“أبو المواسم”.. حرب على الزيتون.. كيف يستهدف الاستيطان الجذور والذاكرة الفلسطينية؟- (صور)

المسار : تؤكد مؤسسة الدراسات الفلسطينية أن اعتداءات الاحتلال على سيدة السفوح، شجرة الزيتون، في مواسم قطافها، ليست حرباً على الزيتون فحسب كمورد جغرافي اقتصادي، بل أيضاً هي حرب على الجذور والذاكرة والهوية التي تشكل جوهر الوجود الفلسطيني.

أصبح الصراع أكثر وضوحاً بين الفلسطيني الأعزل المتمسك بحقه وإرادته، ودولة الثكنة العسكرية التي تدير عمليات السلب والنهب

ويشير تقرير مؤسسة الدراسات الفلسطينية إلى أن شجرة الزيتون أحد أبرز الرموز الوطنية في الوعي الجمعي الفلسطيني؛ إذ تتجاوز قيمتها المادية بصفتها شجرة مثمرة تساهم في الناتج الاقتصادي، لتغدو رمزاً للصمود والبقاء الجذري. أما موسم قطف الزيتون فيمثل لدى الفلسطينيين طقساً سنوياً لتجديد الارتباط بالأرض، حتى وُصف في المأثور الشعبي بـ”أبو المواسم”، لِما يحمله من مكانة مركزية في دورة الحياة الريفية والهوية الوطنية.

وفي هذا السياق، الزيتونة هي شجرة الفلاح وصورته الرمزية التي يجسد عبرها عمق انتمائه إلى أرضه وتَجذّره فيها.

ويمضي التقرير في توضيح قيمة الزيتون المادية والروحية: “تتجسد عبرها قوة الفلسطيني في مستويين متداخلين: المعاشي والاجتماعي. فعلى المستوى الأول، يُعَدّ الزيت عنصراً أساسياً في المونة السنوية والغذاء اليومي، بينما يرتبط المستوى الثاني بمكانة العائلة ومقدار إنتاجها، وهو ما عبّر عنه الموروث الشعبي بالقول: “المِلك زيتون”.

إلاّ أن موسم 2025 جاء مثقلاً بالهموم؛ فبالإضافة إلى ضعف الإنتاج (“شلتوني”)، مقارنة بالعام المنصرم، تفاقمت سياسات الضم الفعلي وازداد توحش الاعتداءات الاستعمارية اليومية، فتحولت الأراضي المزروعة بالزيتون، خلال تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، إلى ساحة صراع استعماري مفتوح، في إطار عمليات منظمة تُنفّذها البؤر الاستعمارية المسلحة، في مرحلة تُعدّ من أكثر مراحل الضفة الغربية عنفاً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

موسم الاستهداف الممنهج

وتقول مؤسسة الدراسات الفلسطينية إنه في سياق سياسات الضمّ المتدرج واستهداف سبل العيش الفلسطيني، شهد موسم الزيتون الحالي تحولات ميدانية حادة، فقد أصبح الصراع أكثر وضوحاً بين الفلسطيني الأعزل المتمسك بحقه وإرادته، ودولة الثكنة العسكرية التي تدير عمليات السلب والنهب، وتؤطرها قانونياً وإدارياً ضمن منظومة السيطرة على المناطق المصنفة (ج).

وطبقاً لهذا التقرير أيضاً فقد تجلّت هذه الممارسات في: ملاحقة المزارعين، وتدمير أملاكهم، وتخريب المحاصيل، ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم، ولا سيما في أطراف القرى والبلدات.

ويُعَدّ موسم تشرين الأول/أكتوبر – تشرين الثاني/نوفمبر 2025 الأكثر عنفاً من حيث الاتساع الجغرافي للاعتداءات وشدتها؛ إذ لم تقتصر على المنع فقط، بل شملت أيضاً هجمات جسدية ومحاولات قتل مباشرة، سُجّلت يومياً تقريباً في مناطق جنوب شرق نابلس وشمال وشرق رام الله والبيرة.

ويشير التقرير إلى تنوع الاعتداءات بين تكسير المركبات والمعدات الزراعية، وسرقة الثمار، واقتلاع الأشجار، والاعتداء على الأهالي والمتضامنين، وإغلاق الطرق الزراعية، وإطلاق الأعيرة النارية والغاز. ويُظهر الميدان تنسيقاً وظيفياً بين جيش الاحتلال وعصابات فتية التلال؛ إذ يتولى الجيش حماية المستعمرين وفرض إرادتهم، بينما تنفذ العصابات الاعتداءات الميدانية وسرقة المحاصيل.

وبرأي “مؤسسة الدراسات” يعكس هذا التوازي في الأدوار تكاملَ المنظومة الاستعمارية بين الرسمي وغير الرسمي من أجل تحقيق مطامع دولة الاحتلال في ضم الضفة والسيطرة عليها والدفع نحو هجرة الفلسطينيين من مناطق (ج) على وجه التحديد.

سرقة الهوية وتشويه التراث

وتوضح مؤسسة الدراسات أن خطورة هذا التوسع الاستيطاني أنه لا تتوقف عند حدود السيطرة المادية على الأرض فقط، بل تمتد أيضاً إلى الرموز الثقافية والهوية التاريخية المرتبطة بها؛ إذ يسعى المستعمرون لسرقة التراث الفلسطيني المتجسد في شجرة الزيتون، في محاولة محو تاريخ المكان وإعادة إنتاجه وفق سرديتهم الخاصة.

