المسار : انتهج جيش الاحتلال الإسرائيلي سياسات غير إنسانية وعقاباً جماعياً في سبيل تجويع سكان قطاع غزة المدنيين والبالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، من بينهم مليون طفل وطفلة دون سن 18 سنة. وارتكب الجيش الذي يصف نفسه بأكثر جيوش العالم أخلاقية جرائم إبادة جماعية، منها القتل المباشر لسبعين ألفاً من المدنيين، 70% منهم من النساء والأطفال الأبرياء، والتعذيب البدني والنفسي والتجويع لمن نجا منهم من القتل، بوصفها أدواتٍ للتهجير وتحقيق مكاسب سياسية بالضغط على المقاومة ومساومتها، رغم أن هذه الفئات محمية بحكم القانون الدولي الإنساني. وفي سبيل تجويع قطاع غزة، كشف الجيش الصهيوني عن وجهه القبيح بتعمده حرمان السكان من كل مصادر الغذاء، فدمر الأراضي الزراعية عن بكرتها، وأباد الماشية والأغنام والأسماك والنحل جميعا، دون أن تشكل هذه المصادر المحمية بالقانون الدولي الإنساني أدنى خطورة عسكرية على ذلك الجيش الهمجي.
وقالت منظمة العفو الدولية إنه تعمد من خلال هذه الجرائم غير المبررة إخضاع المدنيين في غزة لظروف معيشية يراد بها تدميرهم المادي والمعنوي وتدمير فرص بقائهم على قيد الحياة. ولتحقيق هذا الهدف، تعمد الجيش الهمجي تدمير قطاع الصناعات الغذائية في غزة وهدم مصانع إنتاج الأغذية وبنيتها التحتية ومرافقها الحيوية والصناعات المغذية لها، حتى لا تبقى فرصة لتجهيز الطعام وتوفير الغذاء لإبقاء السكان المحاصرين على قيد الحياة، ودفع من تبقى منهم دون قتل إلى القبول بالتهجير خوفا على حياة أطفالهم من الموت جوعا على نحو ما رآه العالم على الشاشات. فسجلت وزارة الصحة استشهاد 460 فلسطينيا جوعا، من بينهم 154 طفلا. وقدرت دراسة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، أونروا، نشرت في مجلة ذا لانسيت الطبية، أن أكثر من 55 ألف طفل في غزة يعانون من نقص حاد في التغذية، منهم 40 ألف طفل رضيع لم يكملوا عامهم الأول ومعرضون للموت البطيء بسبب منع جيش الاحتلال إدخال حليب الأطفال، ومن بينهم 13 ألف طفل في حالة حرجة.
صناعات مزدهرة
كانت القطاعات الصناعية المختلفة في غزة توفر أكثر من 59 ألف فرصة عمل، وتمثل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع. وكان لقطاع صناعة الأغذية أثر اجتماعي واسع، بخلق فرص عمل للشباب في ظل معدلات بطالة مرتفعة، وتعزيز الشعور بالاستقلال الاقتصادي الفلسطيني والقدرة على إنتاج الغذاء داخل القطاع، ولو بحدود ضيقة. وبحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، وفي تقريره “قطاع الصناعة مؤشرات رئيسية لعام 2019″، بلغ عدد منشآت إنتاج الأغذية والمشروبات في قطاع غزة 133 منشأة. استطاعت الصناعات الغذائية المحلية أن توفر للسكان في غزة جزءا من المواد الغذائية الأساسية، مما خفض الاعتماد على الواردات من خارج القطاع، رغم أن إسرائيل تفرض منذ سنة 2007 قيودا مشددة على إدخال ما تصفه بالمواد ذات الاستخدام المزدوج إلى غزة، وهي أساسية لعمل الصناعات الغذائية الإنتاجية والصناعات المختلفة، منها المعدات والآلات وقطع الغيار، ومواد البناء.
