المسار : نشر المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، نتائج دراسة حول نيات الهجرة في المجتمع الإسرائيلي، استندت إلى استطلاع رأي عام شمل عينة تمثيلية ضمّت 720 مستطلَعاً يهودياً و187 مستطلَعاً فلسطينياً في الداخل المحتل عام 1948. وأظهرت نتائج الدراسة أن نحو ربع المواطنين اليهود وقرابة ثلث الفلسطينيين يفكرون في الهجرة العكسية من إسرائيل.
وفقاً لنتائج الدراسة، تُعَد درجة التدين في صفوف اليهود العامل الأكثر تأثيراً في نيات الهجرة، إذ تفكر نسبة مرتفعة بشكل خاص من العلمانيين (39%) في الهجرة، مقابل 24% من التقليديين (التقاليد والممارسات الاجتماعية والتاريخية اليهودية) غير المتدينين، و19% من التقليديين المتدينين، و15% من المتدينين، في حين تبلغ النسبة لدى الحريديم (المتشددين) 3% فقط.
العامل الثاني من حيث الأهمية بين اليهود هو العمر؛ إذ أشار 36% من الفئة العمرية ما بين 18 و34 عاماً إلى أنهم يفكرون في الهجرة، مقابل 26% في الفئة العمرية ما بين 35 و54 عاماً، و16% بين من هم في سن 55 عاماً فأكثر. وتُظهر النتائج أيضاً أن أصحاب الدخل المرتفع وأصحاب المهن ذات القدرة العالية على التنقل العالمي، يميلون أكثر من غيرهم إلى التفكير في مغادرة إسرائيل. أما وفقاً للتقسيمات السياسية، فتكشف الدراسة أن أكثر من 40% من المنتمين إلى معسكر اليسار و35% من معسكر الوسط يفكرون في الهجرة، مقارنة بـ19% فقط في اليمين (بين العلمانيين في اليمين تصل النسبة إلى 34.5%).
في معسكر اليسار، تبيّن أن العوامل الأساسية التي تدفع للتفكير في الهجرة تتمثل في الوضع السياسي وجودة الحكم، والخطة الحكومية للإصلاح القضائي/تقييد القضاء، إضافة إلى غياب مستقبل جيد للأطفال. أما في معسكر اليمين، فتتركز الأسباب الأساسية حول الدوافع الاقتصادية، وعلى رأسها ارتفاع تكلفة المعيشة وغياب مستقبل جيد للأطفال. ولا تملك نسبة كبيرة ممن يفكرون في المغادرة بين اليهود (69%) والفلسطينيين (62.5%) هدفاً محدداً للهجرة؛ المهم بالنسبة لهم هو الخروج من إسرائيل. أما 14% من اليهود و20% من الفلسطينيين فيفكّرون في الانتقال إلى الخارج لأغراض العمل.
تتوافق نتائج هذه الدراسة مع المعطيات الرسمية التي نشرتها دائرة الإحصاء الإسرائيلية المركزية بمناسبة رأس السنة العبرية في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، ومع معطيات إضافية نشرتها المؤسسة نفسها مطلع العام الحالي. تشير هذه البيانات مجتمعة إلى تزايد الهجرة السلبية (العكسية) من إسرائيل منذ أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. في مطلع العام الحالي (21 يناير/ كانون الثاني)، عُرضت في لجنة الشباب في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) معطيات وُصفت بأنها مقلقة، تتعلق بمؤشرات هجرة الشباب والعائلات الشابة خلال عام 2024. وتُظهر هذه البيانات أن إسرائيل تشهد موجة هجرة سلبية ملحوظة، إذ يغادرها عدد من الإسرائيليين يفوق بكثير عدد العائدين أو الوافدين الجدد. ففي عام 2024، غادر نحو 83 ألف إسرائيلي، في حين عاد فقط حوالي 24 ألف شخص، ما يعني رصيد هجرة سلبياً يناهز 60 ألف نسمة- وهو رقم يزيد بأكثر من الضعف عن المعدل المسجل في عام 2023.
انخفاض بنحو 42% في معدلات الهجرة إلى إسرائيل بين يناير وأغسطس 2025، مقارنة بالفترة ذاتها عام 2024
كما تُظهر بيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية انخفاضاً بنحو 42% في معدلات الهجرة إلى إسرائيل خلال الفترة من يناير حتى أغسطس/آب 2025، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2024. ويعكس هذا الانخفاض استمرار تراجع جاذبية إسرائيل وجهةً للاستقرار والهجرة، في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية السائدة. ووفقاً لبيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، فإن نحو 81% من المغادرين تقل أعمارهم عن 49 عاماً، وتشكّل الفئة العمرية بين 25 و44 عاماً النسبة الأكبر بينهم، إذ تضم في معظمها العائلات الشابة التي تغادر إسرائيل بمعدلات تُعَد الأعلى. وتُعتبر هذه الفئة من القوى المنتجة التي تشكّل ركيزة أساسية للاقتصاد والمجتمع وللقدرات الأمنية في إسرائيل، كما أن غالبيتها من الفئات العلمانية، ما يجعل استمرار هجرتها تحدياً بنيوياً له أبعاد اقتصادية واستراتيجية عميقة.
