قرار المحكمة العليا في إسرائيل.. كيف يؤثر على وحدتها وعلى الحلبة السياسية ومسار الحرب؟

كتب وديع عواودة:  في ذروة الحرب على غزة، أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا، مساء أمس الإثنين، قراراً يقضي بإلغاء تعديل قانون أساس، يعرف بتعديل قانون المعقولية، شرّعه ائتلاف نتنياهو قبل شهور، في إطار “الإصلاحات القضائية”، ما أثار جدلاً متجدداً بين المعسكرين الصهيونيّين المتصارعين على السلطة.

وكان الائتلاف الحاكم قد بادر لاستغلال أغلبيته البرلمانية في الكنيست لشطب قانون المعقولية، قبل شهور، وهو قانون تم تشريعه قبل نحو أربعة عقود، ويتيح للمحكمة العليا إصدار الأحكام ليس فقط على أساس القوانين، بل بناء على ما يعرف بفقرة المعقولية، أي أنه من حق المحكمة أن تلغي قرارات الحكومة أو قانون أساس، حتى بحال لم يكن هناك قانون تتكئ عليه المحكمة لتسويغ حكمها الذي يجعل يدها كسلطة قضائية أعلى من يدي السلطتين التشريعية (الكنيست) والتنفيذية (الحكومة).

وكان هذا القانون الخلافي قد صبّ الزيت على نار الخلافات داخل إسرائيل، طيلة العام الماضي حتى السابع من أكتوبر، ودارت حوله مواجهات وسجالات ساخنة داخل المؤسسات الحاكمة وفي الرأي العام والإعلام.

 ياريف ليفين: قرار المحكمة العليا بنشر الحكم أثناء الحرب يناقض روح الوحدة المطلوبة هذه الأيام لنجاح مقاتلينا على الجبهة

المحكمة العليا التي قرّرت إلغاء تعديل قانون الأساس المذكور بأغلبية ثمانية قضاة مقابل سبعة قضاة سوّغت قرارها غير المسبوق في تاريخ إسرائيل أولاً بالتأكيد على حقها المبدئي وعلى صلاحيتها بإلغاء قانون أساس، وثانياً باعتبار تعديل القانون يقزّم كثيراً المحكمة العليا، وكل السلطة القضائية، ما يعني أن الحكومة تتحول لسلطة استبدادية بلا رقابة وبلا مؤسسات كابحة، ما يعني تفريغ النظام الديموقراطي بمفهومه الجوهري من مضمونه.

في المقابل؛ يرى معسكر اليمين، المبادر بتشريع قانون شطب فقرة المعقولية، أن المحكمة تضع نفسها فوق منتخبي الشعب وفوق الشعب نفسه، رغم أن أياً من قضاتها لم ينتخب من قبل الجمهور، كما كان يقول وزير القضاء، ياريف ليفين، الذي عاد وعقّب بالقول إن “قرار المحكمة العليا بنشر الحكم أثناء الحرب، يناقض روح الوحدة المطلوبة هذه الأيام لنجاح مقاتلينا على الجبهة”، واعتبر أن القضاة “استأثروا لنفسهم فعلياً بجميع الصلاحيات التي من المفترض أن تكون مقسمة بشكل متوازن بين السلطات الثلاث في النظام الديموقراطي”.

ضبط النفس

كما قال ليفين إن “الحكم، الذي لا مثيل له في أي ديمقراطية غربية، لن يضعفنا. ومع استمرار المعركة على مختلف الجبهات، سنواصل ممارسة ضبط النفس”.

وفيما يواصل نتنياهو التزام الصمت، قال حزبه الليكود إنه “من المؤسف أن المحكمة العليا اختارت إصدار حكم  موجود في قلب الخلافات الاجتماعية داخل إسرائيل، في الوقت الذي يقاتل فيه جنودنا من اليمين واليسار ويخاطرون بحياتهم في المعركة. قرار المحكمة يتعارض مع إرادة الشعب في الوحدة، خاصة أثناء الحرب”.

كما عبّر حزب “شاس”، برئاسة آرييه درعي، عن أسفه، وقال، في بيانه، إن “القرار غير المسبوق والمتخذ بأغلبية صوت واحد، هو حدث مؤسف وصعب، يواصل تقويض مبدأ الفصل بين السلطات، ويضر بمكانة الكنيست، وثقة الجمهور في جهاز القضاء”.

