أجبرت الحرب على قطاع غزة فتيات صغيرات على تحمل أعباء كبيرة، وحولت بعضهن إلى ربات بيوت بعد استشهاد أو إصابة الأبوين أو أحدهما، في واحدة من أقسى المسؤوليات التي يمكن أن تتحملها طفلة، خصوصاً في ظل ظروف الحرب من نزوح وتجويع، في مأساة سترافق هؤلاء الفتيات لسنوات طويلة، خاصة أولئك اللواتي يحاولن تعويض غياب الأم.
وتواجه مراهقات وطفلات في غزة أوضاعاً تتطلب منهن غسل الملابس بوسائل بدائية، والجلوس أمام موقد الحطب، وتحمل الاختناق الناتج عن الدخان، ولسعات النار، فضلاً عن المشاركة في حمل غالونات المياه، إلى جانب مسؤولية رعاية الأشقاء الصغار.
وخلّف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قرابة 37 ألف يتيم، بعضهم فقد الوالدين، مع نحو 17 ألف أرملة، وسافر آلاف آخرون للعلاج في الخارج، ما أنتج تداعيات كارثية على المتبقين من أفراد الأسر.
نجت المراهقة حلا سهيل ماضي (17 سنة) من مجزرة دامية راح ضحيتها 25 فرداً من أعمامها وزوجاتهم وأطفالهم وجدتها وخالاتها وأولادها، ولم ينجُ من المجزرة سوى عائلة والدها، وناجٍ وحيد من عائلة عمها. ومنذ سفر والدتها وشقيقاتها الأكبر المصابات لتلقي العلاج خارج قطاع غزة، بقيت هي مع والدها وشقيقها، وثلاثة من أبناء عمها، أصغرهم لا يزيد عمره حالياً عن أربع سنوات.
أجبرت حلا على رعاية ابن عمها الصغير الذي فقد والديه وإخوته، بينما ترعى دينا 10 إخوة من بينهم أربعة غير أشقاء منذ استشهاد والدها
تقول حلا لـ”العربي الجديد”: “كان عمري بعد المجزرة التي وقعت في بداية الحرب 15 سنة، وكنت مجبرة على التعامل مع طفلٍ فقد والديه وإخوته، ويحتاج إلى الحليب وتغيير الحفاظات والرعاية المستمرة. كانت صدمة كبيرة، إذ لم أواجه هكذا مسؤولية سابقاً، ولم أكن مهيأة للتعامل مع طفل فقد عائلته، وكذلك رعاية بقية أفراد عائلتي. كبر ابن عمي خليل الآن، وأصبح عمره أربع سنوات، وكبرت معه، حتى أصبحت بمثابة أمه التي لا يفارقها. هو لا يتذكر ما حدث في المجزرة، ولا يعرف شيئاً عن عائلته، ويناديني: ماما حلا، ويسعدني هذا اللقب الذي منحني إياه”.
تجلس في أحد شوارع مدينة دير البلح، أمام بيت بالإيجار نزحت إليه العائلة من منزلها الواقع بحي الزيتون في مدينة غزة، فيما يلهو الطفل الصغير بدراجة هوائية صغيرة مع مجموعة من أبناء الجيران، وتؤكد: “مراقبته ومتابعته مسؤولية، فهو يريد اللعب، ولا أحب إبقاءه في البيت وحرمانه من اللعب مع الأطفال، لكني أراقبه خشية مرور سيارة مسرعة، أو ابتعاده عن المكان، أو حدوث مكروه له”.
تضيف: “كانت المهمة في البداية صعبة، لكن خليل أصبح جزءاً من حياتي، وتعلقت به كما تعلق هو بي، وأصبحت أشعر كأنني أمه فعلاً. إذ أتولى رعايته، وإطعامه، واللعب معه، وتلبية طلباته، واستبدال ملابسه وغسلها، وفي نفس الوقت الالتزام بأعباء يومية تجاه والدي وشقيقي وبقية أبناء عمومتي الناجين من المجزرة. أستيقظ يومياً مبكراً كي أقوم بإعداد طعام الإفطار لطفلين يتيمين من أبناء عمي، ووالدي وشقيقي، وابن عمي الآخر الذي يعيش معنا، وبعدها تبدأ مهمة إعداد الغداء، ثم العشاء، ويتكرر الأمر طوال عامين مرهقين”.
تتابع: “في البداية، لم أكن أعرف أي شيء عن إعداد الطعام، وكنت أتواصل في كل وجبة طعام مع أمي الموجودة في الإمارات للعلاج عبر الإنترنت، وكانت في كل مرة تعلمني المقادير وكيفية الطهي، ومع التكرار تعلمت، وبدأت أتقن إعداد الطعام. الطهي على الحطب صعب، ويتسبب باختناق، وكل وجبة يستغرق إعدادها وقتاً طويلاً مقارنة بالطهي على الغاز. كثير من الأعباء ملقى على عاتقي، والآن أصبحت في التوجيهي، وأذهب إلى المراكز الدراسية للحصول على حصص، وبالكاد أستطيع توفير ساعة للدراسة نتيجة كثرة المهام”.
وخلال أشهر الحرب، نزحت عائلة حلا أكثر من مرة، ورافقها أبناء عمها الصغار، في مسؤولية تتضاعف بتغيير الأماكن، وفي بعض الأحيان كانت تنتقل مع الصغار إلى بيوت الأقارب، وتعد الطعام وترسله إلى مكان وجود والدها وشقيقها في منزل آخر.
