وصف إسرائيليون يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر بأنه: “يوم أسود على إسرائيل”، نعم أسود، وسيسجله التاريخ بكامل سواده، ليس فقط فيما جرى للجيش الاسرائيلي في هذا اليوم من وجهة النظر الصهيونية، بل في إنسانية الغرب الاستعماري التي ترى بعين عوراء ما أصاب الإسرائيليين من آلام ومصائب، ولا ترى ما جرى ويجري لشعب فلسطين، ليس في يوم واحد فقط بل عبر 75 عاماً من سواد النكبة، ولم ينته سواد الكارثة التي عشناها، وتسببت بها بريطانيا لجيل النكبة بإنشاء هذا الكيان الذي جر الويلات لكل شعوب المنطقة، وأكملت الولايات المتحدة هذه النكبة بتمكين الاحتلال الإسرائيلي وتسليحه وضمان حفظ أمنه، وساهمت أن يكون كياناً قمعياً دموياً يستبيح الدم الفلسطيني بمجازر لا تعد ولا تحصى، لقد طالت آثار النكبة السوداء الأجيال الفلسطينية التي ولدت بعد النكبة بسنوات وبعشرات السنوات، وما زالت النكبة الكبرى تجر وراءها نكبات، وقد تورث آلام النكبة عنوة للأجيال القادمة بمزيد من السواد، الذي تبشر به إسرائيل بمطامحها العدوانية الاستيطانية القائمة على إلغاء وجود الشعب الفلسطيني، ولأجل هذا كله سيبقى نضالنا الوطني ضد الاحتلال مشروعاً حتى نيل حقوقنا الوطنية كاملة.
تشكل معركة طوفان الأقصى محطة نضالية هامة في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، نحو الاستقلال والعودة، بكل ما تحمله بطولاتها ومآثرها من معان ودروس، من المبكر الآن الحديث عنها أو استخلاصها، لكن يمكن قراءتها من خلال أهدافها المعلنة: من ناحية أهدافها الفلسطينية التي تتمثل في: الرد على جرائم الاحتلال الإسرائيلي المستمرة، أسر جنود لتحرير أسرى فلسطين من سجون الاحتلال، فرض معادلة ردع جديدة لصالح نضال الفلسطينيين، التوقف عن انتهاكات المستوطنين للمسجد الأقصى، وقف اقتحامات المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، والامتناع عن أعمال القتل بحق الشبان الفلسطينيين.
أما أهدافها الإسرائيلية والتي جاءت على لسان قادة إسرائيليين عسكريين أو سياسيين، أهداف انتقامية تبدو أنها عبارة عن بحث عن انتصار زائف: رد عنيف غاشم على طوفان الأقصى لمنع جني مكاسب سياسية جراء تحقيق المقاومة لهذا النصر المذهل، تكبيد الفلسطينيين ثمناً باهظاً يمكّن رئيس الوزراء نتنياهو من تقديمه لجمهور الناخبين الاسرائيليين، اغتيال قادة حماس وتدمير قواعدهم وبنيتهم التحتية.
تبدو هذه الأهداف ذات طابع انتقامي للكرامة المهدورة التي لن تستطيع اسرائيل بسهولة استعادة مقولة «الردع» أو الجيش الذي لا يقهر، بعد سقوط كل المقولات المهترئة من هذا النوع التي يتباها الجيش وأجهزة الأمن بها، والتي زالت كفقاعة صابون في الساعات الأولى لصباح السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر
تدرك إسرائيل أن لا واحد من هذه الأهداف يمكن أن تحققه ولو استخدمت القوة المفرطة، لذا قال نتنياهو: كل هذا ما هو إلا البداية، إذاً ما هي النهاية؟. الجميع يتساءل عن المآل الذي ستنتهي إليه هذه المعركة التي ألح نتنياهو أن يعلنها حرباً، وليست موقعة كسابقاتها في المواجهات مع الفصائل الفلسطينية في غزة، وأن الجيش الإسرائيلي سيلاحق حماس في كل مكان تتواجد وتعمل فيه عناصره، حرباً سيتكلم عنها التاريخ لعقود، حتى الآن هي« حرب منازل وأبراج».
يجربون المجرب وعقلهم الصهيوني النازي العنصري مخرب، يكررون ما حدث في الحرب الأولى 2008-2009 عندما استهدفت المناطق المدنية والسكنية بقنابل الفوسفور الأبيض المحرم دولياً، وفي حرب 2012 بدأتها باغتيالات وتصفيات جسدية، وفي حرب العام 2014 جربوا «حرب الأبراج» وإيقاع حصيلة كبيرة من الضحايا المدنيين تجاوزت ألف شهيد ، والآن حرب إسرائيل الانتقامية حرب «منازل وأبراج» وقتل المدنيين الأبرياء في منازلهم ودفنهم تحت أنقاضها، وجلهم من الأطفال والنساء.
تبدأ إسرائيل حربها الحالية على غزة بقصف أبراج متعددة الطبقات ومنازل، تماماً كما فعلت في حرب 2014، التي استمرت 51 يوماً ووصفت بـ «حرب الأبراج»، وكانت في وقتها سابقة استخدمت مقاتلات حربية وصواريخ متطورة في قصف المباني السكنية وتحويلها إلى أكوام من الركام.
