المسار : تتصاعد المواجهة بين موسكو وواشنطن في حين يقترب الخطر النووي من عتبة اللاعودة. ففي الأيام الماضية أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن نجاح اختبارات لصواريخ لا مثيل لها في العالم تعمل بالطاقة النووية، وردّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأمرٍ عاجل باستئناف التجارب النووية الأميركية.
تبدو القوى العظمى اليوم وكأنها تعيد إنتاج سباق التسلح الذي أبقى العالم على حافة الفناء منذ هيروشيما وأزمة الصواريخ الكوبية. ومع أن التاريخ حافل بالعبر، فإن زعماء اليوم يندفعون نحو الهاوية بنزعات القوة والهيمنة ذاتها.
يستعرض هذا المقال المترجم لرئيس تحرير مجلة “ذي أتلانتيك”، جيفري غولدبرغ، ملامح هذا الخطر المتجدد، محذرًا من أن قرارات غير محسوبة قد تجرّ البشرية إلى حرب نووية جديدة، وهو قرار يحتاج فقط إلى 6 دقائق فقط كما قال الرئيس الأميركي رونالد ريغان ذات يوم.
ورغم انخراط الكاتب في تبرئة الذات وتحيّزه البنيوي في المقال للسردية الأميركية -رغم انتقاده الشديد للرئيس الأميركي دونالد ترامب-، التي كانت سياساتها هي السبب الأهم في اقتراب البشر من إفناء أنفسهم أكثر من مرة، تظل العبرة الجوهرية واحدة: إن جهل القادة النوويين بالتاريخ قد يكون أخطر من الأسلحة ذاتها.
“أعتقد أن عدوانية الإمبرياليين تزيدهم شراسة وخطورة، وإذا تمكنوا من غزو كوبا -في فعل وحشي ينتهك القانون الإنساني والأخلاقي- فسيكون ذلك هو الوقت المناسب لاجتثاث هذا الخطر من جذوره إلى الأبد. وما أحدّثك عنه الآن هو أسمى صور الدفاع المشروع عن النفس. ومهما بدت الوسيلة قاسية ومروّعة، فلا سبيل آخر للنجاة سوى باللجوء إليها”.
وحينما قرر خروتشوف الرد على رسالة كاسترو، جاءت كلماته كالتالي: “في برقيتك المؤرَّخة في 27 أكتوبر/تشرين الأول، اقترحتَ أن نبادر بتنفيذ أول ضربة نووية على أراضي العدو. وبطبيعة الحال أنت تدرك ما قد يتمخض عنه ذلك في المستقبل. لن تكون ضربة عادية، بل الشرارة التي ستُشعل فتيل حرب نووية حرارية عالمية. أيها الرفيق العزيز فيدل كاسترو، أرى أنك مخطئ في اقتراحك، مهما بدت دوافعك مفهومة”.
حين دوّت أزمة الصواريخ الكوبية، كان فيدل كاسترو في السادسة والثلاثين من عمره، وحين التقيتُه في هافانا (عاصمة كوبا) في أواخر صيف عام 2010، كان قد بلغ الرابعة والثمانين وشبه متقاعد، وإن ظلّ الرجل الذي لا غنى عنه في كوبا. قضيتُ أسبوعا بصحبته، نتجاذب أطراف الحديث حول قضايا شتّى، من بينها العصر النووي وتشعّباته الشيطانية.

حينها لاحظتُ أنه لا يزال متبنيا عقائد الثورة الشيوعية القاسية، لكنه بدا أكثر تأملا في أخطائه الماضية. وقد راودني فضول عميق اتجاه برقيته المؤرخة في 27 أكتوبر، فسألته: “في مرحلة ما بدا لك من المنطقي أن توصي السوفيات بقصف الولايات المتحدة. ألا تزال ترى الأمر اليوم بالمنطق ذاته؟” فأجابني: “بعد كل ما رأيته وعرفته، أدركت أن الأمر لم يكن يستحق أن يُدفع لأجله هذا الثمن الفادح”.
إرث ليماي وعقيدة “التحرك السريع”
المشكلة أن الإنسان لا يدرك الصواب إلا بعد فوات الأوان، فنحن البشر لا نبرع كثيرا في اتخاذ قرارات مدروسة وسريعة تتعلق بقضايا الحياة والموت، ففي ظروف كهذه، كيف سيتهيأ التفكير السليم لشخص مذعور؟! وقد لخّص عالم الأحياء الاجتماعي إدوارد أو. ويلسون جوهر معضلتنا بقوله: ” تكتنفنا مشاعر من العصر الحجري، ونمتلك مؤسسات من العصور الوسطى، في حين نتمتع بتقنيات خارقة قد يصعب على العقل البشري استيعابها”.
