هآرتس بالعربي : باسم خندقجي يسعى إلى “كشف الوجه الحقيقي للأدب الصهيوني”

سطع نجمه ككاتب بعد فوزه بجائزة مرموقة وهو في السجون الإسرائيلية. واليوم، بعد نفيه إلى مصر، يحاول التأقلم مع مكانته الجديدة

المسار: لم يكن الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يعلم ما الذي ينتظره في اللحظة التي أُطلق سراحه فيها ضمن صفقة التبادل بين إسرائيل وحماس في تشرين الأول الماضي. ففي عام 2005 أُدين بتهمة تقديم المساعدة لمنفّذ عملية التفجير الانتحاري في سوق الكرمل في تل أبيب، والتي قُتل فيها ثلاثة أشخاص، وحُكم عليه بثلاثة مؤبّدات. وفي الرابع عشر من تشرين الأول، وبعد أكثر من عشرين عامًا خلف القضبان، أُطلق سراحه ورُحّل إلى مصر مع خمسين أسيرًا فلسطينيًا آخرين. وحين وصل إلى القاهرة، ترجّل من الحافلة مرتديًا كوفية كُتبت عليها كلمتا “فلسطين” و”القدس لنا”. كانت شقيقته، أمنة، تركض نحوه. وقد وثّق المصوّرون اللقاء من كل زاوية، وسرعان ما انتشر المشهد المؤثر على شبكات التواصل الاجتماعي.

لم تتأتَّ موجة الاهتمام الواسع بباسم خندقجي من كونه أسيرًا محرَّرًا فحسب، بل لأنه أصبح قبل ذلك شخصية ثقافية معروفة بفضل كتاباته. فروايته “قناع بلون السماء”، الصادرة عام 2024 والحائزة في العام نفسه الجائزة العالمية للرواية العربية، تُعَدّ من أبرز الأعمال المتوَّجة بإحدى أرفع الجوائز الأدبية في العالم العربي، والبالغة قيمتها خمسين ألف دولار وتُمنح برعاية دولة الإمارات.

خندقجي في لقائه مع شقيقته، آمنة، بعد الإفراج عنه من السجن

بعد أيام قليلة من خروجه، كان باسم خندقجي يتمشّى على ضفاف النيل، فيما كانت شقيقته توثّق لحظات الحرية الأولى. وأثناء سيره تحدّث إلى الكاميرا عن مشاعره المتضاربة تجاه التحرير والمنفى. قال: “تخيّلتُ هذا المشهد طويلًا. الآن، أمام النيل، أشعر بأنني ألمس جوهر الثقافة المصرية وأتنفّس طعم الحرية”. وبينما كان يتحدث، اقترب منه رجل مصري وهنّأه على نَيله الحرية، فابتسم خندقجي بخجل وشكره. في العالم العربي عمومًا، وفي مصر خصوصًا، استُقبل خندقجي بترحاب واسع وبقدر كبير من التقدير. ففي 14 نوفمبر، احتضنت مكتبة كبيرة في القاهرة أمسية أدبية خُصّصت للاحتفاء بخروجه، شاركت فيها الناقدة وباحثة الأدب د. شيرين أبو النجا. وفي 23 نوفمبر، استضافته مكتبة “ديوان”، إحدى أبرز المكتبات في القاهرة، في لقاء تحدّث فيه عن تجربة الكتابة وتشكّل هويته الأدبية داخل السجون الإسرائيلية. وفي تغطية لصحيفة “اليوم السابع”، نُقل عنه قوله إن رواياته “تدفعه ليكتبها”، وإنه يحرص في كل عمل على الاستمتاع بعملية الكتابة. وأضاف: “لا يولد النص حقًا ما لم يمسّ صاحبه أولًا”.

באסם חנדקג'י עטיפת ספר
באסם חנדקג'י עטיפת ספר

الى العالمية. غلاف الترجمة الإنجليزية لرواية خندقجي 

بدأ باسم خندقجي الكتابة في السجن عبر مقالات تناولت تجربة الأسير الفلسطيني. وفي عام 2017 صدر في رام الله عمله الروائي الأول، “نرجس الوحدة”، بدعم من وزير الثقافة في السلطة الفلسطينية آنذاك، إيهاب بسيسو. وقد تولّت والدته وشقيقه توقيع نُسخ الرواية خلال حفل إطلاقها. تدور أحداث الرواية حول شخصية خيالية تُدعى رجب إسماعيل، شاعر يعيش تحت وطأة القمع في أحد الأنظمة العربية، ويخوض صراعات داخل الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه.