إن ما يميز غزة هو الصمود الشعبي الحاضن لأداء عسكري متقدم عززته وحدة القوى في الميدان، جعلت من المواجهات العديدة للاعتداءات الإسرائيلية على غزة، مآثر كفاح وبطولة في المسيرة الممتدة لشعب فلسطين من أجل الاستقلال والعودة، إن إسرائيل تسعى عبر «حرب الأبراج والمنازل» إلى منع الفصائل الفلسطينية من تحقيق مكاسب سياسية من هذه الجولة، من القتال والتي سعى نتنياهو أن يصعدها إلى مستوى الحرب، وهو يعلم أن المقاومة مستعدة لأي تصعيد.
خوّل المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت)، رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، يوآف غلانت، باتخاذ خطوات لاستعادة كرامة جيشهم المهدورة، ويرى مراقبون أن شن الجيش الإسرائيلي عملية برية في غزة، أمر محتمل جداً، لأن هدف نتنياهو المعلن بتدمير حماس غير ممكن دون القيام بعملية برية، والانتصار على المقاومة الفلسطينية يتم على الأرض، ولا تحققه الطائرات في الجو، عندها على إسرائيل أن تدفع كلفتها العالية من جنودها الذين سيسقطون قتلى أو يقعون في الأسر.
لكن يبدو هدف إسرائيل الأسهل هو رفع «فاتورة التكلفة على الحاضنة الشعبية»، باعتبارها الحلقة الموجعة على قلب كل إنسان أن يرى القتل المستمر في الأطفال والنساء، ودفع المقاومة إلى التراجع والقبول بـ «تهدئة بلا ثمن»، ويتكرر في كل جولة قتال، إدخال الأطفال والأبرياء في معادلة الردع، هذا الأسلوب الذي تتفرد فيه الحركة الصهيونية وقياداتها منذ النكبة وقد جنت ثماره في أكثر من موقعة، ومنها الانسحاب من بيروت عام 1982 بعد قصف وحشي لم تشهده أي عاصمة في العالم من قبل، وسقط نتيجته الكثير من المدنيين العزل الذين تحملوا إلى أبعد الحدود تضحيات وخسائر جسيمة، إنها فعلاً مشكلة إنسانية كبيرة، تصنعها إسرائيل بالقتل والحصار وحظر الكثير من المواد الضرورية الأساسية من الدخول والوصول إلى محتاجيها، كقطع الكهرباء والماء والغذاء عن قطاع غزة، ويتحدثون عن الأسرى في قبضة المقاومة بأنهم رهائن وينسون أن إسرائيل أبقت نحو مليوني فلسطيني في قطاع غزة رهائن محاصرين في أكبر سجن في التاريخ.
شكلت هذه السياسة النازية الإسرائيلية عامل ضغط على قيادة وفصائل فلسطينية، في بيروت تحملت المقاومة أقسى التضحيات كي لا يكون خروجها من بيروت نجاحاً للهجمة الإسرائيلية في فرض وقائع جديدة على الأرض، تكرر إسرائيل تجارب الحروب الماضية باستهداف المدنيين، بما يشكل ضغطاً على الفصائل الفلسطينية، ومما يمكّن جرائم الحرب هذه -وفق قواعد القانون الدولي الإنساني باستهداف «المنازل والأبراج» وقتل سكانها أو تشريدهم- من تحقق مأربها، يضاف له عامل آخر هو تشجيع الولايات المتحدة لإسرائيل بأن ما تقوم به هو دفاع عن النفس، وتتعامى ومعها الكثير من دول العالم عن المشاهد المروعة لجرائم ارتكبتها قوات الاحتلال ليس في هذه الحرب فقط بل في كل عدوان قامت به على غزة وعلى مناطق سكنية فلسطينية أخرى.
لم ولن يغيب عن بال شعبنا أن طائرات f16 التي تقصف وتدمر وتقتل الأطفال والنساء هي طائرات أمريكية الصنع، وبالتالي تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية عن استباحة الدم الفلسطيني، ولا تكتف بما قدمته، بل يعلن رئيسها بايدن استعداد دولته لتقديم السلاح لإسرائيل للدفاع عن نفسها، ويتغافل كما تغافل وتعامى سابقوه من الرؤساء، أن هذه الآلات الأمريكية المتطورة هي آلات لقتل المدنيين الأبرياء.
قصف دون تحذير، وحتى لو جرى تحذير يسبق القصف العاجل، لا يمكّن السكان من الخروج بسرعة في وقت قصير جداً، المستهدفون وجيرانهم حتى لو أعطوا فرصة دقائق، إلى أين يخرجون؟. ليس في غزة من ملاجئ يحتمي فيها النساء والأطفال والمدنيون، يعرض المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي على السكان الفلسطينيين في قطاع غزة الفارين من الغارات الجوية للجيش، الهروب إلى مصر، لعله الحلم الاسرائيلي أن ينجحوا في إضافة نكبة جديدة، إلى مسلسل النكبات التي أنجزوها بالمجازر والتطهير العرقي والتمني أن تغرق غزة في البحر.