د. فهمي دندن: مؤتمر الجبهة الديمقراطية.. انتصار على الواقع وتحدياته ودليل على أن الفلسطينيين شعب حي يستحق الحياة

د. فهمي دندن

جمعتني جلسة نقاش مع عضوي لجنة مركزية تم انتخابهما مؤخرا من المؤتمر الاخير الذي عقدته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، واعلنت نتائجه في مؤتمر صحفي عقدته في العاصمة اللبنانية بيروت. وقد كنت على علم، بحكم قربي من بعض اعضاء الجبهة، ان هناك عملية مؤتمرية تجري، لكن لم اكن اتوقع ان هناك امكانية فعلية لانجاز اعمال هذا المؤتمر وفق ما هو مخطط له..

وكأي فلسطيني او متابع لتطورات الصراع مع الكيان الصهيوني، انتابني الشك، وكان لدي الكثير من التساؤلات حول الآليات التي ستعتمدها الجبهة لانجاز هذا المؤتمر، الذي قال بيانه الختامي انه امتد لعام كامل، اي قبل معركة “طوفان الاقصى”، ودفعني الفضول الكبير لان اسمع من هذين العضوين بعض الاجابات عن  اسئلة مطروحة، بحكم تعقيدات الواقع الفلسطيني السابق والمستجد، وقد اجادا في استعراض العملية المؤتمرية، ما بدد لدي كل ما كنت اجهله عن بعض تفاصيل هذا المؤتمر..

فان تعقد فعالية مؤتمرية تقليدية، فهذا امر عادي. لكن حين تشمل هذه الفعالية كل تجمعات الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزه، وفي تجمعات اللاجئين في الدول العربية المضيفة وفي بلدان المهاجر الاجنبية، فهذا هو التحدي الذي قبلته الجبهة الديمقراطية، وهي المعروف عنها التزامها بدورية عقد مؤتمراتها وانتخاب هيئاتها، وسبق لها وان عقدت مؤتمرات سابقة، ونجحت مؤخرا في ان تتوج عملياتها الديمقراطية بمؤتمر وطني عام عقد على حلقات، واعلن ان عدد المشاركين فيه 494 مندوباً توزعوا على مختلف التجمعات الفلسطينية داخل وخارج فلسطين.

التحدي الثاني الذي انتصب امام اللجنة التحضيرية والهيئات المعنية في الجبهة كان عملية “طوفان الاقصى” وتداعياتها التي قادت الى حرب ابادة ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، وما زالت متواصلة حتى الآن. وقد داهم هذا المستجد المؤتمر والمؤتمرين وهم في منتصف اعمال المؤتمر، بحيث كان هناك ما يشبه الاستحالة لاستكمال فعالياته، خاصة في الضفة الغربية وقطاع غزه. لكن بالرغم من ذلك تمكنت الجبهة الديمقراطية من التغلب على هذه المشكلة، عبر اللجوء لآليات تنسيق واشكال مؤتمرية موحدة، استطاعات بنتيجتها اكمال جلسات المؤتمر سواء بمناقشة الوثائق الفكرية والسياسية والتنظيمية او بانتخاب اللجنة المركزية وغيرها من هيئات..

خلال العمليات الاولى للمؤتمر، ونتيجة الزلزال الكبير المتمثل بـ “طوفان الاقصى”، طرح البعض امكانية تأجيل العمليات المؤتمرية لأشهر، نتيجة ما تعترضها من صعوبات فعلية، لكن الاتجاه الغالب، الذي كان يمثله الامين العام الجديد فهد سليمان ومعه عدد واسع من اعضاء اللجنة التحضيرية، كان مؤمنا بأهمية مواصلة العمليات المؤتمرية وبابتداع اشكال معينة للتواصل بين اعضاء المؤتمر، وبالاستفادة من مقولة “الحاجة ام الاختراعات”، وخلفية هذا الاصرار هو ان القضية الفلسطينية وبنتيجة اشتداد العدوان على قطاع غزه والضفة الغربية، كانت تشهد كل يوم تطور جديد، ما يتطلب مواكبة ما يطرح من افكار ومشاريع ومخططات واكبتها الجبهة ولحظها المؤتمر في البيان الختامي الصادر عنه مقدما عليها اجابات تم صياغتها في مبادرة سياسية قدمتها الجبهة لكافة الفصائل.

والى جانب الاستخلاصات السياسية والتنظيمية التي خرج بها المؤتمر، وبعضها يستحق ان يعمم كبرنامج عمل لكل الحالة الفلسطينية، فقد انتخب المؤتمر امينا عاما جديدا هو فهد سليمان، وسمَّى بالاجماع، عبر اللجنة المركزية المنتخبة، القائد الوطني الكبير نايف حواتمة كرئيس للجبهة، في اشارة الى وفاء الجبهة الديمقراطية لفكرها وتاريخها ورموزها ومؤسسيها، ما يؤكد قوة ومتانة وصلابة الهيئات المركزية للجبهة في التفافها حول قيادتها التي تواصل استكمال ما بدأه القادة المؤسسون، وفي مقدمتهم الرفيق القائد نايف حواتمة.