والآن، بعد خروجه من السجن، يحاول باسم خندقجي التأقلم مع الهالة التي باتت تحيط به ككاتب يحظى بمكانة لافتة. ففي الأسابيع الأخيرة افتتح حساباً على إنستغرام سرعان ما حصد عشرات الآلاف من المتابعين، ينشر فيه أخباره، ويشارك جمهوره نشاطاته الثقافية ويوميات عمله. يجني ثمار الكتابة التي نضجت خلف القضبان، ويلتقي قرّاء وصحافيين ومثقفين، مصمماً على مواصلة ما بدأه داخل السجن: الكتابة وترسيخ حضوره في المشهد الأدبي. في منشور له كتب: “قريبًا، من قلب القاهرة، سأستعيد كلماتي وأكتبها بحبر النيل وإيقاعه. سأكتب كي أستكمل حريتي. سأكتب حتى يُزال المنفى والعنصرية والفاشية. وسأبدأ هنا، في مصر، روايتي الجديدة، عن الحياة والأمل”.

ليس من السهل النظر إلى مسيرة خندقجي منذ الإفراج عنه كرحلة شخصية فحسب. فمع مرور الأيام يتضح أن الصورة التي تشكّلت له ككاتب وُلد مجدداً داخل الزنزانة تحوّلت في نظر كثيرين إلى رمز لمواجهة ثقافية في وجه القمع. فيأتي التقدير مزدوج من جمهوره العربي: مرةً لإصراره على الكتابة داخل سجن تحكمه الرقابة، ومرةً أخرى لاختياره مواصلة الفعل الأدبي في المنفى.

خندقجي في فعالية أقيمت في مكتبة “ديوان” بالقاهرة الشهر الماضي

في مقابلة أُجريت قبل نحو شهر على شاشة الـBBC بالعربية، قال باسم خندقجي: “هذه ليست حرية نلتها بصورة طبيعية. إنها أشبه بولادة من الخاصرة. خرجنا بفضل أنقاض شعبنا في غزّة وبحر الدم الذي سال هناك”. واعترف بأن اندفاعه نحو الكتابة وُلد من حاجة ملحّة للتشبث بالحياة: “الأسير الفلسطيني يحتاج إلى الأمل والمعنى. من يكتب داخل السجن يتحول إلى مطارد، ولهذا نكتب سرّاً شديداً، ونهرّب ما نكتبه عبر أسرى على وشك الإفراج، وبطرق أخرى أيضاً”.

بعد أيام قليلة على الإفراج عنه، ظهر باسم خندقجي في مقابلة مع قناة “العربي” القطرية، وقال: “رغم تواضع الظروف التي كتبت فيها روايتي داخل السجن، كانت تلك طريقتي للتعبير عن هويتي الثقافية ودوري كمثقف في مواجهة العدو الصهيوني”. وأوضح لاحقاً أن “الكتّاب الفلسطينيين يدفعون ثمن كتابتهم — بأجسادهم وأرواحهم — لكن بالنسبة لي لا يمكن إنتاج أدب منفصل عن القضية الفلسطينية”.

الصحافية والشاعرة عائشة بلحاج، التي حاورته في جريدة “العربي الجديد” الصادرة في لندن، كتبت أن الكتابة من داخل الزنزانة منحت خندقجي منظوراً ثقافياً استثنائياً. وقد قال لها إنه رفض أن يكتب أدب السجون التقليدي القائم على توثيق الألم، مضيفاً: “حوّلت السجن إلى نقطة مراقبة ثقافية أطلّ منها على العالم، وفي الوقت ذاته أسعى إلى استعادة إنسانيتي. نجحت في ذلك، وهذا ما أعاد إليّ هويتي، خصوصاً بعدما قررت الانخراط في مشروع أدبي أثمر الرواية”.

وقد روى أيضًا كيف عَلِم بفوزه بالجائزة: “اقتحم حراس السجن الزنزانة وأخذوني إلى التحقيق. وعندما بدأ المحققون يسألونني عن الأمر، أدركتُ أنني فزتُ — أو بالأحرى، أنني انتصرت”. وأضاف: “هذه الجائزة هي انتصار لشعبي الفلسطيني، انتصار لغزة. في تلك اللحظة شعرتُ بأنني ساهمتُ، ولو بشكل متواضع جدًا، في المقاومة الحاصلة خارج السجن. كان ذلك دوّامة من الحزن والفرح والفخر والسمو في آن واحد. شعرتُ بأن على كتفيّ مسؤولية كبيرة، بوصفي كاتبًا ومثقفًا فلسطينيًا ناشطًا”.

