باحثة إسرائيلية: السلام لن يتحقق بمجرد وقف إطلاق النار بين الجانبين

المسار : رغم الضجيج الكبير والتأييد الواسع للخطة التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن احتمالات تحقيق سلام حقيقي ودائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين ما زالت ضعيفة.

في تحليل نشرته مجلة “ناشونال إنتريست” الأمريكية، قالت الأكاديمية الإسرائيلية رونيت ليفين شنور، المحاضِرة الكبيرة في كلية القانون بجامعة تل أبيب، إنه إذا كان هناك درس مستفاد من العقود الثلاثة الأخيرة لدبلوماسية الشرق الأوسط، فهو أن أي خطوات مهمة يتم إنجازها لا يمكن أن تحل محل جهود بناء الدولة والمؤسسات الفلسطينية على المدى الطويل، فالسلام الدائم يحتاج إلى إستراتيجية أعمق.

رونيت ليفين شنور: إذا كان هناك درس مستفاد من العقود الثلاثة الأخيرة لدبلوماسية الشرق الأوسط، فهو أن أي خطوات مهمة يتم إنجازها لا يمكن أن تحل محل جهود بناء الدولة والمؤسسات الفلسطينية على المدى الطويل

والحقيقة أن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لخطة وقف إطلاق النار، يوم 29 سبتمبر/أيلول الماضي، يمثل لحظة سياسية بارزة، فهو يبرز قدرة الشخصيات القوية على دفع الاتفاقيات، ووقف العنف، وفتح قنوات الحوار. وإذا كان وقف إطلاق النار مهمًا، وإعادة الرهائن مهمة، وإنهاء سيطرة “حماس” على غزة مهمة، فإن كل هذه الخطوات لا تغني عن وجود إستراتيجية أعمق وأشمل لتحقيق سلام دائم.

فالمؤسسات، وليست الشخصيات الزعامية القوية، هي ما يحافظ على السلام بعد أن يخفت بريقه. فبدون مؤسسات فاعلة، من برلمانات، ومحاكم، وسلطات مالية، وقوات شرطة، تبقى أسس الدولة المستقرة هشة. وبالنسبة للفلسطينيين، فهذا يعني أن بناء الدولة الفلسطينية يجب أن يسبق، أو على الأقل يرافق، أي حل سياسي. فلا يمكن لنظام سياسي فلسطيني معتدل، منزوع السلاح وديمقراطي، أن ينشأ كمجرد نتيجة ثانوية للمفاوضات مع إسرائيل، دون أن يُنصَب الاهتمام أولًا على إيجاد هيكل حكم محلي شرعي وشفاف وفعّال في المناطق الفلسطينية.

وتقول رونيت ليفين شنور، الباحثة في مركز الحوكمة والأسواق بجامعة بيتسبرغ الأمريكية، إن إعلان ترامب ونتنياهو يعتمد، كغيره من الإعلانات السابقة، بشكل كبير على التفاعل الثنائي، عبر مفاوضات بين القادة، حيث الإسرائيليون في مواجهة الفلسطينيين، والولايات المتحدة كراعٍ. لكن تعقيدات الشرق الأوسط أصعب من أن تتم إدارتها ثنائيًا، لذلك لا غنى عن الأطر الإقليمية للتعامل معها، فهي التي تجمع الموارد، وتضع معايير مشتركة، وتخلق مصالح مشتركة في السلام.

وإذا كان وقف القتال في غزة وتأمين عودة المحتجزين خطوتين ضروريتين، فإن السلام يتجاوز مجرد غياب الحرب، وإنما يحتاج إلى بناء آليات تمنع تجددها. فبدون مؤسسات جديدة، تنهار اتفاقات وقف إطلاق النار لتتحول إلى صراع متجدد – كما شهدنا مرارًا وتكرارًا منذ اتفاقيات أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. فبدون وجود خدمات مدنية فعّالة، ومدارس، ورعاية صحية، ومحاكم، وشرطة محلية توفر الشرعية وتحد من جاذبية الجماعات المسلحة، لا يمكن أن يستمر أي وقف لإطلاق النار. لذلك فوجود مثل هذه الخدمات، إلى جانب آليات المساءلة ومكافحة الفساد، ليست قضايا جانبية، بل هي شروط أساسية لأي تسوية مستدامة.