وعن ذلك تضيف: “في الوقت الذي يُمنع فيه الفلسطينيون من دخول أراضيهم، يقوم المستعمِرون بقطف الزيتون وممارسة طقوس تحاكي الحياة الريفية الفلسطينية على مرأى أصحاب الأرض. وتنتشر مشاهد المستعمرين وهم يُشعلون النار لإعداد الشاي أو الطعام بين الأشجار المسلوبة، في محاولة تمثّل صورة الفلاح الفلسطيني الأصيل وتطبيع وجودهم كأصحاب الأرض. ويمثل هذا السلوك سرقة مركّبة: استيلاء على الأرض من جهة، واغتصاب للرمزية الثقافية من جهة أُخرى. إنها محاولة استعمارية لتغيير المشهد البصري والذاكرة الجمعية، عبر تحوّل الفعل الزراعي الفلسطيني إلى طقس استعماري مزيف، وتقديم المستعمِر بصفته وارثاً شرعياً للتراث”.

وتؤكد المؤسسة أن هذه الممارسات تبرز أن المشروع الاستعماري لا يُعنى فقط بتغيير الجغرافيا، بل يسعى كذلك إلى هندسة الوعي وتغيير بنية الهوية الريفية الفلسطينية؛ وهي عملية متكاملة تشارك فيها مؤسسات الاحتلال كافة، من الجيش والإدارة المدنية إلى التنظيمات الصهيونية، في إطار ما يمكن وصفه بإستراتيجية تفكيك البنية الاجتماعية والجغرافية الفلسطينية، ضمن مسار إبادة جذرية تستهدف الإنسان والمكان والذاكرة.

استنزاف الأرض ومحو الوجود

وحسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية أيضاً تتبدّى ملامح التهجير الصامت بوضوح في السفوح الشرقية لقرى نابلس ورام الله، وفي تجمعات الأغوار الفلسطينية. فالفلسطيني اليوم لا يُقتلع من أرضه بعملية عسكرية خاطفة فقط، بل يُدفع أيضاً بالتدريج وبطريقة مدروسة إلى مغادرتها، عبر سياسات تآكل بطيء: الحصار، وتخريب المحاصيل، ومنع الوصول إلى مصادر الرزق، والاعتداءات المتكررة التي تُعرِّض حياته وحياة أسرته للخطر الدائم.

يقوم المستعمِرون بقطف الزيتون وممارسة طقوس تحاكي الحياة الريفية الفلسطينية على مرأى أصحاب الأرض. وتنتشر مشاهد المستعمرين وهم يُشعلون النار لإعداد الشاي أو الطعام بين الأشجار المسلوبة

وتمضي المؤسسة في رسم ملامح التهجير المتصاعد: “أمام هذا الضغط المُركّب، يجد الفلسطيني نفسه أمام خيارات قسرية، أحلاها الرحيل الموقت إلى أطراف المدن والبلدات الواقعة ضمن مناطق السلطة الفلسطينية، بعيداً عن أراضيه في المناطق المصنفة (ج).

وبالموازاة، يعمّق الاحتلال أدواته الاستيطانية في محيط القرى والبلدات، ولا سيما تلك التي تمثل الامتداد الطبيعي بين الريف وشفا الغور وعلى الطرقات المؤدية إلى الأغوار.

ومن أبرز الأدوات الاستعمارية: ظاهرتا فتية التلال والاستيطان الرعوي، اللتان تعملان على خنق الجغرافيا الفلسطينية وتدمير اقتصادها الريفي، عبر السيطرة على المراعي والمصادر الطبيعية.

وتشدد المؤسسة أن ما يجري في موسم الزيتون من اعتداءات لا يمكن قراءته بصفته أحداثاً موسمية معزولة، إنما هو جزء من منظومة استعمارية متكاملة، تسعى لإعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية وإعادة هندسة الوعي الجمعي. وتخلص للقول إنها ليست حرباً على الزيتون فحسب، بل أيضاً حرب على الجذور والذاكرة والهوية التي تشكل جوهر الوجود الفلسطيني”.

التمسك بالوثيقة الوجودية

في مواجهة هذا المشهد المركّب، يتحول الفلاح الفلسطيني من مزارع تقليدي إلى فاعل إستراتيجي في معركة البقاء الوطني. فكل شجرة زيتون صامدة تمثل وثيقة ملكية ووجود لا يمكن تزويرها، وشهادة حيّة على رفض مشروع المحو والاقتلاع.

وإن إصرار الفلسطيني على العودة إلى أرضه على الرغم من المخاطر، يُعيد تعريف الزيتون في الوعي الوطني بصفته رمزاً للمقاومة الوجودية لا مصدر رزق فحسب؛ إذ يتحول كل موسم قطف إلى إعلان حياة في وجه مشروع الفناء، وكل زيتونة تبقى شاهدة على الحق، وجذراً يمتد في مواجهة الريح.أدى أصحاب الأراضي والقرى الفلسطينية صلاة الجمعة في بساتين الزيتون خلال احتجاج على مصادرة المستوطنين الإسرائيليين لأراضيهم قرب قرية كفر قدوم، شرق مدينة نابلس بالضفة الغربية المحتلة، في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2025.

المصدر :  صحيفة القدس العربي

 

Share This Article