“الرهاب الكنعاني” مقابل “العداء للسامية”: التواطؤ العالمي في إبادة الفلسطينيين

مجدي أبو زيد

يشهد العالم، من خلال دوله ومنظماته الدولية والحقوقية، القتل المستمر، والتشريد، والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وكل ذلك يتم بثه على الهواء مباشرة أمام الجميع. لأول مرة في التاريخ الحديث، يُترك شعب بأكمله وحيداً – جائعاً، تائهاً، ومشرداً مراراً وتكراراً على أرضه. مشتتون عبر الأرض، وداخل ما تبقى من وطنهم بعد النكبة في عام 1948، أُجبروا على مغادرة قراهم ومدنهم لإفساح الطريق أمام إقامة دولة إسرائيل. هؤلاء الناس، الذين تحرمهم معظم الدول الغربية المهيمنة على العالم من حقهم في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة على أقل من ربع أرضهم التاريخية.

يزداد هذا الظلم وضوحاً عندما ندرك السياق التاريخي: المحرقة، جريمة ارتكبها النازيون الأوروبيون بتواطؤ -نشط أو سلبي- من دول أوروبية أخرى، أدت إلى مذبحة جماعية لليهود. ومع ذلك، فإن الفلسطينيين، الذين لم يكن لهم دور في هذه الفظائع، هم الذين لا يزالون يدفعون الثمن. الدين الأخلاقي لأوروبا، الناتج عن جرائمها الخاصة، تم نقله ظلماً إلى عاتق شعب بريء من أي تورط. إن فرض أوروبا لهذا العبء على الفلسطينيين هو ظلم عميق، أدى إلى عقود من المعاناة والتشريد والاحتلال.
لن أقارن أوضاع الفلسطينيين ما حدث لليهود خلال الحرب العالمية الثانية في ألمانيا النازية وأوروبا، رغم وجود أساس قوي للمقارنة. وبدلاً من ذلك، سأنتقل مباشرة إلى جوهر القضية، مركزاً على أحد الركائز الأساسية التي بنت عليها الحركة الصهيونية حجتها القوية لتأسيس دولة يهودية على حساب الشعب الفلسطيني المسالم؛ أقصد المحرقة و”العداء للسامية””anti-Semitism”/ ، وهو مصطلح تم قوننته في بعض الدول الأوروبية، واستغلاله بمهارة، واستخدامه بذكاء، لتجريم ومعاقبة ليس فقط من يكرهون اليهود أو ينكرون المحرقة، بل أيضاً أي شخص ينتقد إسرائيل وسياساتها العنصرية ضد الفلسطينيين -سياسات القتل والتجويع وسرقة الأراضي والتشريد والحق في تقرير المصير.
لن أتعمق في تحليل أو تفسير أو نقد مصطلح “معاداة السامية”، فقد تم تناوله بالفعل بشكل شامل من قبل المؤيدين والمنتقدين على حد سواء. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن هذا المصطلح يخفي ويبطن أكثر مما يُظهر. الفلسطينيون أيضاً ساميون، ومع ذلك يُتهمون غالباً بمعاداة السامية عندما ينتقدون إسرائيل! علاوة على ذلك، فإن المصطلح لا يتحدث عن العرق “السامى”، بل عن “الدين اليهودي”، وربما بشكل أكثر تحديداً، عن اليهود الأشكناز الأوروبيين. هذا الموضوع يتطلب نقاشاً ونقداً وتحليلاً واسعاً، لكن ما يهمنا هنا هو الاستخدام الأيديولوجي لمصطلح “معاداة السامية” في خدمة المشروع الصهيوني وداعميه.
لقد أصبحت اتهامات معاداة السامية الآن منتشرة في أوروبا، وتُستخدم أحياناً كأداة للقمع السياسي دون أي صلة مباشرة بإسرائيل. على سبيل المثال، استخدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تهمة معاداة السامية لتشويه حركة “السترات الصفراء”، من خلال الإيحاء بأن الفقراء معادون للسامية بطبيعتهم. يعزز هذا الادعاء الصورة النمطية بأن اليهود أثرياء وأقوياء، مما يبرر الحاجة إلى حمايتهم من الجماهير -وهو كليشيه معاد للسامية بامتياز.
