مقالات

بقلم “سميح محسن” عن اليوم التالي لوقف العدوان

كأننا، نحن الفلسطينيين، شعبٌ فائضٌ عن الحاجة من وجهة نظر العالم الغربي الذي لم يغادر عقليته الاستعمارية المتوحشة، وفي أحسن الأحوال يتعامل معنا هذا العالم كأننا شعب لم يبلغ سنّ الرشد بعد. إنّ تلك العقلية التي لم تحرّك ضمائرَها حربُ الإبادة التي يتعرّض لها شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، على مرأى ومسمع العالم، وبمشاركة صريحة من أعتى قوة إمبريالية في العصر الحديث، انساقت وراء رغبات وأمنيات ومخططات حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي شرعت بالحديث عن اليوم التالي لوقف هذه المجزرة في حُكمِ قطاع غزّة منذ بداية عدوانها الوحشي على قطاع غزة.

وإن كنت سأتناول في هذه المقالة اليوم التالي من وجهة نظر غير سياسية، إلا أنّ العديد من الأنظمة العربية الحاكمة تساوقت أيضاً مع تلك الطروحات بهذا الشكل أو ذاك بدل أن تكرّس مقدراتها لوقف هذه المقتلة. بل إنّ فعلها، والذي لم يترجم قولَها المعلن مما يحدث يثير الشكوك بأنّ رغباتها في التخلّص من حركات المقاومة في القطاع، وتصفية القضية الفلسطينية، يتساوق مع رغبات حكومة الاحتلال وداعميها.

لقد دخلت حرب الإبادة هذه شهرها الخامس دون أن تلوح بالأفق أيّ آمال حتى الآن بوقفها، أو حتّى التخفيف من حدّة إجرامها بحق أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة رغم قرار محكمة العدل الدولية القاضي بتحييد المدنيين وممتلكاتهم، وإغاثة أبناء شعبنا بأبسط مقومات الحياة من ماء وغذاء ودواء ومأوى في ظلّ ظروف جوية قاسية لم تمر على بلادنا منذ عقود، وكأنّ الطبيعة تشارك في حرب الإبادة هذه. في هذه المقالة سأحاول رسم مشهد اليوم التالي بعد وقف هذا العدوان الوحشي من جوانبه الإنسانية، وليس السياسية كما ذكرت في هذا التمهيد.

إن لم تمت من القصف، ستموت من الجوع

تلك الصرخة أطلقها الصحفي إسماعيل الغول من شمالِ قطاع غزة في اليوم الثالث والعشرين بعد المئة من بدءِ حرب الإبادة. بعد مرور ما يزيد عن أسبوعين على صدور قرار محكمة العدل الدولية، والقاضي باتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، إلا أنّ القيود التي تفرضها حكومة الاحتلال على دخول تلك المساعدات لم تتغيّر، بل إنّ هناك وزراء فيها يربطون دخول تلك المساعدات بإطلاق سراح أسراهم لدى حركات المقاومة الفلسطينية. وبمعنى آخر فإن القرار الذي اتخذه وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، في السابع من أكتوبر (تشرين أول) 2023 عندما صرّح بأنه “لا ماء، لا غذاء، لا وقود” سيدخل للقطاع هو المعمول به حتى يومنا هذا.

قديما قال الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه: “لو كان الفقر رجلا لقتلته”. ولكنّ ما يحدث في غزّة ليس فقراً وحسب، وإنّما جوع ومجاعة. في مراسلة على “الخاص” مع صديق من غزة، وهو أستاذ جامعي، كتب ما يلي: ” قابلت مجموعة كبيرة من أكاديمي الجامعات وتعرفت على ملامحهم بصعوبة، منهم من وصلت ملامحهم مثل أهل الكهف، أو ملامح لا يمكن وصفها”!! هل توجد صورة شعرية أدقُّ وصفًا من هذه الصورة؟!