أما التحدي الرئيسي خلال الثمانين عاما التي تلت أول تجربة تفجير نووي في تاريخ البشرية (ترينيتي)، فيكمن في عدم تمتعنا بقدر كافٍ من القدرات الإدراكية والروحية والعاطفية التي قد تمكّننا من إدارة الأسلحة النووية بنجاح دون الانزلاق إلى فشل كارثي.
فخلال أزمة الصواريخ الكوبية، ارتكب خروتشوف وكاسترو أخطاء مروّعة في التحليل والتقدير، وكذلك سقط بعض مستشاري كينيدي في الأخطاء ذاتها، ومنهم الجنرال كورتيس ليماي، رئيس أركان سلاح الجو، الذي رأى أن الاكتفاء بفرض حصار بحري على كوبا دون أن يتبعه قصف فوري لمواقع الصواريخ لا يختلف كثيرا عن سياسة الاسترضاء في ميونخ (وهي تنازل بريطانيا وفرنسا لهتلر عام 1938 لتجنّب الحرب، لكنها أصبحت رمزا لسياسة الخضوع التي تشجّع العدوان بدلا من ردعه*).
أما عبارة “التحيّز نحو الفعل”، فهي تعبير واسع الاستخدام، لكنها تناهت إلى مسامعي لأول مرة في سياق الحروب النووية، قبل سنوات طويلة على لسان بروس بلير، وهو باحث في شؤون الحد من انتشار الأسلحة النووية وضابط سابق في سلاح الصواريخ في القوات الجوية.
ويُقصد بها أن التعليمات التي يُفترض أن يتبعها الرؤساء الأميركيون في حال وقوع أزمة نووية تقوم على افتراض مسبق بأن روسيا (أو أي خصم آخر) ستحاول تدمير الصواريخ الأميركية وهي لا تزال في مخازنها تحت الأرض. لذلك، أصبح الهدف الدائم لمخططي الحرب النووية هو إطلاق تلك الصواريخ قبل أن تُدمَّر، أو كما يُقال في لغة الإستراتيجيات النووية: “الإطلاق عند الإنذار”، أي الردّ الفوري على أي إشارة تُفهم بوصفها هجوما، حتى قبل التحقق الكامل من صحتها.
على الجانب الآخر، عصفت الصدمة بقلوب الكثير من الرؤساء الأميركيين الذين تولّوا منصب الرئاسة منذ عام 1945، بمجرد علمهم بالمهلة الزمنية الضيقة جدا التي يُفترض أن يتخذوا خلالها قرار الإطلاق النووي. فالمشكلة ليست مسألة سلطة، إذ يمتلك الرؤساء سُلطة مطلقة فيما يخص السلاح النووي، ولهم أن يفعلوا به ما يشاؤون.
لكن التحدي الحقيقي، كما وصفه جورج دبليو بوش بعبارته الشهيرة، يكمن في أن الرئيس لن يتوفر لديه وقتٌ كافٍ حتى لمغادرة الحمّام قبل أن يُجبَر على اتخاذ قرار بالإطلاق، وهو قرار قد يُبنى على معلومات جزئية أو متضاربة أو حتى خاطئة.
أما رونالد ريغان، فقد أصبح مشدوها ومذهولا حين تولّى الرئاسة، وأدرك أن الحكاية كلها تتلخص في 6 دقائق فقط لاتخاذ قرار الإطلاق النووي. كما رأى باراك أوباما أن اتخاذ الرئيس مثل هذا القرار -الذي يُعدُّ الأهم في تاريخ البشرية كلها- في غضون دقائق معدودة هو ضرب من الجنون.
العالم على صفيح نووي ساخن
إننا نعيش اليوم إحدى أكثر فترات العصر النووي اضطرابا وتوتّرا. فملامح الحرب العالمية الثالثة أصبحت تلوح في الأفق من خلال الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ تقف روسيا مدعومة بإيران وكوريا الشمالية، في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة، على الأقل حتى هذه اللحظة.