وفي بيان صدر عن رئيس الكنيست، أمير أوحانا (الليكود)، جاء أن “من البديهي أن المحكمة العليا ليس لديها أية سلطات تسمح لها بإلغاء قوانين أساس، معتبراً أن الأمر الأكثر بديهية هو عدم جاهزيتنا الانخراط في هذا السجال ونحن في خضم الحرب”.

وكما كان متوقعاً، حَمَلَ وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير على حكم المحكمة العليا، واعتبره ضربة للمجهود الحربي، فيما دعا، في المقابل، رئيس المعارضة يائير لبيد نتنياهو لتقديم استقالته.

واحتفلت الصحافة العبرية، في أغلبيتها الساحقة، بالقرار. وذهبت صحيفة “يديعوت أحرونوت” للقول، في عنوانها الرئيس، اليوم الثلاثاء: “نهاية الثورة”. وتنقل عن قيادات في الليكود قولهم إن “الإصلاحات القضائية ماتت”.

من غير المستبعد أن يصب قرار المحكمة الماء على طاحونة نتنياهو الدعائية الساعية لاستعادة شعبيته القابعة في الحضيض الآن، نتيجة عدة عوامل، منها السابع من أكتوبر والحرب الفاشلة

وكعادتها، ظلت صحيفة “هآرتس” بعيدة عن العناوين الصاخبة، مكتفية بالقول، في عنوانها الرئيس: “العليا ألغت شطب حجة المعقولية”، مكرسة افتتاحيتها للموضوع بعنوان “الحصن لم يسقط”، في إشارة للمحكمة العليا “حامية الروح الديموقراطية” بنظرها. لكن محرر الشؤون السياسية الحربية فيها يوسى فرطر اختار عنواناً شامتاً لتحليله للحكم: “الديموقراطية بقيت رغم تحالف اللصين نتنياهو ودرعي”.

لا ديموقراطية مع الاحتلال

ويتجدد السجال بين المؤيدين والمعارضين للقانون الأساس المعدّل، ولقرار المحكمة العليا، ويعتبر كل طرف أن موقف الطرف الآخر منافٍ للنظام الديموقراطي، فالأول يرى أن تمتّع المحكمة العليا بصلاحيات واسعة أعلى من صلاحيلات الحكومة ومنتخبي الشعب هو أمر غير ديموقراطي. فيما يقول الثاني إن بقاء العليا بصلاحياتها الواسعة حيوي جداً للموازنة بين السلطات، ولصيانة الرقابة والكبح، ومنع قيام نظام استبدادي.

بيد أن نظام الديموقراطية الجوهرية في إسرائيل يبقى بكل الأحوال مشوّهاً منقوصاً، خاصة أنه معدّ للمواطنين اليهود الذين تعتبرهم إسرائيل كدولة مواطنين من الدرجة الأولى، وسواهم من المواطنين الأصلانيين، العرب، (19%) مواطنين من الدرجة الثانية، أو ضيوفاً في وطنهم، كما يستدل من قانون القومية منذ 2018. والديموقراطية لا تتجزأ، وحتى تكون حقيقية لا بدّ من مواطنة متساوية للجميع، والأهم أن دولة محتلة لشعب آخر، وتشنّ الحروب عليه، وتقترف جرائم كثيرة بحقه، آخرها الحرب الجارية على غزة، لا يمكنها أن تدعي تاج الديموقراطية.

تبعات السجال الداخلي المتجدد على الحرب

ومع ذلك، يطرح التساؤل لأي مدى يتأزم المشهد السياسي في إسرائيل؟

تشير التعقيبات المذكورة، وغيرها من الردود المتتالية، إلى أن الغضب والتحامل المتبادل ما زالا يستبدّان بالمعسكرين المتصارعين، وأن الحرب لم تجفّف مستنقع الكراهية بينهما، لكنها ستحول دون تفجّر “المواجهة الداخلية” طالما أن جبهتي الحرب في الجنوب والشمال بقيتا مشتعلتين، ولذا من المرجح جداً أن يتم إرجاء هذا الشجار الداخلي. ومع ذلك كيف سينعكس هذا الحكم القضائي على الخريطة السياسية الحزبية؟ ولأي مدى شكّل لطمة قوية مضرّة جديدة للائتلاف الحاكم ولرئيسه نتنياهو؟

 للوهلة الأولى، يظن كثيرون أن الحكم لطمة مدوية لنتنياهو والائتلاف وهيبتهم في ذروة حرب لم تحقق أهدافها بعد. لكن من غير المستبعد أن يصب قرار المحكمة الماء على طاحونة نتنياهو الدعائية الساعية لاستعادة شعبيته القابعة في الحضيض الآن، نتيجة عدة عوامل، منها السابع من أكتوبر والحرب الفاشلة.

