دولي

تصاعد التضييق الرسمي في ألمانيا على منتقدي دولة الاحتلال الإسرائيلي: إلغاء الاجتماعات وتجميد الحسابات تحت مظلة مكافحة “معاداة السامية

يشعر المزيد من منتقدي دولة الاحتلال الإسرائيلي في ألمانيا بالتضييق الرسمي من قِبل حكومة أولاف شولتز، وهو تضييق أصبح يتخذ أشكالاً من إلغاء وفضّ اجتماعات، بعضها فكرية وأكاديمية، بالقوة عبر تدخّل الشرطة الألمانية. هذا إلى جانب أن المستوى الأكاديمي في بعض الجامعات أصبح يسير في ركب ثقافة الإلغاء باسم مكافحة “معاداة السامية”، الذي يثير سخرية أكثر من السابق لدى أكاديميين من أصل يهودي. وباتت حكومة شولتز تتخذ أخيراً مواقف أكثر تشدداً تجاه الحركة المتضامنة مع فلسطين، رافضة توجيه انتقادات حتى من المستوى الأكاديمي لسياسات دولة الاحتلال.

ولا يشمل التضييق الألماني الفلسطينيين فحسب، بل حتى الألمان وشخصيات يهودية من البلد ومن خارجه ممن يرفضون الحرب على الشعب الفلسطيني. التذرع الدائم بأن المسألة تتعلق بالخوف من أن تتحول الأنشطة المتعلقة بدعم فلسطين إلى شرعنة خطاب معاداة السامية لا يصمد حين يكون المستهدفون أيضاً من النشطاء اليهود الذين يرفضون الصهيونية. فعلى سبيل المثال، قام مصرف برلين الادخاري، في مطلع إبريل/نيسان الحالي، من دون سابق إنذار، بتجميد الحساب التابع لمنظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام العادل في الشرق الأوسط”، الذي استخدمته الجمعية في ما يتعلق بمؤتمر حول فلسطين.

و”مؤتمر فلسطين” بحد ذاته جرى استهدافه بطريقة مثيرة. فقد اعتبر زعيم مجموعة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ في البرلمان المحلي في برلين ديرك ستيتنر أنه حظر لمكافحة “معاداة السامية المستوردة” بين المهاجرين من أصل عربي. كما ناشد علناً قبل المؤتمر منظمي الحدث في برلين عدم تأجير أماكن “لمعادي السامية المقنعين”، وهو شخصية ترفع دوما شعاراً ألمانياً مفاده: “لا مكان لمعاداة السامية”، لكنه الآن يصطدم بمعارضة أكاديمية واسعة ورفض تهم بأن كل انتقاد للاحتلال يصنف تحت “معاداة السامية”. ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تمر السياسات الرسمية الألمانية في أزمة جدية في فهم التغيرات التي طرأت على مستوى الشارع والمستوى الأكاديمي، بالهروب نحو تهمة معاداة السامية لدائرة تتوسع.

مؤتمر فلسطين… استهداف يثير لغطاً

كان من المفترض منتصف إبريل الحالي احتضان برلين “مؤتمر فلسطين” لمناقشة دور ألمانيا في الحرب على غزة. لكن وزارة الداخلية الألمانية اختارت حظر دخول ضيوف مدعوين إليه. من بين من مُنعوا من الدخول كان الطبيب الفلسطيني ـ البريطاني غسان أبو ستة، إلى جانب وزير المالية اليوناني الأسبق المدافع عن الحقوق الفلسطينية يانيس فاروفاكيس، هذا إلى جانب منع الباحث الفلسطيني سلمان أبو ستة من التحدث عبر الفيديو كونفرنس، وكل ذلك بحجة أن المتحدثين الثلاثة “سينشرون أفكاراً معادية للسامية” في المؤتمر الفلسطيني الذي تعرّض لما يشبه هجمة سياسية وإعلامية.

