مقالات

كيف أعادت غزة تشكيل الرأي العام العالمي؟

منذ قامت المقاومة الفلسطينية بعمليتها الإعجازية في السابع من أكتوبر، وبعد امتصاص ردات الفعل الأولى في الدول الغربية وبعض الدول العربية المنددة بالعملية، بدأ الرأي العام عالميا يتغير لصالح القضية الفلسطينية، بعد أن كشف الكيان الصهيوني عن نواياه الحقيقية الهادفة إلى تدمير كلي أو شبه كلي للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وتصفية القضية الفلسطينية مرة وإلى الأبد.

ومنذ عملية تدمير مستشفى المعمداني يوم 17 أكتوبر، التي ذهب ضحيتها 500 مدني معظمهم من الجرحى والمرضى والمحتمين بالمكان، بدأت تتغير الاتجاهات في أنحاء العالم وتصحو على حجم المجازر والدمار الشامل وانكشاف نوايا الإبادة الجماعية. كانت الدول الغربية تردد كالببغاء «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس»، ويعني إعطاء الكيان ضوءا أخضر لارتكاب ما يشاء من مجازر. وقد وفرت الإدارة الأمريكية الغطاء للكيان، مرة وراء مرة، لاستكمال مسلسل المجازر. حتى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لم يتكلم عن هدنة إنسانية إلا بعد مجزرة المعمداني.

وللحقيقة أن هناك مواقف عربية تساوقت مع المواقف الغربية، حتى إن ممثلة لدولة عربية تحدثت في مجلس الأمن بنبرة عالية عن «الهجمات البربرية» التي شنتها حركة حماس ضد المدنيين، ولم نسمع مثل هذه اللغة عن كل المجازر التي ارتكبها الكيان ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية منذ 75 عاماً. أما بقية الدول العربية والدول الإسلامية، فقد تبلور موقفها المتخاذل في بيان قمة الرياض يوم 11 نوفمبر، الذي خلا من أي موقف عملي، وركّز على الشجب والإدانة والمناشدة. لكن الرأي العام بدأ يتغير باتجاه دعم الحق الفلسطيني وإدانة الكيان الصهيوني والدول الغربية المساندة له. وسنستعرض ثلاثة استطلاعات للرأي حول ما يجري في غزة، في الولايات المتحدة، والعالم العربي وفلسطين، لنرى كيف أن هناك تحولات جذرية وواسعة باتجاه دعم الحق الفلسطيني، وإدانة كيان الفصل العنصري والدول الغربية الداعمة للكيان.

*في الولايات المتحدة وفي استطلاع للرأي أجراه موقع هاريس التابع لجامعة هارفرد الأمريكية، عبر الإنترنت في الفترة من 13 إلى 14 ديسمبر بين 2034 ناخبا مسجلا، وكان السؤال الأساسي: «هل تعتقد أن الحل طويل المدى للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني هو أن تستوعب الدول العربية الفلسطينيين؟ أم تكون هناك دولتان، إسرائيل وفلسطين، أو أن تنتهي إسرائيل وتسلم لحماس والفلسطينيين؟ والنتيجة الصادمة التي ترعب الكيان والمؤيدين له جاءت كالتالي: يفضل 51% من المشاركين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما «زوال إسرائيل». وانخفضت هذه النسبة للمشاركين بين 25 و34 سنة لتصل إلى 24% فقط و13% لمن هم بين 35 و44 إلى أن تنخفض لنسبة 4% لمن هم فوق الـ65 سنة. ووجد الاستطلاع أن 66% من المشاركين في الفئة العمرية 18-24 عاما يعتقدون أن عملية 7 أكتوبر التي ارتكبتها حماس تشكل إبادة جماعية. في الوقت نفسه، يعتقد 60% أن الهجمات كانت مبررة بسبب المظالم الفلسطينية، ما يشير إلى أنهم يعتقدون أن إبادة الإسرائيليين مبررة. ومع ذلك، فإن معظم المشاركين أي نحو 60% فضلوا حل الدولتين للصراع. وقد أثار هذا الاستطلاع ردود فعل كبرى، واحتل عناوين الصحف والأخبار، لأنه يعبر عن تحول جذري لدى الأجيال الشابة، التي ستشكل أغلبية السكان في العقدين المقبلين.

