باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
تنهض الضفة الغربية باعتبارها أهم جبهات الإسناد لقطاع غزة، في خضم المعارك البرية إثر عملية طوفان الأقصى، كذلك تعتبر غزة أهم جبهة إسناد للضفة الفلسطينية، كلما اشتدت الحملة القمعية الإسرائيلية على سكان الضفة الغربية.
تدرك سلطات الاحتلال أن الحالة الشعبية في الضفة الغربية داعمة للمقاومة ومترابطة وجودياً مع قطاع غزة، وفي حالة غليان كبيرة، والجميع يتوقع انفجار وشيك وشامل في الضفة الغربية، فعمدت سلطات الاحتلال إلى الإغلاق الشامل للضفة الغربية، والعمل على حصار واقتحام البؤر المشتعلة في الضفة الغربية، لاسيما في جنين ونابلس وطولكرم وأريحا، تصاعدت أعمال المقاومة كماً ونوعاً، وقدمت منذ بداية العام 2023 نحو «200» شهيد إلى ما قبل عملية «طوفان الأقصى»، في 3 تموز/ يوليو 2023 جرت معركة «بأس جنين»، وأفشل المقاومون الحملة العسكرية الإسرائيلية على جنين ومخيمها، ومنعوها من تحقيق أهدافها بالقضاء على المقاومة والحد من امتدادها على كامل الضفة، فاستمرت وتصاعدت، وفي كل يوم عمليات إطلاق نار تجاه مستوطنات وحواجز عسكرية، يضاف إليها مواجهات شعبية، لا سيما في مناطق التماس والقدس، ومظاهرات في مراكز المدن، فيما تتصاعد حالة الغليان يوماً بعد يوم وفق تطور الأحداث في الضفة وفي القطاع.
تصاعدت وتيرة الحملة العسكرية الإسرائيلية الانتقامية ضد الفلسطينيين بعد أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، وبينما الأنظار تتجه نحو القطاع، تعكس ما يجري فيه صور المجازر الوحشية، والإبادة الجماعية، وسياسة الأرض المحروقة، تجري معركة هامة في الضفة الغربية حين يتصدى المقاومون للاقتحامات والاعتقال والاغتيال والتصعيد الهمجي الخطير وغير المسبوق، من قبل الجيش والشرطة الإسرائيلية والمستوطنين، حيث تشهد الضفة الغربية موجة توتر ومواجهات ميدانية بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال ومستوطنيه، بالتزامن مع الأوضاع الساخنة في قطاع غزة، إذ يخشى الاحتلال، من انتفاضة شاملة في الضفة الغربية تربك حساباته في تعدد الجبهات التي تفتح النار عليه، وتشتت جهوده العسكرية على مختلف ساحات المواجهة، ما ينبئ بعودة التسلل من الضفة إلى الأراضي المحتلة عام 1948 لتنفيذ عمليات فدائية، واستباقاً لذلك مُنع نحو 200 ألف عامل فلسطيني من العمل في أراضي الـ«48»، ضمن حرب شاملة، في جزئها الاقتصادي يراد إدخال الضفة الغربية في أزمة اقتصادية خانقة، وأخشى ما يخشاه العدو خوض معارك كتلك التي جرت في الانتفاضة الثانية العام 2000، بمشاركة جميع القوى بما فيها الشرطة الفلسطينية، انتفاضة الضفة قد تؤدي إلى حرب خطوط تماس بين المستوطنات من جهة، والقرى والمدن والمخيمات من جهة أخرى بسبب التداخل بين البلدات الفلسطينية والمستوطنات.
وتحسباً من امتداد تداعيات عملية «طوفان الأقصى» إلى الضفة الغربية يتعامل جنود جيش الاحتلال مع أهلها وسكانها ولاسينا شبانها بالقبضة الحديدية وبقسوة بالغة الشدة، حيث أغلقت كافة المعابر، وأقيمت حواجز عسكرية من أجل عزل التجمعات السكنية الفلسطينية عن بعضها، وعزز الاحتلال إجراءاته بتسليح المستوطنين، ونظّمهم بتشكيلات مليشياوية، جل عناصرها من اليمين الصهيوني المتطرف، وقد أطلق زعماء المستوطنين ميليشياتهم لإثارة الرعب في مناطق التماس، في محاولة لإجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم مما قد يرفع وتيرة العنف بالضفة المحتلة.
