، إلى الحراك الجماهيري، وصولاً إلى إعلان إضراب عام كما يطالب منتدى أهالي الأسرى والمخطوفين. وبالنظر إلى هذه المعادلات والمعطيات، ليس من المبالغة توقّع أن يختار نتنياهو خياراً وسطاً يدمج بين المسارين: تنفيذ متدرج لخطة احتلال مدينة غزة مع إبقاء قنوات التفاوض مفتوحة مع حركة حماس، من دون رفض علني لموافقتها على مقترح الصفقة. مثل هذا الخيار من شأنه أن يرفع احتمالات التوصل إلى اتفاق تبادل ووقف لإطلاق النار، فيما بعد، ويُقلل في المقابل من احتمالات توسّع الحرب بشكل شامل واحتلال مدينة غزة، ومن ثم السيطرة الكاملة على قطاع غزة.
(المصدر … العربي الجديد )