وكما يُجرّم إنكار المحرقة في العديد من الدول، يمكن ويجب على المجتمع الدولي وداعمي حقوق الفلسطينيين أن يقوموا بتطوير آليات لتجريم إنكار أو تقليل الجرائم المستمرة ضد الفلسطينيين. يمكن أن تصبح مصطلحات مثل “معاداة الفلسطينيين” أو “الرهاب الكنعاني” أدوات قانونية دولية شبيهة بـ”معاداة السامية”، تُستخدم لفضح ومواجهة ومحاسبة من يمارسون التمييز والعداء ضد الفلسطينيين وحقوقهم، أو الشهود الصامتين على هذه الفضائع.
أقرب مقارنة مع الواقع الفلسطيني الحالي هو نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث اعتمدت الحركة العالمية ضد الفصل العنصري على المقاطعات الاقتصادية والعقوبات الدولية والإدانة الواسعة، مما أدى في النهاية إلى انهيار النظام. وعلى هذا الأساس، يمكن تعبئة حملة عالمية مماثلة ضد أي شخص -سواء كان مؤسسات أو أفراداً أو دولاً- يدعم أو يفشل في التحرك ضد اضطهاد الفلسطينيين.
لا يمكن للشعب الفلسطيني وأنصاره في جميع أنحاء العالم التخلص من قبضة المشروع الصهيوني دون تفكيك وإبطال مصطلح “معاداة السامية” والرد عليه بنفس القوة والأسلوب، في الوقت الذي أصبح الدرع الذي يستخدمه المشروع الصهيوني لتبرير سياساته العنصرية والاستعمارية. ليس هناك ما يبرر لإسرائيل ذبح الأبرياء لمجرد أن اليهود ذُبحوا في الماضي. ما الجريمة التي ارتكبها الفلاح الفلسطيني المسالم عندما جاءت الأساطيل البريطانية لسرقة أرضه ومنحها للحركة الصهيونية، مما أدى إلى إبادة جماعية وإقتلاع للفلسطينيين من أرضهم، وإجبارهم على تحمل عقود من الاحتلال واللجوء وإمتهان كرامتهم؟
إن القتل والتشريد، والآن أيضاً في غزة التجويع والتعطيش، والنية المبيتة لنشر الأوبئة والأمراض الذي يعاني منه الفلسطينيون، ويشاهده العالم دون اتخاذ أي إجراء فعّال لوقف هذه الإبادة الجماعية، يتطلب العقاب والإدانة والفضح، وفي النهاية العدالة زالمحاكمة. يجب فضح وإدانة المؤسسات التي أغرقتنا بالخطابات حول حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية، كما يجب محاسبة جميع المسؤولين عن الإبادة الجماعية والفشل في مساعدة الفلسطينيين -بينما كانوا يشاهدون بثاً مباشراً لعمليات القتل الجماعي للأطفال والنساء وكبار السن دون أن يحركوا ساكناً. لم يلتزم هؤلاء المسؤولون الصمت فحسب، بل دعم بعضهم الاحتلال بالأسلحة والذخائر وجميع أشكال المساعدة وقدموا له الوقت والغطاء السياسي لإستكمال محو شعب بأكمله.
إطلاق حملة عالمية لتبني مفهوم “معاداة الفلسطينيين” كمصطلح مكافئ لـ”معاداة السامية” يمكن أن يساعد في فضح وإدانة ومحاسبة كل من يتواطأ أو يصمت عن دعم حقوق الفلسطينيين بينما تُرتكب الإبادة الجماعية ضدهم.
يجب علينا أيضاً أن ننظر في مصطلحات مثل “الرهاب الكنعاني”/ “Canaanophobia”، الذي يشير إلى الكراهية العميقة أو الخوف من الفلسطينيين كشعب أصلي، أو “السيكوباتية السياسية” “political psychopathy”/، التي تصف الانفصال الأخلاقي وانعدام التعاطف بين أولئك الذين يتواطؤون أو يتجاهلون معاناة الفلسطينيين.
هذا المقال ليس مجرد دعوة لإطلاق مصطلح جديد موازٍ لـ”معاداة السامية”، بل هو أيضاً دعوة للتفكير والتعاون في تطوير لغة جديدة تكشف التواطؤ العالمي، وتدعم المساءلة تجاه أي شخص يقف ضد حقوق الفلسطينيين، أو يلتزم الصمت إزاء الجرائم التي ترتكب ضدهم. لم يعد كافياً أن نتعاطف مع الفلسطينيين أو ندعم حقوقهم لنشعر بإنسانيتنا ودعمنا للمظلومين؛ بل أصبح من الضروري أيضاً ملاحقة ومحاكمة وفضح كل من يقف متفرجاً على جرائم الإبادة وإنكار حقوق الإنسان الأساسية للفلسطينيين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار الإخباري