المقاومة الفلسطينية تنتصر

تسعة أشهر من العمليات القتالية الجوية والبرية الإسرائيلية في قطاع غزّة لم تهزم حماس، وإسرائيل لا تقترب حتّى من هزيمتها، بل إنها، ومن النواحي الأساسية، صارت أقوى مما كنت عليه في السَّابع من أكتوبر/تشرين الأول.

غزت إسرائيل، منذ هجوم حماس المروع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شمال وجنوب قطاع غزّة بحوالي 40 ألف جندي مقاتل، وهجَّرت 80% من سكان القطاع قسرًا، وقتلت أكثر من 37 ألف شخص، وأسقطت ما لا يقل عن 70 ألف طن من القنابل على القطاع (وهو ما يتجاوز الوزن الإجمالي للقنابل التي سقطت على لندن ودرسدن وهامبورغ طوال الحرب العالمية الثانية)، ودمرت أو ألحقت أضرارًا بأكثر من نصف المباني في قطاع غزّة، وقيدت وصول القطاعِ إلى المياه والغذاء والكهرباء، مما جعل سكانه كافة على حافة المجاعة.

وعلى الرغم من تسليطِ العديد من المراقبين الضوء على لاأخلاقية سلوك إسرائيل، فإن زعماء إسرائيل ظلوا يزعمون على الدوام أن هدف هزيمة حماس وإضعاف قدرتها على شن هجمات جديدة ضد المدنيين الإسرائيليين لا بدَّ أن يكون له الأسبقية على أية مخاوف بشأن حياة الفلسطينيين. ويجب قبول معاقبة سكان قطاع غزّة باعتبارها ضرورية لتدمير قوة حماس.

في الواقع، قوة حماس آخذة في النمو بسبب الهجوم الإسرائيلي. وكما ازدادت قوة الفيتكونغ (Viet Cong) خلال عمليات «البحث والتدمير» الضخمة التي اجتاحت معظم أنحاء فيتنام الجنوبية في عامي 1966 و1967 عندما أرسلت الولايات المتحدة قواتها إلى البلاد في محاولة غير مجدية في نهاية المطاف لتحويل مسار الحرب لصالحها، فإن حماس ما تزال موجودة. لقد تطورت هذه الحركة إلى قوة عصابات عنيدة وقاتلة في قطاع غزّة، ويأتي هذا بالتزامن مع استئناف العمليات القاتلة في المناطق الشمالية التي كان من المفترض أن تكون إسرائيل قد طهرتها قبل بضعة أشهر فقط.

إن الخلل الرئيسي في إستراتيجية إسرائيل ليس فشل التكتيكات أو فرض قيود على القوة العسكرية، تمامًا كما لم يكن لفشل الإستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في فيتنام علاقة تذكر بالكفاءة الفنية لقواتها أو القيود السياسية والأخلاقية لاستخدام القوة العسكرية. بل إن الفشل الذريع يتمثّل في سوء الفهم الفادح لمصادر قوة حماس. وما ألحق ضررًا كبيرًا بإسرائيل أنها فشلت في إدراك أن المذبحة والدمار اللذين ألحقتهما بقطاع غزّة لم يؤدّيا إلا إلى زيادة قوة عدوها.

مغالطة عدد القتلى

ركزت الحكومات والمحللون، لعدة أشهر، اهتمامهم على عدد مقاتلي حماس الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي، كما لو أن هذه الإحصائية هي المقياس الأكثر أهمية لنجاح الحملة الإسرائيلية ضد الحركة. ومن المؤكد أن العديد من مقاتلي حماس قد قُتلوا. وتقول إسرائيل إن 14 ألفًا من مقاتلي حماس الذين يقدر عددهم بنحو 30 ألفًا إلى 40 ألفًا قبل الحرب قد لاقوا حتفهم الآن، بينما تصر حماس على أنها فقدت فقط ما بين 6000 إلى 8000 مقاتل. وتشير مصادر استخباراتية أميركية إلى أن العدد الحقيقي لقتلى حماس يبلغ نحو 10 آلاف.