بدأ الرأي العام عالميا يتغير لصالح القضية الفلسطينية، بعد أن كشف الكيان الصهيوني عن نواياه الحقيقية الهادفة إلى تدمير كلي أو شبه كلي للشعب الفلسطيني

*أما قياس الرأي العام في البلاد العربية فقد قام به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومقره الدوحة، في الفترة بين 12 ديسمبر 2023 و5 يناير 2024. لقد أجري الاستطلاع في 16 بلدا عربيا هي: موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان واليمن وعُمان وقطر والكويت والسعودية والعراق والأردن ولبنان والضفة الغربية في فلسطين، وهذه البلدان تمثل 95% من سكان المنطقة العربية. وكان حجم العينة متساوية في كل بلد، وتضم 500 مستجيب ومستجيبة أي ما مجموعة 8000 شخص. وقد أظهرت نتائج الاستطلاع أن المواطنين العرب يتعاملون مع هذه الحرب على أنها تمسّهم مباشرة، وأن 97% منهم يشعرون بضغط نفسي، وأن 80% يتابعون الأخبار باستمرار. كما اعتبر 35% من المستجيبين أن السبب الأهم للعملية هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، في حين اعتبرها 24% دفاعاعن المسجد الأقصى، ورأى 8% أنها نتيجة لاستمرار حصار قطاع غزة. وحول مشروعية تلك العملية؛ فقد تَوافق 67% من الرأي العام العربي على أن العملية هي عملية مقاومة مشروعة، واعتبرها 5% فقط أنها عملية غير مشروعة. هنالك إجماع عربي على التضامن مع الشعب الفلسطيني؛ حيث توافَق على ذلك 92% من المستجيبين؛ فقد عبّر 69% منهم عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في غزة وحركة حماس، في حين أفاد 23% أنهم متضامنون مع الشعب الفلسطيني، وإن اختلفوا مع حماس، وقال 1% فقط إنهم غير متضامنين.

وقد أظهر الاستطلاع حدة انتقاد السياسة الأمريكية ووصل عدد المعارضين لتلك السياسة 94% وهذا ينسحب بدرجات أقل قليلا على سياسات بريطانيا وألمانيا وفرنسا. وهناك شبه إجماع يصل إلى 92% يعتبر أن القضية الفلسطينية قضية جميع العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، مقارنة بنسبة 76% في نهاية عام 2022. وارتفعت ارتفاعا ملحوظا في بعض الدول؛ ففي المغرب ارتفعت من 59% في عام 2022 إلى 95%، وفي مصر من 75% إلى 94%، وفي السعودية من 69% إلى 95%. ويرفض 89% من المستجيبين العرب أن تعترف بلدانهم بإسرائيل، مقابل 4% فقط يوافقون على ذلك. وقد ارتفعت نسبة الذين يرفضون الاعتراف من 84% في استطلاع 2022 إلى 89% في هذا الاستطلاع. ومن المفيد الإشارة إلى أن نسبة الذين يعارضون الاعتراف بإسرائيل في الرأي العام السعودي ارتفعت، من 38% في 2022 إلى 68%، وكذلك الأمر في السودان من 72% في 2022 إلى 81%، وفي المغرب من 67% في 2022 إلى 78%، وهذا ارتفاع جوهري يعكس رفض التطبيع على المستوى الشعبي.