في ظلّ هذا العدوان الوحشي توقّفت عجلة الاقتصاد في قطاع غزة، ومع استمرار الحصار الجائر عليه، وتقييد دخول المواد الإغاثية إليه، ظهرت صور المجاعة في أقسى تجلياتها، وشهدت أسعار ما يتوفر منها بالنزر اليسير أرقاما فلكية دون تدخّل من جهات إنفاذ القانون لكبح جماح تجّار الحروب لوقف هذه الظاهرة القاتلة. حتى نهاية الشهر الثالث من هذه الحرب الوحشية (على سبيل المثال لا الحصر) كانت بعض أنواع الخضار متوفرة في الأسواق، أما اليوم فأصبحت نادرة. ولو أخذنا القطاع الزراعي كمثال، فهل يمكن إصلاح الأضرار التي لحقت بالأراضي الزراعية ومصادر الريّ وغيرها من مكونات هذا القطاع وتحريك عجلته في اليوم التالي؟! وكم يحتاج هذا القطاع من وقت حتى يرفد الأسواق بالمنتج الزراعي؟! وحتّى لو عادت حركة التجارة إلى سابق عهدها، هل يملك النّاسُ المال لشراء احتياجاتهم الأساسية التي تحميهم من موت محدق بهم؟!

بيوت بلا أسقف وجدران

كأنّ الطبيعة تشارك في حرب الإبادة هذه، ولنا في المشاهد المؤلمة التي تصلنا من مدينة رفح أقسى وأوضح صورة على المعاناة التي يعيشها المهجّرون إلى جنوب القطاع. قُيّضَ لي أن أزور قطاع غزة مرتين، الأولى بعد العدوان الذي نفّذته قوات الاحتلال عام 2012، والثانية بعد عدوان 2014، وفي الزيارتين شاهدت الدمار الذي لحق بالبيوت، وبعد تلك السنوات لم تغب عن بالي صورة ذلك المواطن الذي كان يجلس تحت سقف بيته المهدّم في حيّ الشجاعية، ويسحب نفساً عميقا من دخان نرجيلته ويقول: “سأعيد البيت كما كان وأحلى”. كما لم تغب صورة تدفّق المياه داخل المأوي المؤقتة التي أقيمت آنذاك للمواطنين الذين دُمِّرَت بيوتهم، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم الدمار الذي لحق بالبيوت في تلك الحروب التي شُنَّت على القطاع وحرب الإبادة الجماعية التي تحدث اليوم.

يردّدُ الغزيّون والغزيّات الذين واللواتي دُمّرت بيوتهم/ن جملة كأنّها أصبحت “لازمة” في التراجيديا الغزيّة: “بيوتنا فداء المقاومة، والله يعوضنا”. المهجَّرون يحنّون بالعودة إلى بيوتهم التي كانت. البيتُ ليس “شقاء العمر” بالنسبة للفقراء، وليس مكونا من الحجارة والإسمنت فقط، إنّه تفاصيل الحياة بحلوها ومرّها، الذكريات الحميمة، الصور المعلقة على الجدران، ألعاب الأطفال وكتبهم وحقائبهم المدرسية، الدفء والأمان والأسرّة والأغطية، الكتب والمكتبات الخاصة، الشرفات التي كانت تتزيّن بالأزهار والورود، الجيران والحارات والشوارع ومحلات البقالة. إنّها الحياة التي كانت، وكيف لها أن تعود كما كانت؟!

مقاعد دراسية خاوية

مع دخول حرب الإبادة الجماعية شهرها الخامس كان أربعة آلاف وثمانمئة وواحد وخمسون طالباً وطالبة، ومائتان وتسعة وثلاثون معلِّما وإداريا قد أستشهدوا في قطاع غزة، فضلاً عن حرمان ستمئة وعشرين ألف طالب وطالبة من التعليم (حسب بيانات وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في رام الله).