ومع ذلك، فإن التركيز على هذه الأرقام يجعل من الصعب إجراء تقييم حقيقي لقوة حماس. وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدتها الحركة، فإنها ما زالت تسيطر فعليًا على مساحات واسعة من قطاع غزّة، بما في ذلك المناطق التي يتركز فيها المدنيون في القطاع الآن. ولا تزال المجموعة تتمتع بدعم هائل من سكان القطاع، مما يسمح للمسلحين بالاستيلاء على الإمدادات الإنسانية حسب الرغبة تقريبًا والعودة بسهولة إلى المناطق التي «طهرتها» القوات الإسرائيلية سابقًا. ووفقًا لتقييم إسرائيلي حديث، أصبح لدى حماس الآن عدد أكبر من المقاتلين في المناطق الشمالية من قطاع غزّة، التي استولى عليها جيش الدفاع الإسرائيلي في الخريف مقابل سقوط مئات الجنود، مقارنة بما لديها في رفح في الجنوب.

دبّابة إسرائيليّة في غزّة

وتشنّ حماس الآن حرب عصابات، تنطوي على نصب كمائن وقنابل بدائية الصنع (غالبًا ما تكون مصنوعة من ذخائر وأسلحة غير منفجرة استخدمها الجيش الإسرائيلي)، وعمليات مطولة قال عنها مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الإسرائيلي مؤخرًا إنها قد تستمر حتى نهاية عام 2024 على الأقل. وما يزال بإمكانها ضرب إسرائيل. ومن المرجح أن لدى حماس نحو 15 ألف مقاتل مُعبأ، أي ما يقرب من عشرة أضعاف عدد المقاتلين الذين نفَّذوا هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول. علاوة على ذلك، ما يزال أكثر من 80% من شبكة الأنفاق تحت الأرض التابعة للتنظيم صالحة للاستخدام في التخطيط وتخزين الأسلحة والتهرب من المراقبة والاعتقال والهجمات الإسرائيلية. وما تزال أغلب القيادات العليا لحماس في قطاع غزّة على حالها. خلاصة القول، إن الهجوم الإسرائيلي السريع في الخريف قد أفسح المجال لحرب استنزاف طاحنة من شأنها أن تترك لحماس القدرة على مهاجمة المدنيين الإسرائيليين، حتى لو واصل الجيش الإسرائيلي حملته في جنوب قطاع غزّة.

ركَّزت عمليات مكافحة التمرد الفاشلة في الماضي غالبًا على أعداد القتلى من الأعداء. ويشارك الجيش الإسرائيلي الآن في لعبة «اضرب الخلد» (whack-a-mole) المألوفة التي أعاقت القوات الأميركية في أفغانستان لسنوات. إن الاهتمام الحثيث بأعداد القتلى يميل إلى الخلط بين النجاح التكتيكي والإستراتيجي وتجاهل التدابير الرئيسة التي من شأنها أن تظهر ما إذا كانت القوة الإستراتيجية للخصم تنمو حتى مع تزايد الخسائر المباشرة للحركة. بالنسبة للجماعات الإرهابية أو المتمردة، فإن المصدر الرئيس للقوة ليس حجم الجيل الحالي من المقاتلين، بل قدرتها على كسب المؤيدين من المجتمع المحلي في المستقبل.