وفي مقابلة مع صحيفة معاريف الإسرائيلية بتاريخ 18 سبتمبر الماضي، عقب نشر دائرة الإحصاء المركزية معطياتها بشأن تزايد معدلات الهجرة العكسية من إسرائيل، قال البروفيسور سيرجيو ديلا-فرغولا، الخبير في قضايا الديمغرافيا: “هذه هي المرة الرابعة خلال المئة عام الماضية التي تُسجَّل فيها في إسرائيل هجرة سلبية”. يكمن القلق الرئيسي في أن الغالبية الساحقة من المهاجرين تنتمي إلى الطبقات الوسطى المتعلمة، وإلى فئات تتمتع برأس مال بشري مرتفع، وهي الفئات التي تُسهم بصورة جدية في الاقتصاد الإسرائيلي وفي دفع الضرائب وتعزيز النمو. خسارة هذه الشرائح تُعَد خسارة استراتيجية لإسرائيل، ما يستدعي التعاطي مع هذا الواقع بجدية، والسعي إلى عكس الاتجاه.
الحد من الهجرة العكسية عبر الاقتصاد
في ظل هذه المعطيات وتصاعد قلق المؤسسة الإسرائيلية من اتساع موجة الهجرة العكسية وفي ضوء التراجع الملحوظ في الاستثمارات الأجنبية في قطاع التقنيات المتقدمة- الذي يمثّل أحد المحركات الأساسية للنمو الاقتصادي في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين- إلى جانب تجميد عمليات التوظيف في هذا القطاع ونقل عدد من الشركات نشاطها إلى خارج إسرائيل، كما أشار تقرير هيئة الابتكار لعام 2025، بادرت وزارة المالية الإسرائيلية خلال الأشهر الأخيرة إلى طرح سلسلة من الخطط والبرامج الاقتصادية للتعامل مع هذا الواقع. تعكس هذه الخطط من خلال حوافز مالية إصلاحات ضريبية، إلى جانب إصلاحات هيكلية تستهدف تشجيع الاستثمار في قطاع التقنيات المتقدمة، فضلاً عن تحفيز عودة الإسرائيليين المقيمين في الخارج.
خفض ضريبة الدخل
تحاول الحكومة الإسرائيلية كذلك تقديم إغراءات للطبقة الوسطى في سياق الحد من الهجرة العكسية في إسرائيل، عبر حزمة من التعديلات والإصلاحات الضريبية التي طُرحت مطلع شهر نوفمبر الماضي، ضمن مشروع قانون التسويات وقانون الميزانية للعام المالي 2026، ومن بينها مقترح لخفض ضريبة الدخل على الطبقات الوسطى والعليا. تتضمّن الحزمة المقترحة في مشروع قانون التسويات تخفيضات ضريبية تستهدف الموظفين والعاملين من ذوي الدخل المتوسط والمرتفع، وذلك من خلال توسيع الشرائح الضريبية للفئتين الثامنة والتاسعة (أي دخل بين 16 لغاية 25 ألف شيكل شهرياً؛ قرابة 5 إلى 7 آلاف دولار) من سلم الدخل، أي للفئات المتوسطة والعليا من أصحاب الدخل.
ليس بالاقتصاد وحده
تُظهر هذه الخطط والإصلاحات الضريبية أن المؤسسة الإسرائيلية باتت تدرك الحاجة الملحّة للتعامل مع ظاهرة هجرة الطبقات الوسطى والمتعلمة، وهي الفئات التي تُعَد من أكثر الشرائح إنتاجاً وتأثيراً في الاقتصاد الإسرائيلي. ومن هذا المنطلق، تسعى الدولة إلى الحد من تفاقم هذه الظاهرة عبر استخدام أدوات اقتصادية وضريبية وتخصيص ميزانيات تحفيزية تستهدف تعزيز استقرار هذه الفئات وإبقائها داخل إسرائيل. ويوضح ذلك أن إسرائيل، رغم تراجع دور الدولة في إدارة الاقتصاد خلال العقود الأخيرة، ما تزال تستخدم السياسة الضريبية أداةً فاعلة للتدخل الاقتصادي، سواء من خلال تشجيع الاستثمارات الأجنبية أو تقديم تسهيلات ضريبية لقطاعات محددة تُعَد محورية في البنية الاقتصادية للدولة، مثل قطاع التقنيات المتقدمة.
وتشير هذه الخطوات أيضاً إلى أن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو بدأت تستعد للانتخابات المقبلة (بحلول أكتوبر 2026) عبر استخدام الميزانية الحكومية لخلق انطباع بحدوث تحسّن في الوضع الاقتصادي، حتى وإن كان هذا التحسّن غير مضمون أو مستدام. مع ذلك، تقوم هذه المقاربة على افتراض ضمني بأن الأدوات الاقتصادية والضريبية قادرة وحدها على معالجة الأزمة، من دون أن ترافقها معالجة أعمق للعوامل البنيوية الأخرى، مثل الاعتبارات الأمنية والسياسية، وتزايد نفوذ الدين في المجال العام، إلى جانب تنامي الأعباء الاقتصادية والعسكرية الملقاة على الطبقات المنتجة. وترتبط هذه الأعباء بشكل مباشر باستمرار الاحتلال وتوسّع المشروع الاستيطاني.
بذلك، تتجاهل الحكومة والمؤسسة الإسرائيلية الترابط البنيوي بين الاحتلال والاستيطان من جهة، وبين تراجع الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتصاعد الهجرة العكسية من جهة أخرى، ما يجعل أي حلول اقتصادية جزئية قاصرة عن معالجة جذور الأزمة. من هنا، تبقى الأشهر المقبلة اختباراً حقيقياً لمدى قدرة هذه الأدوات الاقتصادية على كبح تفاقم ظاهرة الهجرة العكسية من إسرائيل، أو على تحفيز الإسرائيليين المقيمين في الخارج على العودة والانخراط مجدداً في الاقتصاد المحلي، فضلاً عن تشجيع الاستثمارات في شركات التقنيات المتقدّمة الإسرائيلية.
المصدر: العربي الجديد

