جدار الفصل العنصري يعمّق العزل ويفصل القدس عن بيت لحم

المسار ( عن القدس العربي): في مدينةٍ تتقاطع فيها القداسة مع السياسة، تتحوّل القدس اليوم إلى مسرحٍ مفتوح لصراعٍ يتجاوز حدود «الانتهاكات الفردية»، ليكشف عن سياسة احتلال شاملة تستهدف الإنسان الفلسطيني ووجوده وهويته. ما يجري في المدينة ليس أحداثًا عابرة، بل منظومة متكاملة من القوانين والممارسات التي تعيد تشكيل المكان وسكّانه بالقوة، وتفرض واقعاً إقصائياً يقوم على التمييز والفصل.

تحت غطاء «الأمن» و»حرية العبادة»، تُقيَّد الحريات، ويُعزل الفلسطيني عن مدينته، ويُحوَّل الحق الإنساني إلى امتياز مشروط بتصريح عسكري.

في القدس، لا يُستهدف المسلم أو المسيحي بصفته الدينية فحسب، بل الفلسطيني بوصفه صاحب حق أصيل في المدينة.

هذا الواقع بالذات هو الذي يجثم على كاهل الفلسطينيين في بيت لحم، مهد السيّد المسيح، حيث تَحُولُ إجراءات الاحتلال دون تنقُّل المؤمنين منها إلى القدس بحُرّية.

والمدينتان لديهما قدسية مشتركة، وارتباط ديني، وثقافي، وديني.

وبيت لحم، تحتفل هذا العام بالميلاد للمرة الأولى منذ سنتين، بعدما كانت الاحتفالات خلال حرب الإبادة على غزة معلّقة.

ولكن هذه الاحتفالات اقتصرت على الصلوات والشعائر الدينية التي وُجّهت بشكل خاص إلى أبناء الشعب الفلسطيني في غزة.

ومع ذلك، تبقى الاحتفالات منقوصة.

القس منذر إسحق : الاحتلال يستهدف الفلسطينيين جميعًا من دون تمييز

ففي أعياد الميلاد خلال السنوات التي سبقت حرب الإبادة، كانت مراسم الميلاد تحصل بتوجُّهِ قافلة الميلاد التي تضم الحجيج والمؤمنين ورجال الدين من القدس، وتنطلق باتجاه بيت لحم حيث تقام لها استقبالات ومراسم.

وكانت تحصل اتصالات مع سلطات الاحتلال لفتح بوابة في جدار الفصل العنصري، بغية عبور هذه القوافل التي تضم سيارات كبيرة يصعب مرورها بشكل سَلس عبر الحواجز الإسرائيلية.

وحاول الجانب الفلسطيني هذا العام الضغط باتجاه الحصول على موافقة لفتح البوابة، لكن حتى وقت كتابة هذا التقرير لم يكن الاحتلال قد أعطى موافقته بعد.

وفي مقابلة مع «القدس العربي»، يقول الأب إبراهيم فلتس نائب حارس الأراضي المقدسة إن مدينتي القدس وبيت لحم كانتا عبر التاريخ مدينة واحدة، ولم يكن هناك أي فصل بينهما. «غير أن الجدار فصل بين المدينتين، وعند إقامته أصرّت الكنيسة على ألا يؤدي ذلك إلى تغيير الواقع القائم أو المساس بوحدة المدينتين».

وأضاف أنه «من هنا جاءت فكرة إنشاء البوابات التي سيمُرُّ منها البطريرك، وقد ناضلت الكنيسة من أجل ذلك حتى تبقى القدس وبيت لحم مدينة واحدة، وألا يُفرض مسار جديد يكرّس الفصل بينهما».

وقال: «نحن لا نريد جدرانًا؛ بيت لحم بحاجة إلى جسور محبة لا إلى جدران. ما حدث هو أن هذا الجدار فَصَل مدينة بيت لحم عن القدس، وتحولت حياة الفلسطينيين في بيت لحم، خلال نحو عامين، إلى ما يشبه السجن الكبير. فقد أُغلقت المدينة مرات كثيرة، ومُنع الناس من الخروج منها، ما جعل بيت لحم سجنًا واسعًا، وهو أمر مرفوض وغير مقبول. ولا يمكن القبول بأن يعيش نحو 170 ألف إنسان داخل جدار مغلق في ما يشبه السجن الكبير. لقد أصبحت بيت لحم، مع هذا الجدار، سجنًا فعليًا».

وتابع: «نعم، إن مدينة بيت لحم معروفة عبر السنين بوصفها مدينة السلام، ومن مهد السيد المسيح، ونحن اليوم على أعتاب الأعياد المجيدة، فما هي رسالتنا إلى العالم في هذه الأوقات؟ بطبيعة الحال، الشعب الفلسطيني شعب صامد، وقد جاءت هذه الأعياد لتؤكد للعالم كله أن شعب فلسطين محب للحياة».

وأوضح أن رسالة الكنيسة إلى العالم، وخصوصًا إلى المجتمع الدولي وقادة العالم، «هي الانتباه إلى أن بيت لحم في خطر، وأن الوجود المسيحي في خطر، سواء في بيت لحم أو في القدس. وقال: «لقد أصبحنا أقل من واحد في المئة، وهذا أمر بالغ الخطورة. لذلك نطالب العالم بأن يبذل كل ما في وسعه من أجل تحقيق السلام في هذه الأرض المقدسة، والحفاظ على الوجود المسيحي، كما يؤكد دائمًا الرئيس محمود عباس».