*وعن الرأي العام الفلسطيني فقد قام بقياسه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في الضفة الغربية وقطاع غزة، في الفترة ما بين 22 نوفمبر و2 ديسمبر 2023. أي بعد قيام حماس بشن هجومها الكبير يوم 7 أكتوبر. وقد أجريت المقابلات مع سكان قطاع غزة أثناء فترة وقف إطلاق النار في مراكز الإيواء والبيوت. وبلغ حجم العينة في هذا الاستطلاع 1231 شخصاً، منهم 750 في الضفة الغربية و481 في قطاع غزة، وتمت مقابلتهم وجهاً لوجه في 121 موقعاً، تم اختيارها بشكل عشوائي لتكون تمثيلية لسكان المنطقتين. وبلغ مجمل عدد المقابلات في مراكز الإيواء 250 مقابلة، وأجريت 21 مقابلة أخرى في بيوت أقارب وأصدقاء للنازحين القادمين من الشمال، وأظهر الاستطلاع زيادة في التأييد الشعبي الواسع لقرار حماس بشن هجوم السابع من أكتوبر، لكن الأغلبية الساحقة تنكر قيام مقاتلي الحركة بارتكاب فظائع ضد مدنيين إسرائيليين. ويظهر الاستطلاع زيادة شعبية حماس وتراجع مكانة السلطة الفلسطينية وقيادتها، لكن الأغلبية تبقى غير مؤيدة لحماس. ترتفع نسبة تأييد العمل المسلح، خاصة في الضفة الغربية وفي مواجهة المستوطنين، لكن التأييد لحل الدولتين يرتفع قليلاً. الغالبية العظمى تدين مواقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، وترى أنها فقدت بوصلتها الأخلاقية. وارتفعت نسبة التأييد لحركة حماس أكثر من ثلاث مرات في الضفة الغربية، مقارنة بالوضع قبل ثلاث أشهر وترتفع هذه النسبة في قطاع غزة أيضا ولكن بشكل محدود. رغم هذا الارتفاع فإن الأغلبية الفلسطينية في كل من الضفة والقطاع تبقى غير مؤيدة لحماس. وبالنسبة لتأييد الرئيس محمود عباس وحركة فتح تنخفض بشكل ملحوظ، وتهبط أيضا نسبة الثقة بالسلطة الفلسطينية بمجملها، بل تزداد نسبة المطالبة بحلها لتقارب 60%. كما ترتفع نسبة المطالبة باستقالة الرئيس عباس لتبلغ حوالي 90%، بل وأكثر من ذلك في الضفة الغربية. رغم كل ذلك، فإن الشخصية الفلسطينية الأكثر شعبية تبقى مروان البرغوثي، من حركة فتح، حيث لا يزال قادراً، حتى في هذه الظروف الراهنة، على الفوز على مرشح حركة حماس إسماعيل هنية، أو أي مرشح آخر. وترتفع نسبة تأييد العمل المسلح عشر درجات مئوية مقارنة بالوضع قبل ثلاثة أشهر، حيث تقول نسبة تزيد عن 60% إنه الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال، بل ترتفع هذه النسبة في الضفة الغربية لتقترب من 70%.

والخلاصة أن حرب الإبادة على غزة كشفت مقدار انفصام الطبقات السياسة والسلطات والحكومات عن مشاعر وهموم وآراء الشعوب. وقد علمنا التاريخ أن الغلبة في النهاية ستكون لصالح الشعوب ضد الطغاة وحكام الاستبداد.

كاتب فلسطيني

 

كلمات مفتاحية

عبد الحميد صيامالاستطلاعاتالرأي العامغزة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

 

التعليق *

 

الاسم *

البريد الإلكتروني *

الكروي داود النرويج:

يناير 18, 2024 الساعة 10:16 م

” رغم كل ذلك، فإن الشخصية الفلسطينية الأكثر شعبية تبقى مروان البرغوثي، من حركة فتح، حيث لا يزال قادراً، حتى في هذه الظروف الراهنة، على الفوز على مرشح حركة حماس إسماعيل هنية، ” إهـ

أنا أعتقد بأن الدكتور مصطفى البرغوثي أفضل منهما !

خاصة وأنه سياسي فلسطيني مستقل !!

ولا حول ولا قوة الا بالله

 

رد

الكروي داود النرويج:

يناير 18, 2024 الساعة 10:17 م

مصطفى كامل مصطفى برغوثي سياسي وطبيب واستاذ جامعي وكاتب فلسطيني، ولد في مدينة القدس عام 1954 وتنحدر أسرته من قرية دير غسانة في شمال رام الله.

 

في سنة 2005، ترشح لمنصب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، منافساً لمحمود عباس. كما عين وزيراً للإعلام في حكومة الوحدة الوطنية بقيادة إسماعيل هنية.

– ويكيبيديا –

 

رد

أمحمد الدزايري:

يناير 18, 2024 الساعة 11:11 م

عملت أجهزة الدعاية و الإعلام الصهيونية و الغربية تحت إشراف الحكومات و السلطات على محاولة تضليل الرأي العام العالمي بعد 7 أكتوبر بواسطة السلطة الرابعة التي تملكها، فكانت تمثل في الحقيقة الرأي الخاص العالمي و ليس الرأي العام العالمي ، لكن بعد مدة إتضح للعالم أنها جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني و تلاشى تأثير المؤسسات الإعلامية بفضل منصات التواصل الإجتماعي رغم الرقابة عليها .. و كأن الذكاء الإصطناعي يسير مع الحق و يرفض الباطل . و تبقى مواقف الدول متباينة و مختلفة أما الشعوب فإنها على رأي واحد ، و خير مثال على ذلك هو ثورة الجزائر ، فقد كانت مواقف الدول الأوروبية و الحلف الأطلسي كلها تساند فرنسا ، و الغريب في الأمر الذي يجهله الكثير أن هناك بعض الدول العربية أيدت إحتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 و تواطأت و ساعدت فرنسا في غزو الجزائر .. و تلك الأيام نداولها بين الناس .