وفي الوقت الذي خاضت فيه الهند وباكستان -الدولتان النوويتان- صداما كاد يتطور إلى حرب شاملة مؤخرا، شنت إسرائيل والولايات المتحدة هجوما استهدف مواقع نووية إيرانية. وفي الشرق الأقصى، تواصل كوريا الشمالية توسيع ترسانتها النووية، في حين تبدأ كوريا الجنوبية واليابان التفكير علنا في امتلاك ترسانة نووية، دفاعًا عن نفسيهما.

ستحتاج البشرية إذن إلى نصيب وافر من الحظ إن أرادت النجاة من هذه المرحلة العصيبة. فلقد أنقذتنا المصادفات الحسنة من قبل، لا أثناء أزمة الصواريخ الكوبية فحسب، بل في محطات أخرى كثيرة من التاريخ النووي.
فعلى مدى 80 عاما، نجت البشرية مرارا بفضل أفراد نادرين تمتعوا ببصيرة استثنائية في أوقات كان العقل فيها يترنّح تحت وطأة الخوف والتوتر. ويخطر ببالي اثنان من هؤلاء على وجه التحديد: الضابط السوفياتي ستانيسلاف بيتروف، والجنرال الأميركي المتقاعد جون كيلي، كلٌّ بطريقته الخاصة.
في سبتمبر/أيلول عام 1983، كان ستانيسلاف بتروف يعمل ضابطا ويؤدي نوبته في مركز قيادة سوفياتي حين دوّى الإنذار في مركز القيادة معلنا أن الولايات المتحدة أطلقت خمسة صواريخ نووية نحو بلاده. في ذلك الوقت، كانت العلاقات بين واشنطن وموسكو مشحونة بالتوتر، إذ لم يمضِ على إسقاط السوفيات لطائرة ركاب كورية جنوبية مدنية سوى ثلاثة أسابيع.
لكن بخبرة هادئة، قرر بتروف أن يشكّك في صحة الإنذار بدلا من تصديقه، وأعلن أن التحذير كاذب، وتجاهل بذلك البروتوكولات العسكرية الصارمة الخاصة بمثل هذا الإنذار. كان يعلم أن نظام الكشف لا يزال جديدا وغير موثوق به تماما، كما أدرك أن أي هجوم أميركي حقيقي لن يقتصر على خمسة صواريخ فقط، بل سيكون هجوما ساحقا.
بعدها، رفع بتروف تقريرا إلى رؤسائه يؤكد فيه اعتقاده أن الإنذار ناجم عن خطأ في النظام، وهذا القرار حال دون اندلاع تبادل نووي بين القوتين العظميين. (تبيّن لاحقا أن أحد الأقمار الصناعية السوفياتية أخطأ في تفسير تفاعل أشعة الشمس مع الغيوم فوق ولايتي مونتانا ونورث داكوتا على أنه إطلاق لصواريخ من الأراضي الأميركية).
على الجانب الآخر، عُرِف الجنرال المتقاعد جون كيلي، الضابط في مشاة البحرية ذو الأربع نجوم الذي شغل منصب رئيس موظفي البيت الأبيض خلال جزء من الولاية الأولى لدونالد ترامب، بجهوده المضنية لإرساء قدر من النظام داخل بيئة تصبغها الفوضى والعشوائية.
وخلال 17 شهرا من عمله في البيت الأبيض، سرعان ما أدرك كيلي أن ترامب يُشكّل خطرا في القضايا المتعلِّقة بالأمن القومي. فمن وجهة نظره، يفتقر ترامب إلى المعرفة بالشؤون الدولية، ويميل بطبعه إلى النزعة السلطوية.
وفي عام 2017، تمكّن كيلي من لمس هذه العيوب عن قرب حينما بدأ ترامب في توجيه إهانات متكررة إلى زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي لم يكن هو الآخر أقل تهورا أو تزعزعا من غريمه الأميركي. وبعد أن هدّدت كوريا الشمالية باتخاذ إجراءات فعلية ضد أعدائها، صاح ترامب قائلا: “سنواجههم بالنار والغضب، وبقوة لا مثيل لها في تاريخ هذا العالم”.
كرّر كيلي تحذيره للرئيس ترامب من أن مثل هذه اللغة قد تدفع كيم جونغ أون، الذي بدا حريصا على إثبات جدارته أمام كبار الجنرالات المحيطين به، إلى ردّ متهوّر قد يشعل فتيل حرب على كوريا الجنوبية.
