المسار : كانت السماء فوق منطقة المواصي في خانيونس تُمسك بلحظاتٍ من رعبٍ متسلسل؛ القنابل تنهال كزخّات مطرٍ قاتمة، تضرب الأرض بلا رحمة، وتنسف البيوت والأحلام معًا. على الأرض، تناثرت الأشلاء والملابس والكتب المدرسية في كل الاتجاهات، لتكوّن لوحةً بشعةً تُعيد كتابة فصل جديد من مسلسل الإبادة الذي يعيد نفسه في غزة على مدار أكثر من عامين. أمام هذا المشهد، يقف الصحفي الدكتور محمد الأسطل مراسل “إذاعة أجيال” في قطاع غزة تختلط عليه المشاعر بين مواطن يبحث عن الأمان له ولأسرته، وبين صحفي يجد نفسه مضطراً للثبات من أجل مواصلة رسالته لنقل الحقيقة إلى العالم، عيناه تراقبان كلّ تفصيلة، وصوته يسجّل كل صرخة؛ يومه يمتدّ لحوالي خمس عشرة ساعة من التغطية المتواصلة.
بين نقل شهادات الناجين، وتوثيق مشاهد القتل والتدمير، يتحول الصحفيون في قطاع غزة إلى “جثثٍ مع وقف التنفيذ”، ففي كل لحظة يمكن أن يكونوا عرضة للاستهداف الاسرائيلي، في حرب لم تستثن أحدًا من القتل، بمن فيهم الصحفيون.
يصف الأسطل العمل الصحفي في القطاع بـ “مهنة الموت”، في ظل ما يتعرض له الصحفيون من مخاطر حقيقية تهدد حياتهم في كل لحظة.
يكشف الأسطل عن مشاهد قاسية عاشها خلال تغطياته الميدانية، منها سقوط قذائف مدفعية على بُعد أمتار قليلة منه أثناء إعداد تقرير عن المزارعين قرب خطوط التماس في جنوب القطاع، بالإضافة إلى لحظات الخوف التي يعيشها الصحفيون وأسرهم يوميًا. ويقول إن أطفاله يودعونه كل صباح وهم يصورونه بهواتفهم خشية ألا يعود إلى المنزل، واصفًا ذلك المشهد بأنه “قاتل نفسيًا أكثر من القصف نفسه”.
ويلفت إلى أن التحدي لا يقتصر على الجانب المهني فقط، بل يمتد إلى الجانب الإنساني، إذ يعيش الصحفي حالة نزوح متكررة بين مناطق القصف، ويحاول الموازنة بين حماية أسرته وأداء واجبه المهني. ويقول: “في كثير من الأحيان كنت أمام خيار صعب؛ هل ألتقط صورة للنازحين أم أحتضن أطفالي؟” مضيفًا أنه فقد بيته وأرضه في القصف، وأنه يعمل في ظروف تشبه “المعجزة” بين كونه صحفيًا، وأبًا لخمسة أطفال، وأستاذًا جامعيًا يحاول متابعة طلابه رغم النزوح.
كما يصف الأسطل حجم المعاناة المعيشية التي يعيشها الصحفيون في ظل سياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال، قائلاً إنه عاش فترات طويلة دون طعام كافٍ، وفقد أكثر من خمسين كيلوغرامًا من وزنه بسبب الجوع ونقص الموارد الأساسية، مؤكدًا أن “الصحفي في غزة لا يقاتل فقط من أجل إيصال الحقيقة، بل من أجل البقاء على قيد الحياة”.
تعمل نقابة الصحفيين الفلسطينيين على توثيق جرائم الاحتلال بحق الصحفيين بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين والعديد من المؤسسات الدولية. يقول نقيب الصحفيين ناصر أبو بكر” نقوم بتوثيق تلك الجرائم، ورفعنا دعوى قضائية في محكمة الجنايات الدولية”، مؤكداً أن النقابة تواصل عملها لمحاسبة الاحتلال على جرائمة في المحاكم الدولية.
وحسب إحصائيات صادرة عن النقابة، فقد استشهد 254 صحفيا وصحفية منذ 7 تشرين الأول 2023، في حصيلة هي الأعلى في تاريخ الصراعات الدولية، خاصة إذا ما تم مقارنتها مع عدد السكان.
يشير عمار دويك مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان إلى أن الاحتلال الاسرائيلي اعتاد خلال الحروب السابقة على قطاع غزة تعمد استهداف الصحفيين بهدف منعهم من نقل حقيقة ما يجري على الأرض، لكنه أوضح أنه خلال حرب الإبادة الحالية المستمرة منذ نحو عامين أصبح سلوك الاحتلال أكثر خطورة وعدوانية من خلال استهداف عدد كبير من الصحفيين بالقتل، بالإضافة إلى استهداف كافة المقرات الصحفية والإعلامية الدولية والمحلية بالتدمير، وكذلك منع الصحفيين الدوليين من دخول قطاع غزة، لافتاً إلى أن اعتداءات الاحتلال بحق الصحفيين ترتقي إلى درجة الإبادة الإعلامية الجماعية وهي بمثابة جريمة حرب.
وينوه إلى أن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عملت بالإضافة إلى توثيق تلك الجرائم بالتعاون مع مؤسسات حقوقية ونقابية أخرى فلسطينية ودولية ورفعها إلى محكمة العدل الدولية في إطار القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الاحتلال، وكذلك استخدام تلك الوثائق في قضايا أخرى في محكمة الجنايات الدولية.
وحول المطلوب لمحاسبة الاحتلال على هذه الجرائم، يقول دويك”يجب على كل العالم اتخاذ إجراءات صارمة بحق الاحتلال وفرض عقوبات صارمة عليه نتيحة الجرائم التي يرتكبها”، منوهاً إلى أن هذه العقوبات يجب أن تشمل قطع العلاقات مع الاحتلال سواء دبلوماسيا أو تجارياً ومحاسبة الضالعين في جرائم الحرب بحق الشعب الفلسطيني.
في غزة، حيث القنابل والصواريخ تنهال كزخات مطرٍ أسود، يقف الصحفي محمد الأسطل حاملًا الكاميرا والمايكروفون، متحديًا الموت لنقل صوت المظلومين. بينما تشير المؤسسات الحقوقية والنقابية إلى أن استهداف الصحفيين أصبح إبادة إعلامية جماعية، ومع ذلك يواصلون رسالتهم المهنية، مؤمنين أن نقل الحقيقة إنما هو واجب مقدس لتوثيق الجريمة ومحاسبة مرتكبيها.