في الحروب السابقة على قطاع غزّة كنّا نشاهد صورة طالب/ة موضوعة في مكان جلوسه على مقعده/ا الدراسيّ تعبيراً عن استشهاده، وغيابه الأبديّ، أمّا في أعقاب هذه المجزرة الوحشية المستمرة، وبعد أن تضع الحرب أوزارها، سيتفقّدُ الطلبة أقرانهم في الطابور الصباحي، ومعلميهم الذين غيّبتهم الحرب، وإذا أرادوا وضع صورهم على مقاعدهم، لن بجدوها لأنّ الطائرات التي مزّقت أجسادهم الطريّة، وحصدت أرواحهم الزكيّة، لم تُبقِ لنا ما نستدلُّ به عليهم، هذا إذا وجدوا المدارس التي وجدوا المدارس التي غادروها في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) في مكانها، أو على حالها.

مقابر دون شواهد

لقد رحلوا دون أن نودّعهم، أو حتى نستدّل على مقابرهم. لقد حرمنا “الأخيار”! ونحن “الأغيار” الذين لم تترك تعاليم “تلمودهم” مجالاً للاجتهاد في حدود البطش والقتل والتدمير والإفناء بحقنا. بتلك النصوص التي استدعاها رئيس حكومة الاحتلال من “التوراة” ذهب جنوده لإبادتنا. لقد استدعى بنيامين نتنياهو في أحد خطاباته نصًّا دينيًّا، قائلًا: “يجبُ أن تتذكّروا ما فعله عماليقُ بكم، كما يقول لنا كتابُنا المقدّس. ونحن نتذكّر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزّة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل. وأما النّص الذي استدعاه فيقول: “فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا”.

أليست هذه دعوة صريحة لتنفيذ حرب إبادة جماعية تحاول حكومة الاحتلال التنصّل منها رغم مشاهدة العالم لأدق تفاصيل تفاصيلها. لقد شاهد العالم صور المقابر الجماعية في حدائق المستشفيات التي لم تسلم من التدمير، وعلى أرصفة الشوارع، وصور الجثث التي كانت الكلاب تنهش لحمها، بل وهناك الآلاف من الشهداء الذين دُفِنوا تحت الركام، ولم يستدل أحد عليهم.

في اليوم التالي، عندما نفيق من الصدمة، ومن هول ما جرى، لا بدّ وأن نتفقّد أجسادنا إن كانت أعضاؤها قد نجت من هذه المحرقة، ونتفقّد أرواحنا إن كانت لم تفارق أجسادنا بعد، ونتفقّدُ أحبّتنا إن كانوا نجوا من هذا الموت المحقّق، ثم علينا أن نتفقّد آباءنا وأمهاتنا وأشقاءنا وشقيقاتنا، وأطفالنا، وأعمامنا وعمّاتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأصدقاءنا وصديقاتنا، وجيراننا وجاراتنا. وفي حال أن نتيّقن بأنهم رحلوا، هل بمقدورنا أن ننبش المقابر الجماعية، ونتعرّف عليهم مما تبقّى من ملامحهم، وندفنهم كما يليق بالأموات من كرامة، ونضع الشواهد على قبورهم؟!

لنا همّنا ولهم همّهم

في اليوم التالي لوقف هذه المجزرة سوف ينشغل القادة والسياسيون في حصاد مكاسبهم، كما سينشغل تجّار الحروب بإحصاء ما جنوا من أرباح مصّوها من دماء فقرائنا. وسينشغل أصحاب شركات المقاولات في فتح خزائنهم، ليس للإنفاق على المكلومين وجبر خواطرهم ومساعدتهم على إعمار البيوت التي أمست بلا سقوف وجدران، وإنما لحشو بطون تلك الخزائن التي لا تصاب بالتخمة.

وأمّا الضحايا الحقيقيون فلهم هموهم التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.

* شاعر وكاتب فلسطيني.