المسار : منذ السابع من أكتوبر، لم يشعل الدمار والقتل الجماعي في غزة الميدان وحده، بل امتد ليشعل منصات الإعلام الغربي، التي لطالما كانت الحارس الأمين للرواية الإسرائيلية. بين الركام والدماء، ومع سقوط البيوت والمدارس والمستشفيات، بدأنا نلاحظ تحولا لافتا في الخطاب الإعلامي الغربي، حيث ظهرت أصوات كانت تدافع بلا حدود عن إسرائيل، مثل تاكر كارلسون وبيرس مورغان، وكأنها تكتشف فجأة ما كان أمام أعينها منذ البداية: المجازر والمعاناة الإنسانية للفلسطينيين. لكن هذا التحوّل المفاجئ لم يكن ناتجا عن صحوة أخلاقية أو عن إدراك متأخر للحقيقة، بل كان استجابة براغماتية لضغط الرأي العام الغربي الذي بدأ يربط بين الصمت الإعلامي والتواطؤ الأخلاقي في ارتكاب الجرائم، وحماية للسمعة الشخصية أمام جمهور بدأ يفقد الثقة بالإعلام التقليدي.
بيرس مورغان، الذي أمضى عقودا في مهاجمة أي صوت فلسطيني وشيطنة كل من ينتقد إسرائيل، بدأ فجأة يطالب بوقف إطلاق النار ويصف المشاهد الإنسانية في غزة بأنها “تؤثر به شخصيا”، في حين أن كارلسون، المعروف بمعاداته للعرب والمسلمين والمهاجرين، بدأ يتحدث عن “الجانب المظلم” للسياسات الأمريكية تجاه تل أبيب. لكن التحوّل هنا ليس صحوة ضمير، بل محاولة لحماية السمعة والصورة أمام جمهور صار يرى الحقيقة التي حاول الإعلام الغربي طمسها طوال سنوات. إن ما نراه ليس اكتشافا إنسانيا، بل حركة براغماتية، محاولة لإعادة تموضع شخصي ومهني، حيث يصبح الضمير أداة دفاعية، يتحرك ليس لأن الحقيقة أصبحت واضحة، بل لأن تكلفة الدفاع عن الرواية السابقة ارتفعت إلى مستوى لا يحتمل.
من منظور علم النفس السياسي والاجتماعي، يمكن تفسير هذا السلوك عبر مفهوم “التنافر المعرفي”، أي الصراع النفسي الذي يواجه الفرد عندما تتعارض قناعاته المعلنة مع الحقائق الصادمة التي يشهدها. هنا، لم يكن الصراع بين الخير والشر، بل بين المصلحة الشخصية والمهنية وبين حقيقة تكشف نفسها أمام العالم. الإعلاميون الذين اعتادوا صياغة الرواية الرسمية وجدوا أنفسهم أمام خيارين: الاستمرار في الدفاع عن الرواية الإسرائيلية ومواجهة انهيار مصداقيتهم، أو إعادة تموضع خطابهم بما يواكب المزاج الجديد للجمهور، والحفاظ على صورتهم المهنية.
هذه الظاهرة ليست جديدة؛ فقد رأينا نمطها مرات عديدة عبر التاريخ. في حرب فيتنام، دافع معظم الإعلام الأمريكي عن الرواية الرسمية قبل أن يشرعوا في نقدها بعد انكشاف الفظائع على نطاق واسع. وفي غزو العراق 2003، روج الإعلام الغربي لكذبة “أسلحة الدمار الشامل”، ثم اعترف بعد سقوط بغداد بأن الرواية كانت مضللة. وفي رواندا عام 1994، تجاهل الإعلام الغربي المجازر التي ارتكبها النظام، وظهر الندم والتصحيح بعد أن اكتملت الكارثة. حتى في جنوب أفريقيا قبل سقوط الأبارتهايد، كان الإعلام الغربي يتجنب وصف النظام بالعنصرية، قبل أن تجبر التغيرات السياسية المؤسسات الإعلامية على الاعتراف بالحقيقة. كل هذه الأمثلة تؤكد أن التحوّل الإعلامي يتبع تغير الكلفة الأخلاقية والسياسية، لا الحقيقة نفسها.
ولا يقتصر النفاق الإعلامي على فلسطين وحدها. في اليمن، ظل الإعلام الغربي يغطي المجازر ويبررها تحت شعار “التحالف لمكافحة الإرهاب”، متجاهلا سقوط عشرات الآلاف من المدنيين وتدمير المدن والبنى التحتية. في ليبيا، تجاهل الإعلام الغربي التدخل المباشر وغير المباشر للقوى الغربية، وركز على تصوير الصراع الداخلي وكأنه نزاع محلي، بينما استمر القتل والدمار. حتى في أفغانستان، حاولت الرواية الرسمية تصوير الضربات الجوية على أنها “استهداف دقيق للإرهابيين”، متناسية الضحايا المدنيين الذين سقطوا بأعداد هائلة. كل هذه الحروب تكشف نمطا متكررا هو أن: الإعلام الغربي هو أداة لصياغة رواية تضع مصالح القوى الكبرى فوق الحقيقة الإنسانية، وتغطي على الجرائم بمهارة دعاية سياسية دقيقة.
ظهور الصحافة المستقلة والإعلام الرقمي، مثل الجزيرة وAJ+ وElectronic Intifada، وكاميرات الصحفيين المستقلين في غزة، كسّر احتكار الإعلام الغربي للسردية، وأرغم المؤسسات الكبرى على إعادة النظر في تغطيتها. كما لاحظت الباحثة Roxane Farmanfarmaian أن ما يحدث ليس مجرد حرب إعلامية، بل انهيار لنظام الهيمنة المعلوماتية الغربي أمام جمهور أصبح يملك وسائل روايته الخاصة. ومع ذلك، لم يغيّر هذا التبدّل شيئا في الواقع الميداني، فالحرب الإسرائيلية في غزة حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي ممنهج، كما أكدت محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، فضلا عن تقارير هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، التي وثّقت استهداف المستشفيات والمدارس والمدنيين بلا استثناء.