تدخّل الشرطة الألمانية جاء “بأوامر عليا”، كما صرح بعض ضباطها لصحافيين أجانب، أي أن المستوى السياسي أصدر أوامره البوليسية تحت مسمى “حظر الأنشطة السياسية” بحق سلمان أبو ستة وفاروفاكيس، بعد توقيف الأخير في مطار برلين ومنعه من دخول البلاد أو أداء خطابه في برلين عبر الفيديو. وقانون “حظر الأنشطة السياسية” جرى تطبيقه 13 مرة في ألمانيا منذ عام 1979، وهو ما سرى على تنظيم داعش في 2014 وحركة حماس في 2023. الحظر يحصل على أساس قانون الإقامة والهجرة واللجوء، وقانونياً لا يمكن فرضه على مواطني الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك فقد جرى فرضه على فاروفاكيس، وغسان أبو ستة.

جرى تطبيق قانون “حظر الأنشطة السياسية” 13 مرة في ألمانيا منذ عام 1979

بالطبع، تثير تصرفات الساسة التنفيذيين الألمان بزعامة شولتز انتقادات ألمانية داخلية. وفي السياق، كتب الصحافي في قناة “إن تي في” ماكسيميليان بيرسيكي أنه “من الواضح أن السلطات الألمانية قررت بعد الضجة العارمة أنها أدخلت نفسها في حفرة عميقة من الاستبداد السخيف. إنهم يحاولون الآن الخروج من هذا الأمر بالحديث”. من الواضح أن الأنشطة التضامنية مع القضية الفلسطينية، حتى وإن كانت على شكل ندوة يشارك فيها كحد أقصى 200 ضيف، كما كان مقرراً مع “مؤتمر فلسطين”، باتت تصنف أنها “صادرة عن ناشطين مؤيدين لفلسطين بطريقة عدوانية، يمجدون العنف وخطابهم معاد للسامية”، كما ساقت بعض الصحف وشخصيات مؤيدة لتكميم الأفواه الأكاديمية، وخصوصاً بعد رسالة نحو 50 أكاديمياً في وقت سابق من الشهر الحالي اتهمت سياسات برلين بدعم سياسات إسرائيل.

القاعة التي كانت ستحتضن “مؤتمر فلسطين” شهدت اقتحاماً أمنياً، ونزع ضباط الشرطة الميكروفونات ومكبرات الصوت، بل وقطعوا التيار الكهربائي عنها. منع حديث الضيوف في قاعة لا تتجاوز مساحتها 200 متر مربع يشير إلى أن برلين تعيش أزمة حقيقية في سياساتها التي لا تفرق بين انتقاد دولة الاحتلال وشعار “منع معاداة السامية”. وما أرعب ساسة برلين أن “مؤتمر فلسطين” رفع شعار “نحن نتهم”، وذلك لمناقشة دور السياسة الألمانية في مساندة حرب الإبادة في غزة.

“معاداة السامية”… تهمة تثير سخرية أكاديمية

معرفة من يدعم “مؤتمر فلسطين” وانتقاد سياسات “الأصدقاء في إسرائيل”، كما يردد شولتز في مواقفه المثيرة اليوم للجدل عن حكومة بنيامين نتنياهو، ينهيان سريعاً كذبة معاداة السامية. ومن بين منظمي مؤتمر مناقشة سياسات برلين كانت جمعية “الصوت اليهودي من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط”، إلى جانب حزب يساري منشق عن “دي لينكه” يسمى “ريفولوشناري لينكه”، وحركة المقاطعة “بي دي غس” والحركة الديمقراطية الأوروبية. ربما ما أثار ذعر الراغبين بمحاصرة العمل التضامني مع فلسطين أن تلك المنظمات، مع غيرها، تطالب بوقف كامل لصادرات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل واستئناف المساعدات لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى “أونروا”. الوقوف لأعمى مع إسرائيل ليس تهمة محلية الآن، بل إن حكومة شولتز متهمة من نيكاراغوا أمام محكمة العدل الدولية بالتواطؤ في الإبادة الجماعية. وبعض النشطاء من “الصوت اليهودي” اعتبروا تهمة معاداة السامية “سخيفة”، كما صرح للصحافيين في برلين رئيس تلك المنظمة فيلاند هوبان.

