المسار : تمشي مصر على حبل مشدود؛ تؤمّن حدودها بالقوة، وتسترضي حلفاءها الدوليين عبر ضبط النفس، وتُدير الغضب الشعبي الذي يطالب بالمواجهة مع إسرائيل. واستدامة هذا الموقف ستعتمد على قدرة القاهرة على الحفاظ على مصداقيّتها في الجبهات الثلاث…
تشهد شبه جزيرة سيناء في الآونة الأخيرة تطوّرات متسارعة أعادت تسليط الضوء على الحدود المصرية-الفلسطينية، بعد أن دفعت القاهرة بتعزيزات عسكرية كبيرة إلى المنطقة، شملت آلاف الجنود ووحدات مدرعة ومنظومات دفاع جوي. هذه الخطوة، التي تُعدّ الأوسع منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، جاءت في سياق تصاعد التوتر الإقليمي على خلفية الحرب في غزة، ومخاوف مصرية من محاولات إسرائيل دفع الفلسطينيين نحو شمال سيناء.
وبينما تصف القاهرة تحرّكاتها بأنها دفاعية وضرورية لحماية السيادة ومنع أي اختراق لحدودها، تثير هذه التحركات قلقًا إسرائيليًا واضحًا وتفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول مستقبل التوازنات العسكرية والدبلوماسية في المنطقة. في خضم التصاعد المستمر للتوتر حول هذا الملف، أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي تحدّث فيها عن طموحاته في إقامة ما أسماه “إسرائيل الكبرى”، ردود فعل غاضبة في القاهرة، حيث طالبت مصر بتوضيحات رسمية إزاء هذه التصريحات.
وكانت القاهرة قد أعربت في وقت سابق عن رفضها القاطع واستهجانها الشديد لتصريحات نتنياهو بشأن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة عبر معبر رفح، مؤكدة في بيان صادر عن وزارة الخارجية أن أي دعوة، أو حتى تلميح، لتهجير الشعب الفلسطيني، سواء قسرًا أو طوعًا، يُعد أمرًا مرفوضًا ومدانًا بشكل كامل، ويمثّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، ويرقى إلى مستوى جرائم التطهير العرقي وفق المواثيق الدولية، بما فيها اتفاقيات جنيف.
وفي ظل هذه التطورات، تتزايد حدّة التوتر بين القاهرة وتل أبيب إلى مستويات غير مسبوقة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، خصوصًا مع تنامي القدرات العسكرية المصرية، وتطوير بنيتها التحتية الدفاعية والبحرية، في وقت تترقّب فيه المنطقة أحداثًا متسارعة قد تعيد رسم ملامح المشهد الإقليمي.
تاريخ الاتفاقيات
نصّت اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 على تقسيم شبه جزيرة سيناء إلى أربع مناطق رئيسية (A، B، C، D)، بهدف جعلها منطقة عازلة تفصل بين الجيشين المصري والإسرائيلي، وتمنع أي حشود عسكرية قد تهدد الاستقرار.
تقع المنطقة A بمحاذاة قناة السويس وبعمق يصل إلى 58 كم شرق القناة، ويُسمح لمصر فيها بنشر فرقة مشاة ميكانيكية واحدة قوامها نحو 22 ألف جندي، مدعومة بـ230 دبابة و480 عربة مدرعة ومدفعية محدودة المدى، لتأمين قناة السويس والمدخل الغربي للجزيرة.
أما المنطقة B، الواقعة شرق المنطقة A وحتى مشارف الحدود، فتقتصر القوات فيها على أربع كتائب من حرس الحدود (نحو 4,000 جندي) مجهّزين بأسلحة خفيفة وعربات مدرعة خفيفة، ودورهم الأساسي ضبط الأمن الداخلي ومكافحة التهريب.
وتُعدّ المنطقة C، الممتدة على الحدود مع إسرائيل وقطاع غزة وتشمل رفح والعريش وشرم الشيخ وطابا، الأكثر حساسية؛ إذ يُحظر على الجيش المصري دخولها، وتقتصر القوة فيها على الشرطة المدنية المسلحة بأسلحة خفيفة، تحت إشراف القوة متعددة الجنسيات (MFO) التي تراقب الالتزام بالاتفاقية.