بيرس مورغان وتاكر كارلسون يمثلان رمزين لنفاق الإعلام الغربي؛ الأول أمضى سنوات في مهاجمة أي صوت فلسطيني ثم ظهر فجأة كصوت “إنساني”، والثاني اعتمد تاريخا طويلا من التحريض على العرب والمسلمين قبل أن يتحول إلى خطاب نقدي محدود لأسباب سياسية داخلية بحتة. هذا يؤكد أن النفاق ليس فرديا، بل جزء من منظومة مؤسسية واسعة تضع المصلحة فوق الحقيقة. أما المواقف الداعمة لهذا النقد فهي كثيرة، من بينها ما كتبه جوناثان كوك عن خيانة الصحافة الغربية لفلسطين، أو ما نشره كريس هيدجز عن التواطؤ الإعلامي في تغطية المجازر، أو مواقف نورمان فنكلستين الأكاديمي الأمريكي اليهودي الذي فقد عمله بسبب انتقاده إسرائيل، وتقارير Columbia Journalism Review التي وثقت التحيز الواضح في التغطية الغربية لغزة 2023-2024.
التحوّل الإعلامي المفاجئ كشف أزمة أخلاقية أعمق، وهي ما يسميه الفلاسفة “الإنسانية الانتقائية”، أي قدرة الغرب على التعاطف مع الضحايا بحسب اللون والجغرافيا. هانا آرنت تحدثت عن “الشر المتجرد من الإرادة”، وجون رولز أكد أن العدالة لا تتحقق إلا عند معاملة الجميع بإنصاف، بينما أشار كريس هيدجز إلى “المسؤولية الجماعية للصمت” التي تتحملها النخب الثقافية والصحافية حين تغض الطرف عن المجازر. وكتب Slavoj Žižek: “: إن الضمير الذي لا يتحرك إلا حين تهتز سمعته ليس ضميرا، بل استثمارا أخلاقيا في سوق السمعة العامة.” كل هذه المقاربات تكشف الطبيعة الاستعراضية للتحولات الإعلامية: ضمير متأخر لا يولد إلا عند تهديد الصورة الشخصية والمهنية.
التحوّل الإعلامي بعد السابع من أكتوبر لم يضف شيئا للقضية الفلسطينية، ولم يغيّر الواقع، بل هو محاولة لإعادة إنتاج السلطة الإعلامية عند مواجهة جمهور لم يعد يثق بالخطاب الغربي التقليدي. الحقيقة الفلسطينية كانت واضحة منذ اليوم الأول، والصمت أو التضليل الإعلامي لم يغير شيئا في ما شهدته غزة. بيرس مورغان وتاكر كارلسون ليسا صحفيين اكتشفوا الضحايا فجأة، بل نموذجين حيّين لكيفية تحوّل النفاق الإعلامي حين تتغير كلفة الصمت. لقد رأى العالم الحقيقة منذ البداية، بينما ظل الإعلام الغربي يتواطأ أو يصمت، ليكتشف في النهاية أن الرواية لم تعد تحتكرها كاميراتهم وأن الضمير لم يولد إلا بعد أن أصبح الخطر على السمعة أكبر من خطر قول الحقيقة.
ولهذا، يجب أن تكون رسالة كل المناصرين واضحة: لا يغرّكم التحول الإعلامي المتأخر ولا مظهر الصحوة الأخلاقية المفاجئة. الحقيقة الفلسطينية لم تنتظر أي اعتراف غربي، وما زال الضحايا يدفعون الثمن. الاحتفال بتحولات المواقف الإعلامية هو وهم، لأن الواقع الميداني لم يتغير، والضحايا ما زالوا يُقتلون، والجرائم مستمرة. الصور الحية والفيديوهات والصور الموثقة تجعل أي فرح بمواقف جديدة مجرد وهم عدالة. الوقوف إلى جانب فلسطين اليوم يعني إدراك أن العدالة لا تأتي بالكلمات المتأخرة، وأن التضامن الحقيقي يتطلب استراتيجيات ملموسة إعلامية وأخلاقية وسياسية، لا مجرد تحولات نفاقية في الخطاب الغربي، مهما بدا ظاهرها إنسانيا. الحقيقة موجودة، والوفاء للضحايا لا يُقاس بمَن استيقظوا متأخرا، بل بما يُنجز من حماية الأرواح والدفاع عن الحق الفلسطيني، بدون انتظار مصادقة الإعلام الغربي أو اعترافه المتأخر.
إن الوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني اليوم يعني أيضا استحضار دروس التاريخ: من اليمن إلى ليبيا، إلى الانتفاضات الفلسطينية السابقة، وحتى حرب البوسنة، لم يغير الاعتراف المتأخر أو التحولات الإعلامية شيئا من مآسي الضحايا. لذا، فإن التضامن الحقيقي لا يتوقف عند كلمات المعلقين الإعلاميين أو تصريحاتهم المتأخرة، بل يرتكز على فعل ملموس، ونقل الحقيقة إلى العالم، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم. في النهاية، يبقى الضمير الحقيقي هو الذي يتحرك لحماية الإنسانية قبل أن تتحرك المصالح، والوفاء للفلسطينيين اليوم هو اختبار لمصداقية النخبة الإعلامية والمجتمع الدولي على حد سواء.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر المسار