المسار : في الضفة الغربية، حيث تتقاطع أزمات البنية التحتية مع الاحتلال، لم تعد أزمة النفايات مجرّد قضية بيئية هامشية، بل غدت مرآة تعكس عمق الخلل في النظام السياسي والاقتصادي القائم، وتُجسّد في آنٍ واحد مدى تعقّد مسألة السيادة على الأرض والموارد. فعلى مدى عقود، استُخدمت الأراضي الفلسطينية كمكبات عشوائية للنفايات، تُدفن وتحرق بوسائل بدائية، فيما ظلّت الجهات المحلية تفتقر إلى القدرة المؤسساتية والموارد التكنولوجية لمعالجة هذه المعضلة ضمن إطار شامل ومستدام.
وسط هذا المشهد المتأزم، ظهرت مشاريع في مكب زهرة الفنجان في جنين، كإحدى المحاولات الفلسطينية لحل مزدوج يعالج أزمتين متداخلتين: النفايات الصلبة والاعتماد الشبه كلي على الكهرباء الإسرائيلية والتي تصل نسبته إلى أكثر من 90% من احتياجات الضفة الغربية. أول مشروع أطلق في مطلع العقد الماضي سعيا لتأسيس بنية تحتية لإعادة التدوير في جنين، غير انه انهار تحت وطأة بيئة سياسية وأمنية تعادي فكرة الاكتفاء الذاتي الفلسطيني من حيث المبدأ.
واليوم، بعد أكثر من عقد، يعود مكب زهرة الفنجان الى الواجهة بمشروع جديد يختلف بأهدافه حيث انتقل نقلة نوعية من إعادة التدوير إلى تحويل النفايات إلى مصدر طاقة بديلة في محاولات لتقليل الاعتماد على الاحتلال والتخلص الكامل من النفايات في المكب، ما يحسن من الصحة البيئية في المنطقة الشمالية. تم إعاقة تنفيذه بعد الحرب على غزة، لكن حسب المهندس أشرف عياد، سوف يتم استكمال المشروع وتشغيله خلال 3 سنوات.
إن إعادة النظر في مشروع “زهرة الفنجان”، في نسختيه، ليست مجرد مراجعة لتجربتين تقنيّتين، بل هي دراسة لخيارات سياسية وبيئية فرضت على الفلسطينيين تحت سياق استعمار استيطاني. لذا، فإن استيعاب الفرق بين الفشل السابق والأمل الحالي لا يكون إلا من خلال قراءة أعمق لمعادلة “البيئة تحت الاحتلال”.
تشير التقديرات إلى أن الضفة الغربية، التي تضم مئات التجمعات السكانية، تنتج كميات متزايدة من النفايات لا تتناسب مع القدرة الحالية على المعالجة. ومع افتقار معظم الهيئات المحلية إلى آليات فعّالة للفرز أو التدوير، تتحول النفايات بشكل شبه يومي إلى مكبات عشوائية أو محارق بدائية، غالبًا ما تُنشأ داخل المناطق السكنية أو على أطراف المدن والقرى. هذه المكبات تُطلق غازات سامة، وتفرز روائح كريهة، وتستقطب الحشرات، وتشكّل خطرًا دائمًا على المياه الجوفية والسطحية بسبب تسرّب العصارات السامة. كما تتسبب في تشويه المناظر الطبيعية وتهديد النُظم الزراعية في المناطق المجاورة.
إلى جانب ذلك، تُظهر البيانات أن ما يقارب ثلث الهيئات المحلية لا تجمع نفاياتها بشكل مباشر، بل تعتمد على أطراف ثالثة أو تمويلات طارئة، ما يخلق تفاوتًا في مستويات الخدمة، ويُضعف القدرة على التخطيط بعيد المدى. أمّا الجانب الأخطر، فهو أن عدداً من المكبات المركزية تعمل منذ أكثر من 15 عامًا دون تجديد أو مراقبة بيئية كافية، مخالفة بذلك الأنظمة التي حددت عمرها التشغيلي.
وبناء على ذلك، أطلق أول مشروع بالتعاون مع باديكو عام 2011، حيث كانت الفكرة المركزية تقوم على خطوط فرز النفايات وإعادة تدويرها باستخدام تقنيات حديثة نسبيا تتضمن فرزا آليا ويدويا كلفت نحو 3 مليون دولار. كانت هذه المقاربة متأثرة بالأنظمة البيئية الغربية التي تولي التدوير أولوية باعتبارها صديقة للبيئة ومستدامة على المدى البعيد، لكن بسبب انعدام الفرز الأولي في البيت او الشارع وكمية النفايات الزائد في المكبات، كان المشروع الاول يتخلص فعليا من 6% فقط من مجمل النفايات المنتجة.
لكن سبب فشل المشروع الأول بشكل أساسي، كان افتقار الضفة الغربية لصناعات تحويلية (اي الصناعات التي تقوم بتحويل النفايات و المواد المعاد تدويرها الى منتجات جديدة قابلة للاستعمال)، ما ادى الى الحاجة لتصدير المواد للصناعات التحويلية الخارجية خصوصا الى إسرائيل. لكن، لأسباب امنية، عطلت الإدارة المدنية الإسرائيلية العمل في المشروع، ما أدى إلى إغلاق ملفه في سنة 2013.