في المقابل، تقع المنطقة D داخل فلسطين المحتلة في النقب الغربي بمحاذاة الحدود، ويُسمح لتل أبيب بنشر أربع كتائب مشاة (نحو 4,000 جندي) مزودين بأسلحة خفيفة ومركبات غير ثقيلة، مع حظر تام على نشر الدبابات أو المدفعية الثقيلة.
وبهذا الترتيب، أصبحت سيناء منزوعة السلاح جزئيًا؛ يتركز الثقل العسكري المصري في المنطقة A قرب قناة السويس، بينما تُترك المناطق القريبة من الحدود تحت قيود صارمة، بما يضمن لمصر حماية سيادتها غربًا ويمنح إسرائيل ضمانات أمنية شرقًا، في ظل رقابة أميركية ودولية مستمرة على تنفيذ هذه البنود.
الضغوط السياسية
تجد مصر نفسها اليوم تحت ضغوط سياسية متزايدة بشأن تعاملها مع معبر رفح الحدودي مع غزة؛ فمن جهة، عبّرت الجماهير العربية – خصوصًا في سورية والأردن – عن انتقادات حادة، ونظّمت تظاهرات تتّهم القاهرة بالتواطؤ في عزل غزة عبر منع العرب من العبور للقتال إلى جانب الفلسطينيين، ويطالبونها بفتح الحدود. مثل هذه التصورات تهدد بتقويض صورة مصر التي رسّختها على مدى عقود كوسيط عربي مركزي في القضية الفلسطينية.
ومن جهة أخرى، ترى الدولة المصرية أن السيطرة الصارمة على المعبر ضرورة أمنية حيوية وأداة سياسية محسوبة. فبالنسبة للقاهرة، يُعدّ إبقاء رفح مغلقًا بإحكام وسيلة للحد من خطر تسلّل الجماعات المسلحة أو تدفّق الأسلحة أو الحشود غير المنضبطة التي قد تُزعزع استقرار سيناء، وفي الوقت ذاته رسالة إلى واشنطن وتل أبيب وحلفاء الخليج بأن مصر تتصرّف “بمسؤولية” عبر احتواء الصراع وعدم السماح بتمدده.
هذه الازدواجية تعكس التوتر بين الشرعية الداخلية التي تصوغها المشاعر الشعبية العربية، والشرعية الاستراتيجية التي تحدّدها علاقات مصر مع القوى الحليفة والجوار؛ وتضع مصر في الوقت ذاته في مأزق محرج حول نواياها من تد9عيم العسكر في سيناء وتطوير البنية التحتية هناك.
تسليح الجيش وسيناريو التصعيد
يزيد دور مصر في السياق الجيوسياسي الأوسع من تعقيد الموقف؛ ويمتد تسليحها عبر كامل الطيف، ليكون قوة تقليدية ثقيلة في جوهرها، مدعومة بأنظمة متوسطة متحرّكة ومخزونات ضخمة من الأسلحة الخفيفة لتعزيز قدرات المشاة.
تتلقى مصر مساعدات عسكرية كبيرة من الولايات المتحدة في إطار معاهدة السلام، ما يعزّز قدراتها العسكرية ويكرّس روابطها مع واشنطن. وفي الوقت نفسه، تحتفظ القاهرة بوظيفة محورية كوسيط في شؤون غزة، تُسهّل المفاوضات وتدفق المساعدات، ما يعزّز نفوذها إقليميًا ودوليًا. والموازنة بين هذه المصالح تتطلّب حذرًا شديدًا، خاصةً وأن تعزيز القوات يختبر حدود المعاهدة دون أن يصل إلى حد خرقها.
تشكل سيناء تحدّيًا خاصًا للعمليات العسكرية؛ فمساحتها الشاسعة وطبيعتها الصحراوية القاسية تستدعي وحدات متخصّصة في حرب الصحراء. ويستند الانتشار العسكري الحالي إلى خبرة مصر في مكافحة التمرد بالمنطقة خلال العقد الماضي، حيث تضطلع قوات النخبة بدور خاص بفضل خبرتها في الانتشار السريع وجمع المعلومات الاستخباراتية. وتضيف منظومات الدفاع الجوي مظلة حماية ضد تهديدات الطائرات المسيّرة أو الصواريخ، فيما توفّر دبابات M60 قوة نارية ثقيلة للمعارك البرية إذا لزم الأمر.