مصادر القوة

لا تأتي قوة جماعة مسلحة مثل حماس من العوامل المادية النموذجية التي يستخدمها المحللون للحكم على قوة الدول، بما في ذلك حجم اقتصادها، والتطور التكنولوجي لجيوشها، ومدى الدعم الخارجي والقوة العسكرية التي تتمتع بها، وقوة أنظمتهم التعليمية. بل إن المصدر الأكثر أهمية لقوة حماس وغيرها من الجهات المسلحة غير الحكومية التي يشار إليها عادة باسم الجماعات «الإرهابية» أو «المتمردة» هو القدرة على التجنيد، وخاصة قدرتها على جذب أجيال جديدة من المقاتلين والناشطين الذين ينفذون عمليات الجماعة القاتلة ومن المرجح أن يموتوا من أجل هذه القضية. وهذه القدرة على التجنيد متجذرة، في نهاية المطاف، في عامل واحد: حجم وشدة الدعم الذي تستمده المجموعة من مجتمعها.

يسمح دعم المجتمع للجماعة الإرهابية بتجديد صفوفها، واكتساب الموارد، وتجنب الكشف عنها، وبشكل عام، الحصول على مزيد من الموارد البشرية والمادية اللازمة لتعبئة ومواصلة عمليات العنف القاتلة. إن معظم الإرهابيين، بما في ذلك الجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط، هم من المتطوعين الذين يأتون من الخارج، وغالبًا ما يكونون إما غاضبين بسبب فقدان أفراد من عائلاتهم أو أصدقاء أو غاضبين بشكل عام من ممارسة دولة قوية للقوة العسكرية المُطبقة. يبحث هؤلاء الأشخاص في كثير من الأحيان عن جهات تجنيدٍ من المفترض أن تكون هويتها مكشوفة لجهات الأمن لولا رغبة أفراد المجتمع في حمايتهم. تميل الجماعات الإرهابية إلى القتال بأسلحة صُنعتِ إما عن طريق إعادة تشكيل المواد المدنية أو الاستيلاء عليها من قوات أمن الدولة، وغالبًا ما يتم ذلك بمعلومات استخباراتية ومساعدة يقدمها أفراد المجتمع المحلي.

ويعدُّ دعم المجتمع ضرورياً لتعزيز عبادة الاستشهاد. من غير المرجح أن يتطوع الناس في المهام عالية المخاطر إذا مرت تضحياتهم، دون أن يلاحظها أحد. إن المجتمع الذي يكرم المقاتلين الذين سقطوا في صفوف جماعة إرهابية يساعد في الحفاظ عليها، إذ يضفي الاستشهاد الشرعية على الأعمال الإرهابية، ويشجع المجندين الجدد. سوف يتصرف الإرهابيون على النحو الذي يرونه مناسبًا، ولكن المجتمع هو الذي يقرر في نهاية المطاف ما إذا كانت تضحية الفرد تحظى بمكانة عالية أو ما إذا كان يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها غير عقلانية وإجرامية وتستحق الازدراء.

آثار الدمار في غزة جراء القصف الإسرائيليّ المتواصل (Getty)

وليس من المستغرب أن تبذل الجماعات الإرهابية في كثير من الأحيان جهودًا كبيرة لكسب ودّ المجتمعات المحلية. ومن خلال الاندماج في المؤسسات الاجتماعية، مثل المدارس والجامعات والجمعيات الخيرية والتجمعات الدينية، تصبح الجماعات الإرهابية جزءًا من نسيج المجتمعات، وأكثر قدرة على كسب المزيد من المجندين ودعم غير المقاتلين.

العديد من الحالات تظهر هذه الديناميكيات. ازدهر حزب الله بدعم شعبي متزايد بين الشيعة خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان من عام 1982 إلى عام 1999، وتطور من جماعة إرهابية سرية صغيرة إلى حزب سياسي رئيس يضم جناحًا مسلحًا يضم حوالي 40 ألف مقاتل اليوم. كان الدعم المجتمعي القوي هو الدافع وراء الحملات الإرهابية الطويلة الأمد لنمور التاميل (Tigers of Tamil) في سريلانكا، والدرب الساطع (Sendero Luminoso) في بيرو، وحزب العمال الكردستاني (Partiya Karkerên Kurdistanê) في تركيا، وطالبان في أفغانستان، وما يسمى بالدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة في العديد من الدول.

