نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعدته فيفيان يي وإياد أبو حويلة وأبو بكر بشير وأميرة حارودة، قالوا فيه إن غزة التي لا تزيد مساحتها عن 140 ميلا، تحولت إلى مقبرة خشنة، وفي كل مبنى أو بناية هناك بشر مدفونون تحتها.
وأشار الكتاب إلى الفيديوهات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي عن شاب يبحث في أنقاض بيت صديقه، ويمسك بهاتفه بين يديه المرتجفتين لكن بدون جواب، ويقول: “يا ربي، أحمد… يا ربي”.
وفي شريط آخر، يزحف والد فوق جبل من الكتل الخرسانية الرمادية، وينادي أطفاله: “لا أسمعكم حبايبي”، ويبدأ في الفيديو الذي تأكدت الصحيفة من صحته، بمحاولة ثانية وينادي “سلمى” ويصرخ وهو يضرب بيده المغبرة “ألم أقل لك أن تعتني بأختك”.
وفي فيديو آخر، رجل يبحث في الركان عن زوجته وأولاده، رهف (6 أعوام) وعبود (4 أعوام) قبل أن يقول: “ماذا فعلت لتستحق هذا؟”.
وتقول الصحيفة إن آخر رقم قدمته وزارة الصحة الفلسطينية في غزة عن المفقودين كان 7,000 شخص، إلا أن الرقم لم يحدّث منذ تشرين الثاني/ نوفمبر. وتقول الوزارة ومسؤولو الإغاثة، إن أعدادا أخرى أضيفت إلى الرقم في الأسابيع والأشهر التي تلت.
وتم دفن البعض بسرعة بدون تسجيل أسمائهم في عداد الموتى، فيما تُركت الجثث الأخرى لتتحلل في العراء، نظرا لعدم الوصول إليها بسبب خطورة الأوضاع. وهناك من اختفوا وسط الفوضى والقتال والاعتقال الإسرائيلي. أما البقية، فيُحتمل أنهم لا يزالون عالقين تحت الأنقاض.
وتضاعفت أكوام الأنقاض منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. فبعد كل غارة جوية، يتجمع المسعفون أو من يُعتقد أنهم مسعفون، وهم أفراد في الدفاع المدني وأفراد العائلة والجيران حيث يحاولون الحفر وسط حطام البيوت والبنايات. إلا أن الآمال تتلاشى بسرعة، ويُعثرون على الأشخاص الذين يبحثون عنهم في الأنقاض بعد أيام وأسابيع أو بعد أشهر.
ويشكل المدفونون تحت الأنقاض حصيلة ظل في غزة، ونجمة رمادية في أرقام وزارة الصحة التي سجلت الحصيلة بأكثر من 31,000 ألف شهيد، ويظلون جرحا مفتوحا لعائلاتهم التي تنتظر معجزة للعثور عليهم. وقد قبلت معظم العائلات بأن المفقودين هم ميتون، ومن غير الواضح إن كانت التقديرات الخاصة عن المفقودين تنعكس في الأرقام الرسمية.
ومن الصعوبة بمكان البحث عن جثث في الحطام وسط القصف المتواصل وتبادل إطلاق النار والغارات الجوية. وفي بعض الأحيان، تكون عملية البحث صعبة نظرا للمسافة البعيدة التي تفصل أفراد العائلة الذين غادروا بحثا عن أماكن آمنة. وتظهر الصور التي جاءت من غزة، رغبة العائلات في استعادة الموتى يوما ما، فقد كتب على بناية مدمرة: “عمر الرياتي وأسامة بدوي تحت الأنقاض”.
وقال سالم قاسم، الذي فرّ من بيت حانون نحو جباليا: “عائلتي تحت الأنقاض منذ أربعين يوما ولا نستطيع الوصول إليهم”. وقال إنه سارع نحو بيت حانون ليكتشف أن بيت والده المكون من ثلاثة طوابق دمر تماما. ولم يستطع العثور على والده ولا زوجة والده وأخواته وأخيه.
وحاول سالم الحفر لكنه توقف بعد تعرض الحي لقصف جديد، وحتى لو استطاع تجنب الجيش الإسرائيلي الموجود في المنطقة، فلن “يعثر على جثث ولكن رماد” كما قال.