تحافظ القوات المسلحة المصرية اليوم على واحدة من أكبر وأفضل الجيوش تجهيزًا في المنطقة، بما يزيد على 450 ألف فرد نشط وأكثر من مليون في الاحتياط. من حيث التسليح الثقيل، تمتلك مصر ما يُقدّر بأكثر من 3,000 دبابة قتال رئيسية، بينها M1A1 أبرامز الأميركية وطرازات سوفياتية مطوّرة مثل T-55 وT-62، إلى جانب نحو 1,100 عربة قتال مشاة وناقلة مدرعة مناسبة لعمليات سيناء. وتشمل المدفعية المتوسطة مئات المنظومات، مدعومة بمدافع ذاتية الحركة وراجمات صواريخ.
أما الدفاع الجوي، فهو متعدد الطبقات، يدمج بين منظومات باتريوت الأميركية وبوك وتور الروسية، مدعومًا بأكثر من 200 طائرة مقاتلة من طراز F-16 وميغ-29 ورافال، فضلًا عن طلبيات قيد التنفيذ لطائرات سو-35. وعلى الصعيد البحري، عزّزت مصر حضورها في البحرين الأحمر والمتوسط بحاملات المروحيات الفرنسية “ميسترال” وغواصات ألمانية، لتأمين طرق الملاحة.
رغم أنّ معظم هذه الترسانة لا يُوجّه مباشرة ضد إسرائيل، فإنّ التعزيز في سيناء يبعث برسالة مفادها أن القاهرة قادرة على الردع بأسلحة تقليدية جاهزة، لتذكير الداخل والخارج معًا بأن مصر لا تزال قوة عسكرية كبرى في النظام العربي.
البعد الإقليمي
لا يمكن فصل التعزيزات العسكرية في سيناء عن ديناميات الحرب الإقليمية الأوسع، التي تكشف تناقضًا حادًا بين تطلّعات الشعوب العربية وحسابات حكوماتها. ففي المنطقة، وخاصة في سورية والأردن، اندلعت تظاهرات تطالب مصر بـ”فتح الجبهة” ضد إسرائيل، واعتبرت إغلاق معبر رفح تواطؤًا في عزل غزة. بالنسبة لكثير من العرب، أصبحت غزة مأساة إنسانية ورمزًا للتضامن القومي. لكن بالنسبة للأنظمة في القاهرة وعمّان، تبقى الأولوية القصوى هي الاحتواء لا التصعيد.
تُدرك هذه الأنظمة أنّ توسيع الصراع سيهدد استقرارها الداخلي الهش، ويجرّ عواقب عسكرية غير متوقعة، ويستدعي تكاليف اقتصادية ودبلوماسية لا قدرة لها على تحمّلها. هذا التباين بين غضب شعبي مقابل حذر رسمي يُفسّر استمرار إغلاق الحدود رغم تصاعد خطاب المقاومة.
وقد وجّهت سورية والأردن، حيث تفجّرت الاحتجاجات، سهام اللوم نحو مصر بشكل استراتيجي، لتصبح القاهرة الهدف الأسهل للغضب، فيما تهرّبتا من الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. فدمشق، رغم خطابها الناري وحماس الشارع – والذي قوبل باستنكار مضاد أيضًا – منشغلة بإعادة الإعمار الداخلي وتتحاشى إعادة فتح جبهة لا تستطيع التحكم بها. أما عمّان فمضطرة لموازنة التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين بواجباتها في إطار معاهدة السلام واعتمادها على الدعم الأميركي والبريطاني.
في هذا السياق، تحتلّ مصر موقعًا مفارقًا؛ فهي تُنتقد لعدم تحركها، لكنها تبقى الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك القرب الجغرافي والوزن العسكري الكفيلين بالتأثير في أزمة غزة. إن الاحتجاجات في الدول المجاورة تعكس مزاجًا إقليميًا يطالب بالمواجهة، لكن واقع السياسة بين الدول يدفع الحكومات نحو ضبط النفس. والتحدي أمام القاهرة يكمن في إدارة هذا الفارق، عبر تأكيد نفسها كوسيط وحارس لغزة، من دون الانزلاق إلى حرب إقليمية قد ترغب بها الشعوب ولكن لا تستطيع الأنظمة تحمّلها.
التداعيات الدبلوماسية
تحمل تحركات مصر على حدود غزة وزنًا دبلوماسيًا كبيرًا، سواء في علاقتها بإسرائيل أو في وضعها الإقليمي الأوسع. فعلى صعيد العلاقة مع إسرائيل، أصبح معبر رفح عقدة تنسيق دقيقة. سياسات القاهرة المتشددة، وإن كانت غير شعبية في الشارع العربي، تخدم الأهداف الأمنية على جبهة سيناء، عبر منع تحوّل المعبر إلى ممرّ للأسلحة أو المقاتلين المتحمّسين للدخول إلى غزة.