تدمير الصناعة كلياً
كشف استمرار جيش الاحتلال في القتال، رغم الإعلان عن إنجاز مهامه القتالية، وتوسيع نطاق الدمار ليطاول الأراضي الزراعية ومرافق إنتاج الغذاء، عن هدفه شل قطاع الإنتاج الصناعي والغذائي في غزة. أما الإنتاج الغذائي المحدود الذي نجا من العدوان، فسرعان ما توقف نتيجة القيود على دخول المواد الخام وأوامر التهجير المتكررة والهجمات العسكرية المستمرة. في البريج، مصنع كبير للصناعات الغذائية، مقام على مساحة 2700 متر مربع ومكون من ثلاثة طوابق، أنشئ في السبعينيات ويشغل 120 عاملا على امتداد ثلاثة أجيال، يحتوي على خطوط لإنتاج الجبن والألبان والويفر والشيبس. قصفه الجيش بعد أسابيع من الحرب، وأشعل النار في المخازن. وبعد فترة قصيرة قصفه للمرة الثانية بصاروخين من طائرة إف 16. ثم أعاد الجيش اللا أخلاقي قصف المصنع للمرة الثالثة بسبعة صواريخ إف 16، فدمر غرف التبريد وسيارات توزيع وأطاح الماكينات في الشارع، وبلغت الخسائر 15 مليون دولار.
يشهد على همجية جيش الاحتلال في استئصال صناعة الأغذية من القطاع، محمد التلباني، صاحب مصانع العودة للمنتجات الغذائية وأحد أقطاب قطاع الصناعات الغذائية في غزة. بدأ نشاطه بإنتاج الحلويات في غرفة في بيته في سنة 1977، ثم جلب آلة نصف أوتوماتيكية في محل صغير، ثم نقل المشروع عام 1980 إلى مصنع صغير في منطقة دير البلح. وفي عام 1998، أنشأ مصنعا أكبر يستوعب 400 عامل، يعيلون 400 عائلة. وبعد الحرب، تواصل أعضاء من جمعية مسلك مع التلباني لتقدير حجم الخسائر بسبب الحرب. وبعد المقابلة مباشرة، قصف الجيش الصهيوني مجموعة مصانع العودة ودمر مستودعها المركزي في دير البلح، وأباد جميع محتوياته، وقدرت الخسائر بنحو 4 ملايين دولار. واليوم العمال بلا عمل، والعائلات تبحث عن الطعام بطرق مؤلمة لا يقدر الصحافي على وصفها ولا القلب على احتمالها.
يلخص صاحب مصنع للأغذية في غزة هدف جيش الاحتلال من تدمير قطاع صناعة الأغذية لكسر صمود السكان وتهجيرهم في غزة بقوله، “خلال العامين الماضيين لم يبق الجيش لنا أي شيء، دمر المصنع بالكامل في المنطقة الصناعية شرق غزة، لم يبق منه سوى كومة صغيرة من الحديد، لم يعد لدينا أي شيء في غزة. والدي، وهو قلب المشروع، وإخوتي وأنا غادرنا غزة التي أردنا أن نعيش فيها رغم كل الظروف. نعيش حالة من اليأس والإحباط، مثل باقي أصحاب الأعمال والتجار في القطاع”.
رغم وقف الحرب، يمنع الجيش دخول المعدات وعناصر الإنتاج والأغذية الأساسية، وفي المقابل يسمح بدخول سلع هامشية واستهلاكية مثل الموبايلات والأحذية الرياضية العالمية وأغذية التسالي. بموجب القانون الدولي الإنساني وبصفتها قوة احتلال، تتحمل إسرائيل مسؤولية قانونية لضمان تلبية كل احتياجات السكان المدنيين. ويتعين عليها السماح بدخول المعدات والمواد اللازمة لإعادة تأهيل قطاع صناعة الأغذية، بما يمكّنه من العودة للعمل وتقديم استجابة فعلية لاحتياجات السكان. وعليها تحمل المسؤولية عن أفعالها وتقديم تعويضات عادلة لرجال الصناعة وعمالها عن الأضرار التي لحقت بقطاع إنتاج الغذاء، وعن الخسائر المتحققة من بداية العدوان وحتى عودة القطاع للعمل بشكل كامل، وأيضا تمكين الوصول الكامل إلى الموارد اللازمة لإعادة بناء القطاع الصناعي بشكل شامل وأخذ فرصته في تصدير منتجاته للخارج، ولكن من يُلزم الكيان المارق بالقانون الدولي؟!