قد يكون فقدان دعم المجتمع مدمرًا للجماعات الإرهابية. في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ارتفع عدد المقاتلين في التمرد السني من 5000 في ربيع 2004 إلى 20,000 بحلول خريف 2004، ثم إلى 30,000 في فبراير/شباط 2007، وفقًا للتقديرات الأميركية. كلما زاد عدد الأشخاص الذين تقتلهم الولايات المتحدة، زاد نمو التمرد بشكل أسرع. والواقع أن التمرد لم ينهر إلا بعد أن تحولت الولايات المتحدة إلى نهج جديد، حيث عرضت حوافز سياسية واقتصادية لتشجيع القبائل السنية على معارضة الإرهابيين. أدى هذا التحول في نهاية المطاف إلى القضاء على التمرد، حيث أدى فقدان دعم المجتمع المحلي إلى انشقاقات جماعية، ومعلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ، وصعود قوى معارضة السنية تسمى صحوة أو إنقاذ الأنبار. وبحلول عام 2009، كان التمرد قد انهار فعليًا لسبب رئيسٍ واحد: فقدان الدعم المجتمعي جعل من المستحيل على الإرهابيين تجديد صفوفهم.

كسب القلوب والعقول

وتساعد هذه الديناميات في تفسير بقاء حماس في السلطة في حربها مع إسرائيل. ولتقييم القوة الحقيقية للجماعة، يجب على المحللين أن يأخذوا في الاعتبار الأبعاد المختلفة للدعم الذي تحظى به بين الفلسطينيين. وتشمل هذه شعبيتها مقارنة بمنافسيها السياسيين، ومدى نظر الفلسطينيين إلى العنف الذي تمارسه حماس ضد المدنيين الإسرائيليين باعتباره مقبولًا، وعدد الفلسطينيين الذين فقدوا أفرادًا من عائلاتهم في الغزو الإسرائيلي المستمر لقطاع غزّة. توفر هذه العوامل، أكثر من العوامل المادية، أفضل مقياس لقدرة حماس على القيام بحملات إرهابية طويلة الأمد.

يمكن أن تساعد استطلاعات الرأي الفلسطيني في تقييم مدى الدعم المجتمعي لحماس. ولمراعاة تحديات إجراء المسح السكاني في قطاع غزّة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، قام المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وهو منظمة استطلاعية تأسست عام 1993 بعد اتفاقيات أوسلو، وتتعاون مع المؤسسات الإسرائيلية، بإجراء مقابلات مع النازحين في الملاجئ المؤقتة. وتضاعف تقريبًا العدد المعتاد للمشاركين الذين قُوبلوا؛ نظرًا للتوزيع السكاني غير المؤكد والمتغير في القطاع.

تقدم خمسة استطلاعات من المركز ابتداءً من يونيو 2023، وحتى آخرها الذي وزّع في يونيو 2024، نتيجة مذهلة: في جميع المقاييس تقريبًا، تتمتع حماس بدعم أكبر بين الفلسطينيين اليوم مما كانت عليه قبل 7 أكتوبر.

لقد تزايد الدعم السياسي لحماس، خاصة بالمقارنة مع منافسيها. على سبيل المثال، على الرغم من أن حماس ومنافستها الرئيسة، فتح، تمتعتا بمستويات دعم مكافئة تقريبًا في يونيو/حزيران 2023، إلا أنه بحلول يونيو/حزيران 2024، تضاعف عدد الفلسطينيين الذين دعموا حماس (40 في المئة مقارنة بـ 20 في المئة لفتح).

