المسار : حين يصبح الليل نهارًا، يمكن حتى للمدّعية العسكرية أن تُرفع إلى مرتبة القدّيسة المعذّبة، التي قاتلت من أجل صون القانون وحقوق الإنسان حتى أُحرقت على المذبح، ضحية بريئة لليمين الشرير. حين يصبح الليل نهارًا، تُقال من منصبها فقط حين لا تخون وظيفتها، وتتجرأ — للمرة الأولى (والأخيرة) في مسيرتها — على اتخاذ خطوة شجاعة.
لا سبيل لإشباع الوحش الذي لا يعرف الشبع: يا جنّاية، يا لواءً فوق المذابح، غطّي كل الجرائم، وادهني بالجير كل التحقيقات، واغسلي آثام جنود الجيش الإسرائيلي، وابتسمي لقادتك — ففي العثرة الأولى سيأتيكِ الوحش ليصفّي الحساب. أكان يستحقّ، يا لواء، أن تخدمي بهذا الإذعان جيش الجريمة، لتكوني نهايتك بهذه المهانة؟ ألم يكن أشرف أن تؤدّي واجبك بصدق وشجاعة، أن ترفعي صوتك، وتُقالِي مرفوعة الرأس؟ أكلتِ السمك المنتن وطُردتِ من المدينة — أكان مجديًا؟
قدّمتِ نفسك طوعًا للمسرحية الأكثر انحطاطًا — مسرح القضاء العسكري، حيث تكفي كلمة فلسطيني لتُصدر الحكم قبل أن تُسمع البينات. محكمة فصل عنصري تُدار بلا عدالة، بلا حقوق، بلا براءة واحدة في سجلّها، سوى مشهدٍ تمثيليّ رديء يجمّل واجهة نظام ظالم. وهكذا، درجة بعد درجة، صعدتِ في سلّم الرتب حتى بلغتِ منصب المدّعية العسكرية العليا، لا لتخدمي القانون، بل لتغسلي جرائم الجيش الذي خدمْتِه بإخلاصٍ أعمى. لا جهاز قضائي محترم في العالم يجرؤ على تبرير ما فعله الجيش الإسرائيلي في غزّة والضفّة، أمّا أنتِ — يا لواء — فقد فعلتِ ذلك بسرورٍ ونشاط. كنتِ محامية الإبادة، واسمك سيُكتب في سجلّها، وها هي المنظومة التي غذّيتِها بدمكِ تلفظك الآن في لحظة تافهة، لأسباب لا علاقة لها بالحقيقة.
ومن الصعب أن نفهم ما الذي جعل يفعات تومر–يروشلمي تخرج فجأة عن النصّ المرسوم لها، لتتأفّف من مشهدٍ صادم كهذا — مشهدٌ يُرى فيه حرّاس عسكريون ساديّون، لا “مقاتلين” كما يحبّون تسميتهم، ينهالون بالعذاب على معتقل فلسطيني أعزل. ووفق لائحة الاتهام، فإنّ هؤلاء الخمسة من أوحال البشر غرزوا سكاكينهم في جسده، مزّقوه من دبره، هشّموا أضلعه، وثقبوا إحدى رئتَيه — قسوة لا تُحتمل، لكنها لم تهزّ ضمائرهم إلا حين وُثّقت بعدسة الكاميرا.
كان من المهمّ أن يرى الإسرائيليون ما يقترفه جنودهم بأعينهم، خصوصًا في أجواء «كل شيء مباح للجيش» التي استقرّت منذ السابع من تشرين الأوّل. فجأة، منحتْنا اللواء لحظة صدق نادرة في هذا الخطاب المسموم. أدركت أنّ احتمال إدانة المتهمين من وحدة “القوة 100” في المناخ العامّ القائم يكاد يكون معدومًا، ولهذا سمحت بنشر الفيديو — الخطوة الوحيدة التي تستحقّ عليها وسامًا.
وحين يصير الليل نهارًا، يتحوّل المتّهمون الخمسة بالتعذيب في سجن “سديه تيمان” إلى ضحايا، والعفو عنهم في طريقه، وكأنّ من غرز السكين في مؤخراتهم هي المدّعية العسكرية نفسها. وها هو إسرائيل كاتس يفيض شغفًا بالانتقام — كم يحبّ إقالة الضبّاط الكبار، وكم تُسكره نشوة القوّة — والجميع، حتى “نداف إيال” المتّزن، يردّدون أنّ تسريب الفيديو “عملٌ خطير جدًا”. تلك هي الجريمة، وهذه هي “المجرمة”. لكن، بالله عليكم، لا تجعلوا منها قدّيسة.