 

رد

جمال:

يناير 18, 2024 الساعة 11:19 م

ألإحصائيات تشير الى التغيير في الوجدان الإنساني نحو حرب الإبادة التي تتواصل ضد الشعب الفلسطيني منذ 100 عام ولكن ما حدث في 7 أكتوبر وضع الحرب هذه في البؤرة وفي إطار زمني قصير جدا فأصبحت في مرمى البصر بكل دمارها وجرائمها ودمويتها… ولكنها هي نفسها التي بدأت منذ وعد بلفور ,ومع أول “قبانية”ولكن على وتيرة تخطيها عين الرقيب ولكن الفلسطيني كان يتجرع مرارتها على دفعات متباعدة في الزمن والجغرافيا (على ضيقها) ولكن الآن جمعتها غزة في زمن واحد وبقعة واحدة

 

رد

عمر علي:

يناير 18, 2024 الساعة 11:39 م

شكرا ً على هذا المقال الرائع والعلمي.

 

رد

الشاعر السعيد:

يناير 19, 2024 الساعة 12:58 ص

شكرا دكتور عبد الحميد لهذا المقال الثري جدا. فعلا، لقد تغير المزاج العالمي بشكل ملحوظ ودراماتيكي مؤخراً. ولعل من عليه ان يقلق من هذا التغير هو الكيان وداعميه. واعتقد ان الصدمة الكبرى ستكون في امريكا للحزب الديمقراطي الذي اصبحت قاعدته الشبابية تتبنى مواقف تختلف بشكل حاد عن المواقف التقليدية لهذا الحزب. كما ان العجوز الامريكي الخرف قد يجد نفسه في الانتخابات القادمة يدفع ثمن بلادته وعنصريته وانقياده الاعمى وراء نتانياهو. قانون الطبيعة يقول ان للغباء ثمن. كما ان هذا التحول في المزاج العالمي سينعكس بالتأكيد على سياسات عدد من الدول، خاصة وان هذا الجيل الشاب الذي تغير اليوم هو الذي سينتخب ممثليه في البرلمان غدا، وهو الذي سيحكم بلدانه بعد سنوات. هكذا بدأت الامور مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. فبعد ان كانت بريتوريا تتلقى التأييد من مختلف دول الغرب، وجدت نفسها بعد سنوات معزولة وتتجنبها حكومات حتى الدول التي كانت تدعمها. اصبحت كالجرب، ووصمة عار تلطخ سمعة من يقترب منها. وهذا هو المصير الذي ينتظر الكيان

غزة و الرأي العام العالمي

عندما نتحدث عن كيف أعادت غزة تشكيل الرأي العام العالمي، يجب علينا النظر إلى سياق الأحداث التي وقعت في هذه المنطقة وكيف تأثرت الصورة العامة لها. في الفترة الأخيرة، شهدت قطاع غزة العديد من الأحداث التي لفتت انتباه العالم وأثرت بشكل كبير على الرأي العام العالمي

أحد الأحداث الرئيسية التي ألقت بظلالها على الرأي العام العالمي هو النزاع الدائر بين إسرائيل وحركة حماس في غزة. خلال هذا النزاع، شهد العالم مشاهد وصور تدمي القلوب للدمار الهائل والمعاناة الإنسانية التي تعيشها سكان غزة. تكرار حدوث هذه النزاعات أثر على تشكيل الرأي العام العالمي بشكل كبير، حيث برزت معاناة الفلسطينيين كقضية إنسانية تحتاج إلى اهتمام وتدخل دولي.

أدت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي دوراً هاماً في نقل الصور والأخبار من غزة إلى العالم. الصور الصادمة والتقارير الإعلامية عن الأوضاع الصعبة في غزة أثرت على مشاعر الجماهير العالمية ودفعتها إلى التفكير في الحاجة إلى حلول سلمية وعادلة لهذه الأزمة.