خلف القضبان

تستند كتابة خندقجي إلى تقليد طويل من الكتّاب الفلسطينيين الذين بدأوا طريقهم داخل جدران السجون الإسرائيلية، ومع مرور الوقت صاغوا ما يُعرَف اليوم بـ”أدب السجون” الفلسطيني. بالنسبة لهؤلاء الكتّاب، لا تُعدّ الكتابة مجرد تعبير فردي، بل فعل مقاومة ضد القمع الإسرائيلي. وقد وصف محمود موسى زيّاد، الذي بحث هذا المجال في رسالة الماجستير التي قدّمها في جامعة بيرزيت، هذا الأمر بدقة حين قال: “الأدب الذي يكتبه الأسرى الفلسطينيون هو أحد أشكال المقاومة، وهو قادر على التعبير بشكل أعمق عن نفس الإنسان الأسير، ودوافعه، وتعزيز صموده خلال التجربة القاسية، وفي الوقت نفسه تصوير واقع السجن وطرق التعايش داخله”. ويُعَدّ وليد الهودلي أحد أبرز الأصوات في أدب السجون الفلسطيني. ينحدر الهودلي من مخيم الجلزون شمال رام الله، واعتُقِل عام 1990 على خلفية مشاركته في الانتفاضة الأولى، وأُفرِج عنه بعد 12 عامًا. في عام 2000 نشر رواية “ستائر العتمة”، التي وصف فيها تجربة التحقيق في مراكز الاعتقال الإسرائيلية. ومن خلال شخصية عامر يجسّد معاناة الأسرى تحت التحقيقات الطويلة، والضغوط النفسية، وأساليب الاستخبارات التي تتوغّل في النفس — غالبًا من دون تعذيب جسدي مباشر، بل عبر وسائل نفسية تُضعف الإحساس بالهوية والصمود. اعتُقِل الهودلي مجددًا في الأعوام 2008 و2010 و2017 في اعتقالات إدارية، ومع مرور السنوات صار أحد الوجوه المعبّرة عن التجربة الفلسطينية في مواجهة القمع والسجن.

מדור אזור הדמדומים
فريدة، والدة الأسير وليد دقّة، تقف إلى جانب صورته عام 2017. أصدر لاحقًا كتابًا للأطفال بعنوان “حكاية سرّ الزيت ” 

مثال آخر هو وليد دقّة، الذي كان متورط في اختطاف وقتل الجندي موشيه تمام ، توفّي دقة جرّاء مرض عضال عام 2024. في عام 2018 أصدر كتاب الأطفال حكاية”سر زيت”، الذي يروي رحلة الطفل جود الساعي إلى زيارة والده الأسير. كتبت الروائية ليلى البطران في مقدّمة الكتاب أنّ دقّة يقدّم “نموذجًا لأدب يمزج بين الفانتازيا، حيث يعيش البطل تحت الاحتلال، وظروف الواقع تفرض نوعًا من السريّة — من دون أن يغادر عالم الخيال والطفولة”. وقد نال الكتاب، الذي يسبح بين الواقع والأسطورة، جائزة “اتصالات” لكتاب الطفل لعام 2018 لفئة اليافعين، وذلك في المعرض الدولي للكتاب في الشارقة، والتي تعتبر واحدة من أهم الجوائز المتعلقة بأدب الأطفال واليافعين في العالم العربي.

كما حظيت رواية الأسير ناصر أبو سرور، “حكاية جدار”، الصادرة عام 2023 والمترجمة إلى الإنجليزية في 2024، بإشادات واسعة. حُكِم عليه بالسجن المؤبّد بتهمة قتل محقّق الشاباك حاييم نحماني عام 1993، وأُفرِج عنه في الصفقة الأخيرة بين إسرائيل وحماس. في روايته يصف تجربة حياته بين جدران السجن وتأثيرها في تصوّره لذاته. وفي مراجعة كتبتها الصحافية سامية عيسى في صحيفة “العربي الجديد”، أشارت إلى أنّ أبو سرور “لا يتردّد في انتقاد النخب الفلسطينية”، وأنه ابتكر شخصية أسير غير محصّنة، بل هشّة وسهلة الانكسار. وبحسبها، فهو “يفكّك الإطار المألوف لتجارب الأسرى ويطرح أسئلة جريئة حول المعنى الوجودي للسجن الطويل وحول العلاقة المعقّدة بين الأسير وجدران زنزانته”.

على خلفية هذا التقليد، يسعى خندقجي إلى إعادة تموضعه في العالم خارج الأسوار. فهو يواصل الكتابة من موضع الجرح النازف، لكنّه يفعل ذلك في واقع جديد، وفي ساحة أدبية أوسع. وبهذا ينضمّ إلى جيل من الكتّاب الفلسطينيين الناشطين خارج الضفة والقطاع، والذين يكتبون من شعور بالانكسار، لكن أيضًا من رغبة في إيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم العربي.

في مقابلة مع صحيفة “العربي الجديد” قال: “لديّ عدة مشاريع — أهمّها إنهاء الدكتوراه وكتابة الرواية التي عملت عليها خلال الأشهر الستة التي سبقت خروجي من السجن. ما زالت حاضرة في ذهني، فقد صادروا الأقلام والدفاتر. إنّها رواية عن وليد دقّة، صديقي ورفيقي”. وأضاف أنّه “يعمل على تعاون مع مجموعة من المثقفين الفلسطينيين والعرب والدوليين، بهدف كشف الوجه الحقيقي للأدب الصهيوني، وفضح جوانب العنصرية الكامنة في كلّ الخطاب الصهيوني”.

Share This Article