ولم يؤد القصف الإسرائيلي والغزو البري لقطاع غزّة إلى تراجع التأييد الفلسطيني للهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل، ولا إلى تراجع التأييد لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول نفسه بشكل ملحوظ. وفي مارس/آذار 2024، اعتقد 73% من الفلسطينيين أن حماس كانت على حق في شن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهذه الأرقام مرتفعة للغاية، ليس فقط بعد أن أدت الهجمات إلى تحفيز الحملة الوحشية الإسرائيلية، ولكن أيضًا في ضوء حقيقة أن عددًا أقل، 53 بالمئة، من الفلسطينيين أيدوا الهجمات المسلحة على المدنيين الإسرائيليين في سبتمبر 2023.

وتتمتع حماس بلحظة «الاحتشاد حول المقاومة»، مما يساعد في تفسير سبب عدم قيام سكان قطاع غزّة بتقديم المزيد من المعلومات الاستخبارية للقوات الإسرائيلية حول مكان وجود قادة حماس والرهائن الإسرائيليين. ويبدو أن الدعم للهجمات المسلحة ضد المدنيين الإسرائيليين قد ارتفع خاصة بين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو ما يتساوى الآن بحق مع مستويات الدعم العالية المستمرة لهذه الهجمات في قطاع غزّة، مما يدل على أن حماس حققت مكاسب واسعة النطاق في المجتمع الفلسطيني منذ 7أكتوبر/تشرين الأول.

وتظهر بيانات المسح أيضًا كيف أثرت الحملة العسكرية الإسرائيلية على الفلسطينيين. اعتبارًا من مارس 2024، أصبح ثقل الثمن المتصور للحرب على السكان الفلسطينيين مرتفعًا بشكل ملحوظ. أفاد 60% من الفلسطينيين في قطاع غزّة عن مقتل أحد أفراد أسرهم في الحرب الحالية، في حين أفاد أكثر من ثلاثة أرباعهم عن مقتل أو إصابة أحد أفراد الأسرة، وكلاهما أعلى بكثير مما كان عليه في كانون الأول/ديسمبر 2023. وليس لهذه العقوبة تأثير رادع كبير بين الفلسطينيين، حيث فشلت في الحد من دعمهم للهجمات المسلحة ضد المدنيين الإسرائيليين ودعمهم لحماس.

كانت حماس قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول قد وصلت إلى ذروة إنجازها بوصفها قوة سياسية، بل وكانت في تراجع. وكانت المجموعة تخشى أن تهمّش قضيتها –ومحنة الفلسطينيين– من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية، وهي الاتفاقيات التي سعت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. قبل هجومها السافر على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أدركت حماس مستقبلًا تُصبح فيها عديمة الأهمية، حيث تضاءلت الأسباب التي قد تدفع الفلسطينيين إلى دعم الحركة.

وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تزايد الدعم الفلسطيني لحماس، مما يؤثر سلبًا على أمن إسرائيل. نعم، لقد قتلت إسرائيل عدة آلاف من مقاتلي حماس في قطاع غزّة. لكن هذه الخسائر في الجيل الحالي من المقاتلين تعوض مباشرة من خلال ارتفاع الدعم لحماس وما يترتب على ذلك من قدرة الجماعة على تجنيد الجيل القادم تجنيدًا أفضل. وفي غضون ذلك، وإلى أن يصل هؤلاء المجندون الجدد، فإن كل الدلائل تشير إلى أن مقاتلي حماس الحاليين أصبحوا أكثر حماسًا لشن حرب عصابات مطولة ضد أي أهداف إسرائيلية يمكنهم ضربها.

قوة الرسالة

من المؤكد أن العقوبة الهائلة التي فرضتها إسرائيل على قطاع غزّة تدفع العديد من الفلسطينيين إلى الشعور بمزيد من العداء تجاه الدولة اليهودية. ولكن لماذا تستفيد حماس من رد الفعل هذا؟ ففي نهاية المطاف، كان هجومها هو السبب المباشر للحرب التي سوت مساحات واسعة من قطاع غزّة بالأرض وقتلت أعدادًا كبيرة من الناس.