وأشار إلى أن أكثر ما يقلق الرئيس عباس هو تلاشي الوجود المسيحي، متسألا: «من يستطيع أن يتخيل بيت لحم، التي وُلد فيها السيد المسيح، أمير السلام، من دون مسيحيين محليين؟ أو القدس، التي انطلقت منها المسيحية، من دون مسيحيين محليين؟ هذه كارثة حقيقية، وهي مسألة تثير قلق الكنيسة والبابا، وتقلق كل إنسان مسيحي في أنحاء العالم».

استهداف من دون تمييز

بدوره قال القس منذر إسحق، راعي كنيسة الميلاد الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم، لـ»القدس العربي»، إن الاحتلال يستهدف الفلسطينيين جميعًا من دون تمييز، مؤكدًا أن الأيديولوجية الصهيونية هي أيديولوجية إقصائية وعنصرية. وأضاف أن ما يجري في القدس هو مخطط واضح لتهويدها على حساب تنوع هويتها، وتطبيق مباشر للمخطط الصهيوني، مشددًا على أن ما يحدث ليس انتهاكات متفرقة، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت هناك محاسبة من قبل السلطات الإسرائيلية».

وأوضح أن «المتطرفين في القدس، كما في الضفة الغربية، يعملون تحت غطاء مؤسسات الدولة (الإسرائيلية)، وأن المشكلة ليست في أفراد، بل في النظام بأكمله».

وتساءل إسحق: «هل يمكن أن نتخيّل أنه ولأول مرة في تاريخ البشرية يتم عزل القدس عن بيت لحم؟ هذه ليست قضية ثانوية، وليست قضية فلسطينية فحسب، بل قضية إنسانية تخص العالم كله، وخصوصًا العالم المسيحي». وأكد أن هذا يشكل انتهاكًا واضحًا لحريات الأديان، و»هو ما عبّر عنه البطريرك الأرثوذكسي ثيوفيلوس في خطابه الأخير أمام الملك الأردني».

وأضاف أن الصلاة في القدس «حق لكل إنسان مؤمن بالله، لكن الواقع اليوم يُجبر الفلسطيني على الحصول على تصريح من سلطات عسكرية للوصول إلى المدينة، ما يؤكد حقيقة الاحتلال».

وقال: «نحن، كرجال دين مسيحيين، أوصالنا مقطوعة عن رئاستنا الروحية في القدس بسبب الحواجز ونظام التصاريح الجائر. من المهم أن نتذكر أن المسيحيين الفلسطينيين عاشوا في هذه الأرض منذ بداية الكنيسة وحافظوا على التقاليد المسيحية والأماكن المقدسة، بينما نحن اليوم محرومون من الوصول إلى القدس».

حالة ترهيب

وأشار إلى وجود حالة من الترهيب في القدس، «حيث يهاجم الاحتلال حتى التجمعات الثقافية، كما حدث مؤخرًا في مسرح الحكواتي، خوفًا من الهوية الفلسطينية للمدينة، وهو السبب ذاته وراء استهداف المناسبات الدينية المسيحية مثل سبت النور».

وأضاف أن «السياسة الصهيونية واضحة، وتقوم على تحويل القدس إلى مدينة يهودية مع أقليات مُسلمة ومسيحية، ويفضِّل الاحتلال أن تكون التجمعات المسيحية من الأجانب غير الفلسطينيين».

وفي ما يتعلق بموقف رجل الدين من فكرة «الحياد»، قال إسحق إن «الحياد أمام الظلم هو قبول به وتواطؤ معه». وأكد أن «الكتاب المقدس يحث على الدفاع عن المظلومين، مشيرًا إلى أن العائلات الفلسطينية في القدس مشتتة بفعل نظام لمّ الشمل الجائر القائم على العنصرية. وأضاف: «لا يمكن لنا، كمؤمنين بالله وقيادات دينية، أن نصمت أمام استبداد كهذا، لأن الصمت خيانة لمعاناة الناس».

وأوضح أن «حديث رجال الدين ضد سياسات الاحتلال ونظام الفصل العنصري لا ينطلق من الانتماء الوطني فقط، بل من القناعات الدينية والأخلاقية، والإيمان بإله العدل والحق الذي يدعو إلى السعي للسلام والعدل».

وختم بالقول إن «إسرائيل دولة فصل عنصري (أبارتهايد) بامتياز، وهذا ليس رأيًا فلسطينيًا، بل حقيقة موثقة في تقارير ودراسات منظمات حقوق الإنسان، بما فيها منظمات إسرائيلية. وتساءل: «كيف يمكن لدولة فصل عنصري أن تكون حامية للتعددية وحرية الأديان؟». وأكد أن إسرائيل تُسيّس الدين وتستخدمه لخدمة مشروعها الصهيوني، فيما تُروِّج صورة الصراع على أنه ديني، بينما الواقع عكس ذلك.

وأشار إسحق إلى أن رسالة الكنيسة بشأن القدس لم تتغير، وتقوم على ضرورة أن تبقى مدينة مفتوحة للجميع، يهودًا ومسيحيين ومسلمين، وللشعبين، من دون تمييز في الحقوق أو قوانين عنصرية. وأضاف أن تحقيق ذلك يتطلب ضغطًا حقيقيًا على إسرائيل لإنهاء نظام الفصل العنصري، وفتح المجال للعيش المشترك على قاعدة المساواة، بوصف الجميع أبناء الله في الخليقة.

Share This Article