أما المشروع الثاني المنطلق فعليا من سنة 2023، يمثل تحولا جذريا عن الأول، لا على صعيد التكنولوجيا فقط، بل على صعيد فهم “قيمة” النفايات. فبدلا من السعي إلى تدويرها في سوق بيئي مخنوق سياسيا، بات المشروع يهدف الى تحويل النفايات الى طاقة، عبر حرقها بطريقة خاضعة لمواصفات بيئية دولية تُقلل من الانبعاثات وتولّد ما يصل إلى 40 ميغاواط يوميًا. وقد حُددت كمية النفايات المطلوب حرقها بألا تقل عن 1200 طن يوميًا، ما يعكس طموحًا بتغطية كامل نفايات شمال الضفة.
وبينما اعتمد المشروع الأول على شركة محلية خاصة في مجال التدوير، جاء المشروع الجديد مدعومًا باتفاقيات رسمية مع ائتلاف دولي، وشركة “صروح” الفلسطينية، وتمويل يقدر بـ170 مليون دولار. الأهم من ذلك، أنه جرى توقيع اتفاق رسمي بين “شركة نقل الكهرباء الفلسطينية” والجهات المشغلة لشراء الكهرباء الناتجة عن الحرق، ما يدل على إدماج المشروع في شبكة الطاقة الوطنية، ولو جزئيًا.
لكن رغم هذا التطور، فإن المشروع لا يخلو من مفارقة حرجة؛ إذ أنه يقدّم نفسه كـ”حل بيئي”، رغم اعتماده على الحرق، وهو إجراء يبقى محل جدل عالمي نظرًا لتأثيراته المحتملة على الهواء والمناخ. صحيح أن تقنيات الحرق المُستخدمة في المشروع تراعي المعايير المناخية، وتُعد من بين الأكثر تطورًا، إلا أن خيار التحويل إلى طاقة في ظل انعدام السياسات البيئية الفعالة في المجتمع، لا يلغِ الحاجة إلى تقليل إنتاج النفايات من الأصل، أو الفرز من المصدر، أو التوعية المجتمعية، بل قد يخلق وهمًا بأن “كل شيء يُمكن حرقه”، وبالتالي يُريح البلديات والمؤسسات من واجب الإصلاح الجذري في إدارة النفايات.
من جهة أخرى، لا تزال القيود الإسرائيلية قائمة، حتى وإن بدا أن المشروع الحالي يحظى بتعاون نسبي من “الإدارة المدنية”، حيث أشار المهندس أشرف عياد إلى أن التلوث البيئي في مناطق المكبات يؤثر أيضا على الأراضي في مناطق 1948، وبالتالي هناك اهتمام بهذا المشروع، لكن ليس مستبعدا أن تُمارس ضغوط سياسية إذا رأت إسرائيل أن المشروع يساهم في تقليل التبعية الفلسطينية للكهرباء المستوردة. وفي هذا السياق، يصبح المشروع عرضة للتجاذبات لا بسبب تقنيته أو تمويله، بل لأنه قد يمس جوهر العلاقة غير المتكافئة المفروضة بين المُستعمِر والمُستعمَر.
إن مشروع “زهرة الفنجان” في نسختيه، لا يمكن اختزاله في مجرد بنية تقنية أو منشأة لمعالجة النفايات، بل يُمثّل ميدانًا حقيقيًا تتقاطع فيه أبعاد السيادة البيئية، والاستقلال الطاقوي، والإرادة السياسية. فالضفة الغربية التي تعتمد بنسبة تزيد عن 90% على الكهرباء المستوردة من إسرائيل، وتفتقر إلى بنى تحتية متكاملة لإدارة النفايات، لا يمكن أن تواجه هذه الأزمات من خلال حلول موضعية أو مشاريع معزولة عن سياقها البنيوي.
الدرس الأبرز من التجربتين هو أن الإدارة البيئية لا تتحقق فقط عبر إدخال التكنولوجيا، بل من خلال بناء منظومة متكاملة تبدأ من التخطيط اللامركزي، والفرز من المصدر، وتفعيل الرقابة البيئية، وتوسيع المشاركة المجتمعية، وتوفير الدعم السياسي والمؤسسي على المستويات كافة وصياغة لوائح تنفيذية للقوانين المتعلقة بالبيئة. كذلك، فإن أي مشروع طموح في هذا المجال لا بد أن يقترن باستراتيجية وطنية لتقليل التبعية الطاقوية، عبر تنويع المصادر، والاستثمار في الطاقة الشمسية واللامركزية، وإعادة بناء العلاقة بين المواطن والبيئة على أسس من الشفافية والثقة.
أخيرًا، لا بد من الإقرار بأن التحرر البيئي لا ينفصل عن مشروع التحرر السياسي. فحين تُستعاد القدرة على إدارة النفايات والكهرباء خارج شروط الإملاء والسيطرة، يُفتح المجال لبناء اقتصاد مقاوم بحق، قادر على الاستمرار رغم الإغلاق والتقطيع والحرمان. لهذا، فإن نجاح “زهرة الفنجان” ليس اختبارًا للتقنية، بل اختبار لإرادتنا في البناء رغم الردم، والتنظيم في وجه الفوضى المفروضة، والحياة في مواجهة ما يُراد لها أن تُختزل في نفاية.
خاص بافاق التنميه..
وكالة وطن للأنباء 2025