تكمن الإجابة إلى حد كبير في الحملة الدعائية المتطورة التي تشنها حماس، والتي تبني تفسيرًا إيجابيًا للأحداث وتنسج السرديات التي تساعد الجماعة على كسب المزيد من المؤيدين. وفي إعادة صياغة ما قاله المحلل النفسي الأميركي إدوارد بيرنيز، فإن الدعاية لا تعمل من خلال خلق وغرس الخوف والغضب بقدر ما تفعل ذلك من خلال إعادة توجيه هذه المشاعر نحو أهداف ملموسة. وتشكل جهود حماس مثالًا رئيسًا على هذا التكتيك. منذ بدء الحرب، نشرت المجموعة كمية هائلة من المواد، معظمها عبر الإنترنت، في محاولة لحشد الشعب الفلسطيني حول قيادتها وسعيها لتحقيق النصر ضد إسرائيل.

قام فريق تحليل الدعاية العربية، وهو مجموعة متخصصة من اللغويين العرب المتخصصين في جمع وتحليل الدعاية العسكرية باللغة العربية، في مشروع جامعة شيكاغو حول الأمن والتهديدات بدراسة الدعاية العربية التي تنتجها حماس وجناحها العسكري، كتائب القسام، والتي تنشرها على قناة الرسمية للكتائب في أعقاب 7 أكتوبر. تنشر هذه القناة، التي تضم أكثر من 500 ألف مشترك، رسائل وصور ومقاطع فيديو وغيرها من الدعاية كل يوم تقريبًا منذ هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول. قام محمد الجوهري، قائد فريق البحث، بتحليل أكثر من 500 جزء من الدعاية في الفترة من 7 أكتوبر 2023 إلى 27 مايو 2024. ومن غير المعروف عدد الفلسطينيين الذين يستهلكون هذه المواد عبر الإنترنت، لكن قطاع غزّة والضفة الغربية لديها الوصول إلى الإنترنت يوميًا، وإن كان بشكل متقطع. يعكس المحتوى الرقمي لحماس جهودها الدعائية التناظرية في شبكات المجتمع المحلي.

تتمحور المواد حول ثلاثة مواضيع: ليس أمام الشعب الفلسطيني خيار سوى القتال لأن إسرائيل عازمة على ارتكاب فظائع لا توصف ضد جميع الفلسطينيين، حتى لو لم يشاركوا في عمليات عسكرية، وتحت قيادة حماس يستطيع الفلسطينيون هزيمة إسرائيل في ساحة المعركة، وأن أولئك المقاتلين الذين يموتون في المعركة سيحصلون على الشرف والمجد. نشرت حماس عددًا كبيرًا من مقاطع الفيديو والبيانات والمواد الأخرى لإثبات أن هجومها على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول كان رد فعل ضروريًا ومبررًا على الاحتلال الإسرائيلي والفظائع والعدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك التوغلات المتكررة في المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس المحتلة، من قبل قوات الأمن الإسرائيلية ونشطاء ومستوطنين إسرائيليين.

ولنتأمل هنا بيان حماس الذي نُشر أصلًا في 22 يناير/كانون الثاني، والذي انتشرَ على نطاق واسع حتى في وسائل الإعلام الإسرائيلية. ويشرح هذا الإعلان المستفيض بعمق مبررات الجماعة لمهاجمة إسرائيل، مع التركيز على ما يصفه بالمظالم الطويلة الأمد بشأن تصرفات الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين، بما في ذلك الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى في القدس والقيود المفروضة على المصلين الفلسطينيين هناك، والتوسع المستمر للمستوطنات في الضفة الغربية، والمعاملة المروعة المزعومة التي يتعرض لها المعتقلون الفلسطينيون في إسرائيل، والحصار الوظيفي الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزّة وفرض سياسات شبيهة بالفصل العنصري في الضفة الغربية. هذا البيان مثالٌ واحد من بين عشرات المنشورات التي تشير إلى نقاط مماثلة.