وخلال عام 2022 قتل المستوطنون وجيش الاحتلال 176 فلسطينياً بالضفة الغربية والقدس، إلى جانب 52 فلسطينيا استشهدوا في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، بالإضافة إلى أعداد الجرحى والمعتقلين.
ترى إسرائيل أن حسم أمر الضفة ينطلق أولاً من القضاء على المقاومة في غزة، أو على الأقل فصل الترابط النضالي والإسناد بين منطقتين وتعزيز التباعد المطلبي الاستراتيجي بين منطقتين جغرافيتين، لا تقتصر على اقتحامات الجيش والشرطة الإسرائيلية للمدن والقرى والمخيمات لاغتيال المقاومين واعتقال الناشطين وتدمير البيوت لإرهاب المواطنين الفلسطينيين، وانتشار فرق القناصة بكثافة على أسطح البنايات المطلة على المخيم، وانتشار آليات وجنود الاحتلال في مناطق واسعة بل حلّقت الطائرات المسيرة الإسرائيلية وشاهدناها في عدة طلعات في سماء مدينة جنين ومخيمها، وتكرر قصف أهداف مدنية في الضفة بالطيران الحربي الإسرائيلي، وبالمروحيات من طراز أباتشي، وإطلاق صواريخ ليس فقط من أجل إنقاذ قوات وآليات عسكرية وقعت في كمين محكم نصبه المقاومون، بل أيضاً استخدمت الطائرات المسيرة في عمليات اغتيال مطلوبين.
وفي كل مرة تحاول قوات المستعربين والجيش والشرطة الإسرائيلية الدخول إلى مناطق فلسطينية تندلع على إثرها مواجهات مع الجيش الإسرائيلي، ولا تغيب المشاركات الشعبية عن مشهد المواجهات، فالشبان بدورهم يشعلون النار في إطارات مطاطية، ويغلقون الشوارع بالحجارة، ويرشقون الجيش بالزجاجات الحارقة.
قدمت الضَّفة الفلسطينية مع نهاية الشهر الأول لمعركة «طوفان الأقصى» نحو 264 شهيداً، إثر التصعيد الذي بدأ مع معركة طوفان الأقصى 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إضافة إلى قرابة 3 آلاف جريح، وارتفع عدد المعتقلين في الضفة إلى 3200 أسيراً، وتواصل جنين الصمود في مواجهة التصعيد الإسرائيلي، وتقاوم بضراوة اقتحام قوات الاحتلال مدينة جنين ومخيمها، ويوم السبت 25/11 استشهد خمسة، وأصيب 5 آخرون بجروح في اشتباكات مسلحة بين مقاومين فلسطينيين وقوات إسرائيلية تحاصر المخيم، مما يجعل الضفة الفلسطينية في معادلة الدم المسكوب الساحة الثانية بعد قطاع غزة في عدد الشهداء والجرحى، في مرحلة عملية طوفان الأقصى.
ناقش الوزير بلينكن مع الرئيس محمود عباس الجهود المبذولة لاستعادة الهدوء والاستقرار في الضفة الغربية، بما في ذلك الحاجة إلى وقف أعمال العنف المتطرفة ضد الفلسطينيين ومحاسبة المسؤولين عنها، كيف؟. كتب بلينكن في مقال له: «بالتهديد بحظر تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة على المتطرفين الذين يهاجمون المدنيين في الضفة الغربية»، هذا على مستوى إطلاق التصريحات المجانية، أما في الإجراءات العملية، فقد باعت الولايات المتحدة إسرائيل 165 ألف بندقية لتسليح المستوطنين، والرئيس الأميركي جو بايدن لم يعمل على وقف تزويد اسرائيل بالسلاح، بينما وزير الخارجية الأميركي في زيارته الأخيرة ولقائه بالقادة الإسرائيليين قد أعطى الضوء الأخضر للاستمرار في عدوان اسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، معتبراً أن المقاومة الفلسطينية هي من اخترقت الهدنة الإنسانية صباح يوم الجمعة 1 كانون الثاني/ديسمبر، مبرراً للجيش الإسرائيلي قصف قطاع غزة واستهداف مدنييه.