داخل مخيم للأيتام بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، تعيش دينا حمادة زعرب (16 سنة) مع عشرة إخوة، من بينهم أربعة أطفال غير أشقاء، وقد استشهد والدها في 22 يناير/ كانون الثاني 2024، أثناء محاولته تفقد منزل العائلة في حي “البطن السمين” بمحيط مستشفى ناصر، ثم لحقت به زوجته التي استشهدت في استهداف خيمة نزوح في 3 يونيو/ حزيران الماضي، لتجد الطفلة نفسها مسؤولة عن رعاية ستة إخوة، فيما تتولى زوجة والدها رعاية أبنائها الأربعة.
في كل صباح، تستيقظ دينا على أعباء يومية جديدة، تبدأ بإعداد الطعام بالمتوفر لديهم، إذ تشعل موقد الحطب للطهي، وتعد الشاي، ثم تجلس برفقة إخوتها على مائدة تنبعث منها رائحة اليتم والفقد، بينما كانت عامرة في السابق بدفء الوالدين. بعد ذلك تبدأ مهمة جلب المياه، إذ تصطف مع شقيقها في طابور تعبئة مياه الشرب، وتعود حاملة قربتين ثقيلتين إلى الخيمة، لتجهز بعض إخوتها الذين يدرسون بنقطة تعليمية في المخيم، وبعدها تراجع معهم واجباتهم، وهي مسؤولية كبيرة على فتاة في عمرها.
تقول أرملة والدها الشهيد : “تتحمل دينا عبئاً كبيراً منذ استشهاد والديها، إذ تقوم بتعبئة المياه، وغسل الملابس، وتحاول التكفل بإعداد الطعام، لكن رعايتها لإخوتها وحده مسؤولية كبيرة على طفلة بعمرها، فليس من السهل تعويض دور الأم”.
لا تجد دينا الوقت للجلوس مع صديقاتها أو اللعب معهن، فهي طوال الوقت منشغلة برعاية إخوتها الصغار. تقول: “شعرت بأنني كبرت فجأة، وأصبحت مسؤولة. فقد الوالدين صعب، ويجعل الشقيق الكبير يحاول تعويض هذا الغياب. لا نزال نعيش جرح فقدان والدي، وأحيانا أجلس بمفردي أبكي من صعوبة الواقع، فما زلت صغيرة على تحمل كل هذه الأعباء التي لا تنتهي، فكل أخ له احتياجات ومطالب، وجميعهم يتوجهون إلي في كل طلب، وأصعب الأوقات التي مرت عليّ كانت أوقات اشتداد المجاعة، فماذا أفعل عندما يطلبون الطعام ولا أجد شيئاً أطعمهم إياه”.
ما يرهق دينا أكثر أنها ستبقى في هذا الواقع لسنوات حتى يكبر إخوتها، ويبدؤون الاعتماد على أنفسهم، وتخفيف الأعباء عنها، وإلى أن يأتي ذلك الوقت، ستعيش الفتاة سنوات من الشقاء والمعاناة، تتجرع خلالها مرارة الفقد مع إخوتها الصغار.
على المنوال نفسه، وجدت شهد يحيى (19 سنة)، نفسها مسؤولة عن رعاية والدها وأشقائها إثر سفر أمها للعلاج خارج قطاع غزة، لتتحمل أعباء الحياة والدراسة، وفي كل مرة يكون هناك نزوح تتحمل مسؤولية توضيب الحقائب، وفرز الأغراض اللازمة للنزوح، ومن ثم تصفيفها في أماكن النزوح.
في كل صباح، تستيقظ شهد مبكراً لتجهيز طعام الإفطار لإخوتها، وتحضيره من مكونات بسيطة نظراً لقلة الموارد الغذائية في الأسواق، ورغم بساطة وجبة الإفطار، إلا أنها مرهقة لصعوبة توفير مكوناتها. تروي لـ “العربي الجديد”: “تبدأ المعاناة بإعداد الخبز، فتجهيز العجين بشكل يومي أمر صعب ومرهق، لأنه يمر بمراحل خلط الدقيق بالماء، ثم الضغط عليه بقوة ليصبح عجيناً، ومن ثم رقه، وبعد تجهيز الخبز، تتعين عليّ المشاركة في رفع غالونات المياه من الطابق الأرضي إلى السطح، وتزداد الصعوبة مع انقطاع الدقيق، والحاجة إلى ترشيد الاستهلاك، والذي يجعلني مسؤولة عن توزيع الطعام على أبي وإخوتي”.
ورغم الأدوار المرهقة، إلا أنها تشعر بالفخر لكونها وقفت إلى جانب عائلتها في تلك الظروف الصعبة التي فرضتها عليهم محنة مرض أمها، وخوضها رحلة العلاج في الخارج. تضيف: “هذه المسؤولية غيرت شخصيتي، وجعلتني أكثر وعياً ونضجاً، وأصبحت قادرة على تحمل ظروف قاهرة، لكنها في نفس الوقت تحرمني من الراحة، إذ لا أجد وقتاً للترفيه عن نفسي، أو حتى للدراسة والمذاكرة، فأنا طوال الوقت منشغلة بتلبية مطالب أفراد العائلة”.
كانت شهد يحيى تتمنى في هذا العمر التركيز على الدراسة، وعيش هذه المرحلة المهمة من حياتها بعيداً عن أداء دور الأمومة، والذي ستعيشه لاحقاً حينما تتزوج وتصبح لديها أسرة جديدة، لكنها في نفس الوقت ترى أن خوض هذه التجربة الصعبة درّبها مبكراً على أن تكون أمّاً مسؤولة، وأكسبها خبرة كبيرة في التعامل مع مواقف عديدة قد تواجهها مستقبلاً.
المصدر : العربي الحديد