وتؤكد العديد من مقاطع الفيديو والصور والملصقات على براعة حماس العسكرية، وتعرض الهجمات الناجحة على أهداف إسرائيلية، وخاصة المركبات المدرعة والدبابات. وتهدف هذه المنشورات إلى إبراز قوة الجماعة وفعاليتها، مما يوحي بأن حماس يمكن أن تلحق ضررًا كبيرًا بخصومها المتفوقين من الناحية التكنولوجية. وفي هذه الدعاية، يظهر المقاتلون بكامل معداتهم القتالية والزي التكتيكي، ومجهزين بالخوذات والنظارات الواقية والأسلحة المتقدمة، مما يسلط الضوء على جاهزيتهم العملياتية. كما تظهر الرمزية الدينية، مثل الآيات القرآنية، بشكل كبير، مما يصور كفاح حماس على أنه كفاح روحي. تساعد الدعاية في رفع المقاتلين الذين سقطوا إلى مرتبة الشهداء الذين ماتوا وهم يقاتلون إسرائيل في خدمة قضية نبيلة وشرعها الله. يلهم تمجيد استشهادهم المجندين الجدد المحتملين.

طائرة حربيّة إسرائيليّة في سماء غزّة (Getty)

إن الدعاية التي تقوم بها حماس منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول تتماشى تمامًا مع النتائج التي توصلت إليها استطلاعات الرأي العام للمواقف الفلسطينية. ويشير التوافق الوثيق بين جوهر دعاية حماس والدعم المتزايد لحماس بشكل خاص وللنضال المسلح ضد إسرائيل بشكل عام في استطلاعات الرأي العام إلى أن حماس تحفز هذا الدعم أو أن دعايتها تعكس الأسباب الرئيسة لهذا الدعم. وفي كلتا الحالتين، تستفيد حماس من الحرب لتزداد قوة من خلال الروابط المتزايدة الاتساع بين المجتمع والجماعة المسلحة.

الحقيقة الصارخة

بعد تسعة أشهر من الحرب المرهقة، حان الوقت للاعتراف بالحقيقة الصارخة: لا يوجد «حل عسكري فقط» كافٍ لهزيمة حماس. فالمجموعة هي أكثر من مجرد عدد مقاتليها الحاليين، وأكثر من مجرد فكرة مؤثرة. حماس حركة سياسية واجتماعية جوهرها العنف، ولن تختفي في أي وقت قريب.

قد تؤدي الإستراتيجية الإسرائيلية الحالية المتمثلة في العمليات العسكرية المكثفة إلى مقتل بعض مقاتلي حماس، لكنها لن تؤدي إلا إلى تقوية الروابط بين حماس والمجتمع المحلي. واصلت إسرائيل طيلة تسعة أشهر تنفيذ عمليات عسكرية غير مقيدة تقريبًا في قطاع غزّة، ولم تحقق إلا قدرًا ضئيلًا من التقدم الواضح نحو تحقيق أي من أهدافها. حماس ليست مهزومة ولا على وشك الهزيمة، وقضيتها أكثر شعبية وجاذبية وأقوى مما كانت عليه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول. وفي غياب خطة لمستقبل قطاع غزّة والشعب الفلسطيني قد يقبلها الفلسطينيون، فإن الإرهابيين سوف يستمرون في العودة بأعداد أكبر.

ولكن يبدو أن القادة الإسرائيليين لا يظهرون أي استعدادٍ للتفكير في خطة سياسية قابلة للتطبيق أكثر مما كانوا عليه قبل السّابع من أكتوبر/تشرين الأول. لا توجد نهاية تذكر في الأفق للمأساة المستمرة في قطاع غزّة. وسوف تستمر الحرب، وسيموت المزيد من الفلسطينيين، وسوف يتزايد التهديد ضد إسرائيل.