وفي الوقت نفسه، يُعدّ الحشد العسكري المصري في سيناء رسالة محسوبة إلى تل أبيب بأنّ مصر تراقب التطورات عن كثب ولن تسمح بانتهاك سيادتها، حتى مع التزامها بإطار معاهدة السلام لعام 1979. هذه الاستراتيجية المزدوجة تُبرز سعي القاهرة إلى الموازنة بين الردع والالتزام بتعهّداتها الدبلوماسية.
أما الولايات المتحدة ودول الخليج، فتمثّل محورًا آخر لا يقل أهمية في دبلوماسية مصر. فواشنطن لا تزال الراعي الأمني الأبرز للقاهرة، بما يزيد على 1.3 مليار دولار سنويًا من المساعدات العسكرية المرتبطة مباشرة باتفاقيات كامب ديفيد. وأي انطباع بأن مصر تتجه نحو مواجهة مع إسرائيل قد يُعرّض هذه المساعدات والعلاقة الاستراتيجية الأوسع مع واشنطن للخطر.
كذلك تعتمد القاهرة بشكل كبير على دول الخليج كمصدر للإنعاش المالي، سواء عبر ودائع في البنك المركزي أو دعم للطاقة. وبالنسبة لواشنطن والعواصم الخليجية، فإن التفضيل الواضح هو بقاء مصر عاملًا للاستقرار والوساطة، لا طرفًا في الحرب. هذا الضغط الخارجي يعزّز الميل الطبيعي للقاهرة نحو احتواء الأزمة بدلًا من تصعيدها.
قراءة استشرافية
في صميم الأزمة الراهنة، تقبع معادلة مصرية دقيقة الأبعاد، تُجبر القاهرة على المناورة بحذر بين الضرورات العسكرية، والالتزامات الدبلوماسية، والضغوط السياسية.
فعلى الصعيد العسكري، حشدت مصر قوات كبيرة في سيناء لتأكيد سيادتها، والتأكيد أنها لن تتسامح مع أي تهديد لحدودها، خصوصًا في ظل المخاوف من أن تؤدي عمليات إسرائيل في غزة إلى دفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين نحو شمال سيناء. هذا الاستعراض للقوة يهدف إلى ردع أي خرق خارجي، وفي الوقت ذاته طمأنة الرأي العام الداخلي بأن الدولة تدافع عن سلامة أراضيها.
أما دبلوماسيًا، فمصر لا تزال متمسّكة بخيار الاحتواء. إذ تواصل تنسيقها الوثيق مع إسرائيل بشأن معبر رفح، وتحافظ على قنواتها المفتوحة مع واشنطن، وتضمن الدعم المالي الخليجي، لتظل وسيطًا لا طرفًا في المواجهة. واعتمادها على المساعدات الأميركية ورأس المال الخليجي يجعلها غير قادرة على المجازفة بقطع هذه الروابط، ولذلك تُظهر قوتها العسكرية دون أن تخرق إطار السلام القائم.
سياسيًا، تضطر القاهرة إلى تحمّل عبء الانتقادات الإقليمية، فيما تُحمّلها الاحتجاجات في سورية والأردن مسؤولية عزل غزة. ومع ذلك، تواصل مصر تقديم نفسها بوصفها الوسيط العربي المركزي، لا غنى عنه في تنسيق المساعدات والهدنات. هذا الدور المزدوج – خصم في نظر الشارع العربي، وشريك في نظر الغرب والنخب الإقليمية – يُجسد طبيعة الموقف الحرج الذي تمر به القاهرة.
تمشي مصر على حبل مشدود؛ تؤمّن حدودها بالقوة، وتسترضي حلفاءها الدوليين عبر ضبط النفس، وتُدير الغضب الشعبي الذي يطالب بالمواجهة مع إسرائيل. واستدامة هذا الموقف ستعتمد على قدرة القاهرة على الحفاظ على مصداقيّتها في الجبهات الثلاث، من دون الانزلاق إلى أيٍّ منها بشكل مفرط – وهو تحدٍّ يُبرز موقعها المحوري، لكنه في الوقت نفسه يفضح هشاشتها في خضمّ أزمة غزة المتصاعدة.