إلا أن ترامب واصل استفزازاته، فكتب في إحدى تغريداته: “الحلول العسكرية جاهزة الآن وعلى أهبة الاستعداد في حال تصرّفت كوريا الشمالية بتهوّر، وعسى أن يسلك كيم جونغ أون طريقا بديلا بعيدًا عن الصدام”، فردّ كيم لاحقا بإطلاق صواريخ فوق اليابان، واصفا ترامب بأنه “مختل عقليا، وعجوز متداعٍ”.
وفي كتاب مايكل إس. شميدت الذي نُشر بعنوان: “دونالد ترامب ضد الولايات المتحدة: في خضّم الصراع لإيقاف رئيس” (Donald Trump v. The United States: Inside the Struggle to Stop a President) يشير الكاتب إلى أن الجنرال جون كيلي حذّر ترامب مرارا وتكرارا من أسلوبه مع رئيس كوريا الشمالية بقوله: “إنك تدفعه لإثبات رجولته. فإذا حاصرته في الزاوية، قد يثير ذلك حفيظته ويتفجر الموقف بما لا تُحمد عقباه، وأنت لا تريد أن تحاصره بالطبع”.
وعن إدراك ترامب المحدود للأخطار، كتب شميدت يقول: “لم يُدرك رئيس الولايات المتحدة أن بإمكانه دفع البلاد ليس فقط إلى حافة حرب في أي لحظة، بل إلى حرب نووية قد تتصاعد بسهولة لتصبح الأخطر في تاريخ العالم”.
وعلى المنوال ذاته، أدرك كيلي أن تحذيراته لترامب لم تؤتِ ثمارها ولم تؤثر فيه، فاعتمد بدلا من ذلك على أسلوب مختلف باستغلال شعور ترامب بالقلق وافتقاره للسكينة، وحاجته إلى أن يكون بطلا، أو على الأقل رجل صفقات، فقال له حسب ما ذكره شميدت في كتابه: “لم يحاول أي رئيس منذ أن أصبحت كوريا الشمالية دكتاتورية شيوعية التواصل مع هذه الدولة. لم يحاول أي رئيس أن يتفاوض أو يُجادل هذا الرجل، وأنت ماهر للغاية في إبرام الصفقات، لِمَ لا تخوض غمار تجربة إبرام صفقة معه؟”.
زعيم نووي في عالم متقلب
يظل ترامب زعيما مُتذبذِبا في عالم أصبح أشد اضطرابا وتقلّبا مما كان عليه خلال ولايته الأولى. صحيح أنه لم يأتِ على الإطلاق رئيس يحوز صفة المسؤول المثالي عن الأمن القومي للولايات المتحدة، أو ترسانة بلاده النووية، إلا أن ترامب أقل أهلية من معظم القادة السابقين تقريبا لإدارة أزمة نووية.
المشكلة أن ترامب سريع الانفعال، ويُبدي حساسية مفرطة إزاء أي إهانة، كما أنه غير مبالٍ ولا يُبدي اكتراثا أو فضولا لأي شيء. ومع ذلك، لن نكون منصفين إذا افترضنا أنه قد يستيقظ ذات يوم ليقرر استخدام الأسلحة النووية، فقد أعرب بين حين وآخر عن كراهيته لمثل هذه الأسلحة، وعن رفضه للحرب عمومًا، غير أن الطريقة التي قد يخطئ بها في إدارة الأمور قد تدفع العالم مرة أخرى نحو دوامة تصعيد جديدة.
ما لا نفطن إليه أن النسيان قد يكلفنا حياتنا. إذ ننسى أننا بعد ثمانين عامًا من صيف 1945 الذي قلب العالم رأسًا على عقب، صارت روسيا والولايات المتحدة وحدهما تمتلكان قدرة نووية هائلة تكفي لسحق الكوكب مرات ومرات. ننسى أن الصين أصبحت خصما يكاد ينافس الولايات المتحدة، وأن تاريخ العصر النووي زاخر بالحوادث التي كادت تؤدي إلى حرب نووية، ومتخم بالسقطات العرضية، وسوء التفسير الذي كاد يُفضي إلى كوارث.
وفوق ذلك كله، ننسى أن معظم البشر لا يملكون من الفطنة والجرأة ما أبداه ستانيسلاف بتروف، وجون كيلي. وقبل كل شيء، نغفل عن القاعدة التي صاغها عالم الرياضيات وخبير التشفير مارتن هيلمان، والتي تنص على أن الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة في لعبة الروليت الروسية هي التوقف عن اللعب.
المصدر : الجزيرة نت

