المسار : لم تعد المساعدات الإنسانية تشكل طوق نجاة لأهالي قطاع غزة بل تحولت في نظر كثيرين إلى أداة ابتزاز وتضليل بيد الاحتلال، فما يُسمح بدخوله عبر المعابر ليس سوى بضائع تجارية محدودة في كميتها وأنواعها وبالكاد تكفي لتغطية نحو 13% من الاحتياجات الأساسية لأكثر من مليوني إنسان يعيشون تحت الحصار. وفي الوقت الذي ينتظر فيه الغزيون وصول الغذاء والدواء، تواصل إسرائيل منع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”، من ممارسة دورها الإغاثي. ونتيجة لذلك، يجد الغزيون أنفسهم في مواجهة صراع يومي مع الجوع وارتفاع الأسعار وانعدام مقومات الحياة الكريمة.
ولم يقتصر الأمر على تقليص المساعدات، بل تجاوز ذلك إلى تدمير منظم لمصادر الاقتصاد المحلي، فقد استهدفت إسرائيل المزارع والمصانع والمخازن، ما جعل السكان أكثر اعتماداً على المساعدات الخارجية، في وقت يصر فيه الاحتلال على التحكم بمسارات هذه المساعدات وكمياتها وتشجيع سرقتها لإفراغها من معناها الإنساني وتحويلها إلى أداة ضغط سياسي. وقال الفلسطيني حسين المقيد، وهو أب لخمسة أطفال، إنّ غياب الدخل جعل حياته أشبه بكابوس يومي “فبعد توقف عمله منذ بداية الحرب لم يعد قادراً على توفير أبسط متطلبات أسرته، حتى الخبز بات يشكّل عبئاً ثقيلاً عليه”. وأوضح المقيد لـ”العربي الجديد” أنّ كل ما يدخل عبر الشاحنات التجارية يباع في الأسواق بأسعار لا يستطيع تحملها “فكيف لإنسان بلا راتب أو مصدر رزق أن يشتري كيس دقيق بأضعاف ثمنه؟ في وقت تمنع فيه إسرائيل تأمين المساعدات، وتُسرَق وتُباع في الأسواق”.
وأشار كذلك إلى أنّ الشاحنات التجارية لا تمثل حلاً للأزمة الإنسانية، لأنّها موجهة للتجار وليس للناس الذين فقدوا مصادر دخلهم. ورأى أنّ الحل الوحيد يكمن في إدخال مساعدات إنسانية ومنظمة تصل مباشرة إلى العائلات المحتاجة، دون المرور عبر الأسواق التي تحولت إلى ساحة استغلال في ظل الندرة. وذكر الفلسطيني محمود عبد السلام، وهو موظف قطاع خاص فقد عمله بسبب الحرب، أن الوضع أصبح لا يطاق، قائلاً: “لم يعد في جيوبنا ما نشتري به حتى أبسط الأشياء ومعظم العائلات تعيش على التبرعات أو ما تبقى من المساعدات الشحيحة التي تتمكن بعض المؤسسات من إدخالها”.
وأضاف عبد السلام لـ”العربي الجديد”: “الحاجة اليوم ليست لمزيد من البضائع باهظة الثمن، بل لإغاثة عاجلة ومنظمة عبر المؤسسات الدولية، فالمواطن الغزي، لا يبحث عن رفاهية ولا عن تنوع في البضائع بقدر حاجته للقمة تسد جوع أطفاله ودواء ينقذ حياة مريض في عائلته”. بدوره، قال المختص في الشأن الاقتصادي، محمد بربخ، إن الشاحنات التجارية ضرورية من ناحية تشغيل الدورة الاقتصادية في القطاع وتنويع المعروض من السلع، لكن لا ينبغي إغفال أنّ 95% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية.
وأوضح بربخ في حديث لـ”العربي الجديد” أنّ هذه الحقيقة تعني أنّ المجاعة ما زالت واقعة فعلاً، خصوصاً أنّ شاحنات المساعدات القليلة التي يُسمح بدخولها تتعرض للسرقة أو التلاعب من الاحتلال، ما يفرغها من مضمونها الإغاثي، وبذلك يتحول الدعم المفترض إلى حلقة جديدة في سياسة التجويع. وأضاف: “تعطيل عمل المؤسسات الدولية الإغاثية يمثل دليلاً إضافياً على أنّ الاحتلال ينتهج سياسة التجويع في غزة بشكل واعٍ ومدروس، فبعد تدمير مقومات الاقتصاد المحلي ورفع نسبة البطالة إلى أكثر من 83%، ودفع نسبة الفقر لتجاوز 90%، يواصل الاحتلال حربه على الأمن الغذائي مانعاً أي مبادرات دولية أو أهلية من تخفيف حدة الأزمة”.
وتابع: “وبالتالي نجد أنّ النتيجة مشهد إنساني قاسٍ يختزل في طوابير طويلة أمام المخابز المدمرة، وأطفال يبحثون عن لقمة العيش في ظروف تفتقد إلى الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية”. وتطرق بربخ إلى الحديث عن القطاع التجاري، مؤكداً أنه يعاني من مشاكل كبيرة بسبب سياسات الاحتلال، إذ بات التاجر يعتمد على بضائع محدودة تدخل عبر المعابر لا تفي حتى بجزء يسير من الاحتياج اليومي للسكان. ولفت إلى أنّ هذه الكميات القليلة انعكست على الأسعار التي لا تزال متضاعفة بأكثر من خمس مرات على بعض السلع الأساسية، ما جعل حتى الشريحة القليلة من الموظفين أو أصحاب الدخل الثابت عاجزين عن توفير احتياجاتهم. فيما رأى المختص في الشأن الاقتصادي، عماد لبد، أنّ الاحتلال يتعمد تحويل قضية المساعدات إلى ورقة سياسية وأمنية أكثر منها إنسانية، “فإبقاء الوضع في غزة رهينة سياسة التقطير من السلع والبضائع يهدف إلى خلق حالة دائمة من عدم الاستقرار وتحويل المساعدات إلى أداة مساومة”.
وقال لبد في حديث لـ”العربي الجديد” إنّ أيّ إحصاءات اقتصادية تظهر بوضوح حجم الكارثة “فالناتج المحلي للقطاع انهار بشكل شبه كامل، والأنشطة الإنتاجية توقفت تماماً بعد استهداف المصانع وورش العمل والمزارع، وبذلك لم يعد أمام السكان أي بديل سوى الاعتماد على المساعدات، لكن حتى هذا المسار يجري تفريغه من محتواه عبر سياسة الفوضى ومنع تأمين المساعدات وإدخالها لمستحقيها”. وأكد أنّ استمرار هذا النهج أفرز آثاراً اقتصادية واجتماعية كارثية بعيدة المدى، مشيراً إلى أنّ الحل يكمن في إعادة الاعتبار لدور المؤسسات الدولية وفرض آلية دولية شفافة ومستقلة لإدخال المساعدات وضمان وصولها إلى مستحقيها دون تدخل الاحتلال.
(المصدر ..العربي الجديد)