المقاومة في غزة تقرأ كل تفصيل في كل خبر وتقرأ ما وراء الخبر. وقد فتح اعتمادُ إرسال المساعدات الهزيلة والضحلة عبر الإنزال الجويّ رغم ظهور لا جدواه وحجم أذاه ومحدوديّة ما يقدّم بالقياس للحاجات، أن هناك وظيفة أخرى، سرعان ما ظهرت مع الإعلان عن الرصيف البحريّ المزمع إنشاؤه على شاطئ غزة، ومسارعة قبرص والاتحاد الأوروبيّ إلى الإعلان عن اعتماد هذا الرصيف سبيلاً لإدخال المساعدات إلى غزة، فما هي حكاية الرصيف البحري في غزة؟
أولى الرسائل الواضحة التي يقولها هذا الرصيف هي أن الغرب كله، الأميركي والأوروبي، رغم تباينات في المواقف تجاه مسار الحرب، على موقف موحّد بالتسليم بأن اعتماد معبر رفح طريقاً للمساعدات فوق طاقتهم، طالما أن حكومة الاحتلال لا تريد فتح المعبر. وهذا الغرب يقول عملياً لكل عاقل بين الفلسطينيين والعرب، أنه وهو يدعوهم للثقة بأنه مستعدّ وقادر على الضغط على كيان الاحتلال لقبول قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية خالية من المستوطنات، عاجز عن الضغط على حكومة الكيان لفتح معبر رفح. فليصدق الأغبياء والحمقى ويلحق بهم التافهون.
الرصيف البحريّ رُسمت له خرائط. وهذا يقول إن الاستثمار في إنشاء منشأة بحجم رصيف بحريّ ليس مؤقتاً أو ظرفياً أو قابلاً للإزالة، أي أن لا نية للانسحاب من غزة. وهذا يعني أن وراء إقفال معبر رفح والتشدد تجاه كل دعوة لفتحه بصورة طبيعية وظيفة، هي تبرير إنشاء هذا الرصيف البحري بذريعة المساعدات، ليكون شكل الاحتلال الأميركي الذي يواكب الاحتلال الإسرائيلي كما هي الحال دائماً. ففي عام 1982 عندما اجتاح جيش الاحتلال لبنان ووصل بيروت، كانت جرائم الاحتلال ذريعة تحت عنوان حماية المدنيين المبرر لنشر قوات متعددة الجنسيات بقيادة أميركية ضمّت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، لكنها جاءت لإكمال مهمة الاحتلال، وبقيت عندما عجز الاحتلال عن البقاء بفعل عمليات المقاومة، حتى إزاحتها عبر عمليات نوعية للمقاومة أجبرتها على الرحيل.
الرصيف البحري حُدّدت جغرافيته. وهي بالمناسبة وبمحض الصدفة جغرافية حقول الغاز ذاتها المتوقعة في ساحل غزة المسماة بمشروع غزة مارين، والتي تسابق قادة الكيان في الحديث عن تطلعهم لوضع اليد عليها. والغاز والنفط كلمة السر الأميركية في المنطقة، حيث مشاريع طويلة الأمد. هكذا كان الحال مع احتلال العراق، حتى عندما انسحب الأميركيون عسكرياً عام 2011 بقي احتلالهم النفطيّ للعراق عبر الإجراءات المصرفية. وهكذا في ليبيا حيث يمنع الحل السياسي وتُغذّى الحرب الأهلية من محورين إقليميين تحت راية واشنطن يموّل كل منهما فريقاً ليبياً ويشجعه. وأميركا تدير النفط الليبي. وهكذا في اليمن وفي خلفية أسباب الحرب عليه والفيتو على الحل السياسي فيه. وفي سورية مثال لا يقبل التأويل والنقاش، حيث الاحتلال الأميركي باقٍ للسيطرة على النفط، كما اعترف ذات يوم الرئيس دونالد ترامب. وهي تسرق النفط وتبيعه وتُحرم الشعب السوري من حقه بثرواته ومن خلال سرقة النفط تمنع عن السوريين كهرباء منتظمة كانوا يتمتعون بها وليرة مستقرة كانت تحميها استقلالية سورية في النفط والغذاء واكتفائها الذاتي. وها هو ملف النفط والغاز يُطلّ برأسه في غزة من بوابة الرصيف البحريّ.
عندما تقرأ المقاومة كل هذا لا تحتاج إلى دليل لتعرف أن ما يُعرَض عليها عبر التفاوض ليس سعياً لحل سياسي للحرب، بل عرض استسلام يمكن للحرب أن تستمرّ معه بأشكال أخرى تحقق أهدافها ذاتها، أو مجرد شراء للوقت حتى تكتمل عدة السيطرة على النفط والغاز؛ لهذا يجب وضع كلام أبو عبيدة، الناطق بلسان قوات القسام، في إطار اليقين بأن الحرب مستمرّة وكل طرف يخوضها لصالح أهدافه وباستخدام أدواته. والمقاومة معنية بمواصلة خوضها لتحقيق أهدافها بواسطة أدواتها.
2 دقائق