من المرجح أن يستفز حكم “العليا” أنصار نتنياهو، خائبي الأمل منه جراء الحرب وغيره، ليعودوا للالتفاف حوله، في إطار عودة الخيول الهاربة لحظيرة نتنياهو، ولتجمع القطيع اليميني مجدداً، خاصة أن هناك انقساماً داخل المحكمة العليا بين القضاة حول هذا الحكم، ما يشجع على التمسك كل بموقفه، وما يعني أن هذا الخلاف سينعكس على كل ما هو خارج المحكمة.

من شأن هذا القرار الصادر عن “المحكمة العليا”، التي تعتبر رمزاً للمعسكر الصهيوني الليبرالي العلماني الغربي وللنخب القديمة، أن يستفز اليهود الشرقيين والمتدينين، وهم جمهور تقليدي للنخب الإسرائيلية الجديدة، وهذا ما ينتظره نتنياهو الذي يحاول الظهور بثوب الضحية.

 انعكاسات على الحرب؟

وهل سيضر القرار القضائي بالمجهود الحربي، أو ينعكس بهذه الطريقة أو تلك على الحرب؟

الحكم بدأ يشير إلى ردود فعل متعاكسة، ويبعث خلافات العام المنصرم من جديد، لكن

الحرب على غزة تبقى أكبر وأخطر من هذه السجالات الداخلية المتجددة، وموجات الحرب مرشحة لأن تعلو فوق موجة قرار العليا وتدفعه للنسيان خلال أيام،

 مع بقاء الباب مفتوحاً لحملة تحريض جديدة على “المحكمة العليا” من قبل معسكر اليمين الصهيوني.

الحرب على غزة تبقى أكبر وأخطر من هذه السجالات الداخلية المتجددة، وموجات الحرب مرشحة لأن تعلو فوق موجة قرار العليا وتدفعه للنسيان خلال أيام

تصعيد الحملة على “المحكمة العليا” الآن من الممكن أن يسرّع  خروج غانتس وأيزنكوت من الائتلاف، الموجودين في حالة تململ، وغير راضين عن طريقة إدارة الحرب، ومن رفض نتنياهو طلب الجيش بتحديد أهداف واقعية لاستمرارية الحرب على غزة، مشكّكين بحسابات نتنياهو، وهما حتى الآن غطاء لهذه الحكومة الفاشلة، لا سيّما أنهما (غانتس وأيزنكوت) قائدان سابقان للأركان وعنوانان عسكريان بارزان. وهذا من شأنه أن يؤلّب أوساطاً أوسع في الشارع الإسرائيلي ضد الائتلاف الحاكم، وضد استمرار الحرب بطريقتها الحالية، والمطالبة بوقفها لصالح استعادة المحتجزين، خاصة أنها ما زالت مكلفة وموجعة للإسرائيليين، وبدون أفق، وسط شكوك كبيرة بحسابات واعتبارات نتنياهو حيالها.

هذا الواقع يذكّر بتوقيت صدور هذا الحكم من “المحكمة العليا” في إسرائيل في خضم الحرب الوحشية، وتزامناً مع بدء تقديم طلبات لمقاضاتها في محكمة الجنايات الدولية أو محكمة العدل الدولية في هاغ، كما فعلت جنوب إفريقيا الآن.

قبة حديدة قضائية

 من غير المستبعد أن يكون صدور هذا الحكم عن “المحكمة العليا”، الآن، محاولة لحماية إسرائيل من الملاحقة القانونية الدولية، ومنحها قبة حديدية قضائية، فحتى الآن كان من المتعارف أن المحاكم الدولية تتحاشى مقاضاة دولة مشتبهة بارتكاب جرائم ما دامت تتمتع بجهاز قضائي متين ومستقل. مثل هذا القرار الصادر عن “العليا الإسرائيلية”، الذي يقلب الطاولة على رأس السلطة التنفيذية، يحمل رسالة للعالم وللمحاكم الدولية بأن هناك عنواناً للدعاوى ضد الجيش الإسرائيلي، إنْ وُجِد فلا مبرر للتوجّه لمحافل قضائية عالمية.