من جانبه لم يقم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بإدانة عملية «طوفان الأقصى»، رغم الضغوط الكبيرة التي مُورست عليه، وبقي ملتزماً الصمت والحيادية، واكتفى تحت الضغط الدولي بإدانة قتل المدنيين من الجانبين، في مساواة بين الضحية والجلاد، وقد أثارت دعوة الرئيس الفلسطيني إلى التزام الصمت في الضفة الغربية حالة غضب برزت في المظاهرات الشعبية، كما برزت لدى أعضاء قياديين في حركة فتح، فقد اعتبرت السلطة الفلسطينية عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الذي وجه تحية لكتائب القسام وسرايا القدس، لا يمثل إلا نفسه.
وفي لقاء وزير الخارجية الامريكي بلينكن 5/11/2023، حمّل الرئيس الفلسطيني محمود عباس إسرائيل المسؤولية الكاملة على ما يحدث، وقال إن «الحلول العسكرية والأمنية لن تجلب الأمن لإسرائيل، ونطالب أن توقفوهم عن ارتكاب هذه الجرائم فوراً». ورفض رفضاً قاطعاً تهجير الشعب الفلسطيني إلى خارج غزة، ووصف ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة على يد آلة الحرب الإسرائيلية، دون اعتبار لقواعد القانون الدولي، بحرب الإبادة الجماعية، وأن ما يحدث في الضفة والقدس لا يقل فظاعة عما يجري في غزة، من قتل واعتداءات على الأرض والبشر والمقدسات، على أيدي قوات الاحتلال والمستوطنين الإرهابيين، الذين يقومون بجرائم التطهير العرقي والتمييز العنصري، ورفض قرصنة الحكومة الإسرائيلية أموال الشعب الفلسطيني.
ولأن السلطة الفلسطينية لا تملك أية خُطة للتعامل مع الحالة الأمنية المتفاقمة في الضفة الغربية، وللتعامل مع احتمال انفجار وشيك، وإزاء عجز السلطة الفلسطينية وأجهزتها عن حماية مواطنيها من توغلات الجيش أو الوقوف في وجه ميليشيات المستوطنين، فقد طالب الرئيس الفلسطيني المؤسسات الدولية بالحماية، داعياً إلى التدخل العاجل لوقف اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي وإرهاب المستوطنين المتواصل ضد أبناء شعبنا في الضفة الغربية والقدس، حيث تمارس مجموعات المستوطنين بعد تسليحها إرهابًا منظماً على الطرق الرئيسية في مناطق التماس في الضفة الغربية.
وفي هذه الظروف من القتل والاغتيال والاعتقال اليومي في الضفة الغربية والحرب العدوانية على غزة، يبدو شبان الضفة متأهبين لمواجهة واسعة مع الاحتلال، في حالة غضب عارم تشحذ طاقات الشباب الثائر، إن مثل هذه الانتفاضة ضرورة موضوعية استباقية، لأن الثمن الذي ستدفعه الضفة الغربية سيكون مكلفاً ومضاعفاً إذا نجحت إسرائيل في إخضاع غزة، حيث ستكون المعركة الحاسمة على الأرض والمقدسات، مع المستوطنين، ومع الجيش بعد أن يتفرغ من غزة، فعملية طوفان الأقصى، من حيث التسمية والعنوان، ومن حيث الأسباب والتهويد والاستيطان، تتعلق بالضفة الغربية أكثر مما تتعلق بقطاع غزة ومطالب فك الحصار عنه.
الضّفة الغربية بظروفها وموقعها وإمكاناتها قادرة أن تحوّل الضفة إلى ساحة المواجهة الأساسية، تلعب الدور البارز في إتمام معركة طوفان الأقصى، ونقلها إلى طوفان آخر سيل عارم جارف يجتاح غرب الأردن، المقاومة من يحدد مجرى الصراع، تبدع أشكالاً متطورة متصاعدة من النضال، توقع خسائر كبيرة في صفوف جنود الاحتلال ومستوطنيه.