في وقت سابق، نُشر بيان على موقع النظرية النقدية في برلين وقّعه نحو 50 مثقفاً، بينهم أسماء مثل الفيلسوفين أكسل هونيث وكريستوف مينكي وعالم الاجتماع هارتموت روزا، ينتقد قرار جامعة كولن إلغاء منح درجة الأستاذية المرموقة “ألبرتوس ماغنوس” (أحد أعظم العلماء الألمان في العصور الوسطى) لهذا العام للفيلسوفة الأميركية نانسي فريزر. ومع أن الأخيرة أكاديمية كبيرة في نيويورك، وكان يفترض أن تلقي محاضرتين في كولن في مايو/أيار المقبل حول نقد الرأسمالية، إلا أن موقفها من محاولات ألمانية “للحد من النقاش العام والأكاديمي حول إسرائيل وفلسطين، وبخطوط حمراء حددتها الحكومة”، جعل الجامعة تتراجع عن تكريمها. تذرعت الجامعة بتوقيع فريزر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على بيان “الفلسفة من أجل فلسطين”. وأيّدت فريزر وجهة النظر القائلة إن إسرائيل هي “دولة فصل عنصري” وإن سكان غزة هم ضحايا “الإبادة الجماعية”، وعلى دعوة الأكاديميين في جميع أنحاء العالم إلى مقاطعة أكاديمية وثقافية للمؤسسات الإسرائيلية.

بعض النشطاء من “الصوت اليهودي” اعتبروا تهمة معاداة السامية “سخيفة”

وأخيراً، رفضت شخصية مهمة أخرى في اليسار الأكاديمي الأميركي، الفيلسوفة جوديث بتلر، أن تصف الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر الماضي بأنه “هجوم إرهابي” و”عمل معاد للسامية”، بل اعتبرته بدلاً من ذلك “انتفاضة” و”عمل مقاومة مسلحة”. جماعات الضغط الصهيوني في ألمانيا دعت حكومة مدينة فرانكفورت إلى تجريد بتلر من جائزة “تيودور أدورنو”، التي حصلت عليها عام 2013، هذا بالطبع إلى جانب رفض منح جائزة “هانا أرندت” للكاتبة الروسية الأميركية ماشا جيسن التي يعتبرونها معادية السامية. علماً أن فريزر وجيسن وبتلر لديهن خلفية يهودية.

المقلق عند حكومة شولتز ليس فقط “مؤتمر فلسطين” الذي تعرض لإلغاء بوليسي خالص، بل اتساع نطاق معارضة ثقافة الإلغاء التي تُنتهج في برلين. ففريزر وغيرها، ولرمزية الخلفية اليهودية، يرفضون محاولات إسكات الأصوات الناقدة للاحتلال الإسرائيلي والدعوة إلى مقاطعته، ما يثير مخاوف توسع المقاطعة الأكاديمية والثقافية. بل إن فريزر اعتبرت في مقابلة مع صحيفة “فرانكفورتر روندشاو” أن الدفاع عن إسرائيل باسم معاداة السامية “يبدو دفاعاً أجوفاً”، معتبرة طلب جامعة كولن توضيح موقفها “أمراً وقحاً، فلماذا عليّ أن أفعل ذلك؟ أنا شخص حر ويمكنني التوقيع على البيانات التي أريدها”.

واتهمت فريزر السياسة الألمانية بأنها تقيّد الحرية الأكاديمية وحرية الرأي والتعبير والمناقشة المفتوحة. وذهبت إلى اعتبار أن ألمانيا “مصابة بحمى على حساب الأوساط الأكاديمية”، داعية الألمان إلى “أن يفهموا مدى تعقيد واتساع نطاق اليهودية وتاريخها ومنظورها، بدلاً من تقديم تعهد غير مشروط بالولاء لإسرائيل”. وشددت على أنه “ليس من مسؤولية ألمانيا أن تتحمل وطأة حكومات إسرائيل في كل شيء”. كما شددت فريزر على أنه “لا يمكن لإسرائيل أن تكون وكيلاً لتراث اليهود، بل على العكس من ذلك، فإنها من خلال تصرفاتها الحالية، ترتكب خيانة لما يمكن أن أسميه الجوانب الأكثر أهمية في اليهودية، اليهودية كتاريخ ومنظور وفكر”. وأضافت: “أنا أتحدث عن يهودية موسى بن ميمون وسبينوزا، وعن سيغموند فرويد وهاينريش هاينه وإرنست بلوخ. التقليد اليهودي الذي لن يختزل اليهودية في القومية المتطرفة التي تدمر قطاع غزة”.