وعندما تنهار البنايات المتعددة الطوابق، فمن الصعب تمشيط تلة الأنقاض بدون آليات ثقيلة، وهي غير متوفرة في العادة. وتعاني غزة منذ سيطرة حماس على الحكم في 2007، من حصار شامل فرضته إسرائيل ومصر، ويُحظر دخول المعدات الثقيلة المستخدمة في عمليات الإنقاذ بعد الكوارث الطبيعية مثل الزلازل أو الدمار الشامل.
ويقول أحمد أبو شهاب، من الدفاع المدني، إنه لا يعرف إلا عن آليتين متوفرتين للحفر. وفي غياب المعدات الثقيلة، يعتمد عمال الإنقاذ على المجارف والمثقاب وأيديهم، وهي مهمة قاتمة وطويلة يقوم بها رجال غاضبون أو فاقدون لعائلاتهم بدون طعام أو شراب أو فرصة للراحة.
وقال أبو شهاب إنه استخدم وفريقه في الخريف جرافات وحفارات لإخراج العشرات من بناية متعددة الطوابق دمرها القصف، وكانت عملية طويلة ولم يصلوا إلى العالقين في الأنقاض إلا بعد 48 ساعة، وكانوا كلهم قد فارقوا الحياة. وقال أحمد إسماعيل (30 عاما) من مخيم النصيرات، إن غارة جوية دمرت في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر بناية متعددة الطوابق، ولم تستطع الجرافات الوصول إلى المكان بسبب ضخامة الركام وصعوبة الطريق. ولم تنج سوى عائلتين في البناية المحاذية، فيما قتل العشرات بمن فيهم أطفال.
وقال إسماعيل الذي يعمل ممرضا إن قريبته كانت من بين القتلى. وفرّت العائلة الممتدة من حي الشيخ رضوان، ولكنها قررت أن توزع نفسها على عدة أماكن، حسب قول إسماعيل. واستطاع المنقذون إخراج بعض الجثث من الطابق الثاني عبر الحفر بأيديهم، إلا أن قريبة إسماعيل، سلوى وأحد أولادها وشقيقها محمد لا يزالون تحت الأنقاض، إضافة لخمسة أفراد من العائلة التي استضافتهم.
ولم تساعد الجرافة، فبعد أن نظفت الشارع أخبر السابق المنقذين أن الوقود قد نفد. ولم يعد الاتصال برقم 101 للطوارئ مجديا، لأن شبكات الاتصال ضعيفة ومتقطعة وغير عاملة. وبدلا من ذلك، خاطر العديد من الناس بحياتهم وذهبوا بأنفسهم إلى الدفاع المدني طلبا للمساعدة. وحتى لو وصلوا، فإن نقص الوقود واستمرار القتال يعني أن سيارات الإسعاف والدفاع المدني لن تكون قادرة على التحرك في غزة.
كما أن احتلال إسرائيل لشمال القطاع ومدينة غزة، منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى هناك، ولا يمكن عمل شيء للرد على مكالمات 101 من تلك المناطق. وقالت المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، نيبال فرسخ: “للأسف، نشعر بالعجز لأننا لا نستطيع الوصول إلى تلك المناطق” و”لا يزال آلاف الأشخاص عالقين تحت الأنقاض، وقد ماتوا الآن بسبب طول المدة”.
وكانت نيفين المدهون (40 عاما) في مدينة رفح عندما علمت أن غارة إسرائيلية ضربت بناية كان فيها شقيقها مجد وعائلته في الشمال. وشعرت بدافعية للذهاب والبحث في الأنقاض مستخدمة يديها، لكنها لم تستطع لأن الجيش الإسرائيلي عزل الشمال عن الجنوب. وذهب أقارب آخرون للبحث حيث ناشدتهم للعثور ولو على ناج واحد. وكانت العملية طويلة حيث عثر على سوار (14 عاما) لاعبة كرة السلة والتي كانت تحلم بأن تصبح مدربة. وتقول: “عندما علمت أنهم ماتوا بدأت بالبكاء والصياح، لكن لا أحد يسمعك في مكان غريب” و”لكن عندما قالوا إنهم أخرجوهم شعرت ببعض الراحة لأن الكثيرين لم يُنتشلوا”. ودفنوا جميعا في مقبرة العائلة ببيت لاهيا، وتأمل بزيارتهم يوما ما.