وترى الأكاديمية الإسرائيلية أن النقطة الأكثر إثارة للجدل، وإن كانت جوهرية، هي ضرورة فصل مسار إقامة الدولة الفلسطينية عن التفاوض المباشر مع إسرائيل. فإذا أريد للكيان الفلسطيني أن يصبح دولة مسالمة، منزوعة السلاح وديمقراطية، فلا يمكن أن يتوقف نجاحه على استعداد إسرائيل للتنازل أو استعداد “حماس” لنزع سلاحها. يجب أن تكون العملية مستقلة. وهذا يعني الاستثمار في تطوير القيادة الفلسطينية، وإنشاء هياكل حوكمة، وتصميم برنامج اقتصادي موثوق، وضمان سيادة القانون – بغض النظر عن نجاح المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. ورغم أن موافقة إسرائيل على إقامة هذه الدولة ستكون مهمة في نهاية العملية، فإن بناء الدولة يجب ألا يبقى رهينة لتلك الموافقة.

تعقيدات الشرق الأوسط أصعب من أن تتم إدارتها ثنائياً، لذلك لا غنى عن الأطر الإقليمية للتعامل معها

في الوقت نفسه، لا ينبغي أن يحدد مصير “حماس” – سواء استسلمت أو سلّمت المحتجزين أو واصلت القتال – مستقبل فلسطين. كما لا ينبغي أن يحدده مصير السلطة الفلسطينية، التي تشكلت كهيئة مؤقتة في التسعينيات، والتي تجاوزت منذ زمن طويل غرضها الانتقالي. إصلاح السلطة الفلسطينية لا يكفي. فالمهمة الحقيقية تكمن في بناء مؤسسات جديدة قادرة على ممارسة وظائف سيادية، مثل حفظ السلام، وجمع الضرائب، وتقديم الخدمات، والإدارة الاقتصادية، في إطار من المساءلة ونزع السلاح. وهذا يتطلب مؤسسات وقيادة جديدة، وليس مجرد سلطة معاد تدويرها. كما يجب أن يكون تطوير هذه القدرات لبناء الدولة غير مرتبط بموقف إسرائيل. لذا فالتركيز فقط على إصلاح السلطة الفلسطينية يُغفل جوهر المسألة.

أخيرًا، فالمستقبل بالنسبة للفلسطينيين لا يكمن في مفاوضات لا نهاية لها مع إسرائيل، أو محاولة إحياء سلطة بائدة، بل يكمن في بناء دولة مدعومة بهيكلية إقليمية متعددة الأطراف. قد يكون وجود هيئة دولية انتقالية، كتلك المذكورة في إعلان ترامب ونتنياهو تحت اسم “مجلس السلام”، بداية، لكن يجب أن يتم دمجها في إطار أوسع يحشد الالتزامات العربية والأوروبية والأمريكية. وبالتالي يجب أن تكون الأهداف واضحة، وهي إقامة كيان سياسي فلسطيني منزوع السلاح، بمؤسسات فعّالة، واقتصاد فاعل، ونظام سياسي قائم على الديمقراطية الدستورية وسيادة القانون.

إذا تحوّل التركيز إلى هاتين الأولويتين المزدوجتين – التطوير المؤسسي من الجانب الفلسطيني، والتكامل متعدد الأطراف من الجانب الإقليمي – فقد يتجاوز الشرق الأوسط أخيرًا دوامة الحرب والمفاوضات. وبذلك ستكون اتفاقات وقف إطلاق النار بمثابة معابر، لا طرق مسدودة. وستكون الدولة الفلسطينية نتيجة ليس فقط للتفاوض، بل لبناء مؤسسات مستدامة قادرة على تحقيق الرخاء والسلام.

Share This Article