الامين العام الجديد فهد سليمان معروف في الاوساط الفلسطينية السياسية والفصائلية والشعبية، ومعروف ايضا على المستويين العربي والدولي. فقد شغل منصب نائب الامين العام لسنوات، وتولى العديد من المهمات التنظيمية والكفاحية في الجبهة، وهو رفيق درب نايف حواتمة واحد القادة المؤسسين، كما انه صاحب فكر سياسي يتميز بعمق التحليل في تناوله القضايا الفلسطينية والعربية والدولية، وهو واحد من قلة من الساحة الفلسطينية على مستوى القيادات الاولى التي ما زالت تعطي الجانب البحثي والتثقيفي والتعبوي والتوعوي اهميته، من خلال غزارة انتاجه الكتابي في الجوانب الفكرية والسياسية والتنظيمية..

عرفته جولات الحوار الفلسطيني جيدا لجهة قدرته على طرح السياسات والاستراتيجيات وصياغة المواقف الفلسطينية المعبر عنها، سواء في بيانات جلسات الحوار الفلسطيني المتعددة او جلسات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقد لعب ادوارا مهمة في معظم جلسات الحوار التي شارك فيها وفي النقاشات الثنائية والجماعية، من اجل بلورة رؤية فلسطينية موحدة، صحيح انها لم تعط مفاعليها المرجوة بعد، لكن النقاشات السابقة ارست ارضية لا يمكن لاحد تجاوزها في اية حوارات مستقبلبة، وما تم التوافق عليه في اوقات تحتاج فقط لارادة جدية لترجمتها واقعا على الارض..

وراهنا، هو اول من استشرف الخطوط العامة للمخطط الاسرائيلي الغربي وابعاده، فتم طرحها على هيئات الجبهة التي طورتها في رؤية سياسية متكاملة حددت فيها الجبهة، وبشكل مبكر، موقفها حيال ما يتم تداوله من مشاريع، كما يلي: إن الحديث عن “اليوم التالي”، إنما هو ترويج إنهزامي يقوم على إنكار المقاومة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني في غزة وفرض شروط الإسرائيلي المنتصر (زعماً) ليس على القطاع وحده، بل على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، كمقدمة لفرض شروطه السياسية بمضمونها التصَّفوي.. وعليه، فإن كافة المشاريع والسيناريوهات التي تندرج في هذا السياق مرفوضة رفضاً قاطعاً، أياً كان شكلها، وأياً كان مصدرها، فليست إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا بريطانيا، ولا أياً من الأطراف الإقليمية يملك الصلاحية في تحديد ورسم مستقبل غزة لا الآن، ولا في ما يسميه “اليوم التالي..”.

وعلى هذه الخلفية، أطلقت الجبهة الديمقراطية بعد شهر من إندلاع الحرب، أي في 5/11/2023 بالتحديد، مبادرة سياسية بعنوان “رؤية سياسية للتعامل مع التحديات الراهنة”، دعت فيها إلى إعادة النظر بالواقع الفلسطيني المستجد بعد “طوفان الاقصى” على قاعدة أن معادلات الصراع ما بعد 7 أكتوبر هي غيرها ما قبلها، ما يفترض إعتماد مبادرة وطنية شاملة ترتقي بالمسؤولية الوطنية إلى ما يستجيب للإستحقاقات الحالية والقادمة.، ثم قدمت نظرة تفصيلية للواقع الراهن وتحدياته في الرؤية التي أطلقتها في 9/1/2024 بعنوان (في ضوء ملحمة “طوفان الأقصى”… الرؤية البرنامجية الوطنية الجامعة)، ما يؤكد ان الجبهة الديمقراطية امينة على تراثها وعلى فكرها الذي دائما ما ينتج مبادرات وافكار سياسية، سرعان ما يتشكل اجماعا وطنيا حولها..

مسألة ختامية لا ينبغي تجاوزها في الحديث عن نتائج المؤتمر الوطني العام الثامن للجبهة، بعيدا عن الاستخلاصات النظرية والسياسية والتنظيمية وانتخاب الهيئات المركزية، وهي المعطيات الرقمية المعلنة من قبل المؤتمر وفي اكثر من جانب. فنسبة الحضور العام قاربت 90 بالمائة وهو رقم ليس بسيطا ويدل على التزام واضح من قبل مندوبي المؤتمر، وعلى ارادة جماعية عملت على انجاح المؤتمر، رغم كل ما حدث من معيقات، ثم الارقام المعلنة عن نسبة الاناث في قوام اللجنة المركزية الحادية عشرة (20%) ونسبة الشباب (25 %) وبلغت نسبة التجديد 25 بالمائة. وفي المكتب السياسي بلغت نسبة الاناث 22% ونسبة الشباب 14%، اما نسبة التجديد فبلغت 11%. وهذه ارقام تعكس حقيقة التكامل بين القيادة والقاعدة اللذين جهدا وعملا طيلة فترة عام لينتهي مؤتمرهم بهذه الصورة الجميلة والنتائج التي خرج بها..

المتابعة الدقيقة مع بعض مندوبي المؤتمر تؤكد ان إنعقاد المؤتمر الوطني العام الثامن لم يكن بالامر السهل، وقد واجهته الكثير من التحديات. والتغلب على العراقيل تتطلب درجة عالية من التحضير والتنسيق وتوحيد آليات العمل وتجاوز الظروف المتباينة بين إقليم وآخر. وهذا تاكيد جديد بأن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، كما قال البلاغ الختامي، تسلحت بتصميم هيئاتها ومناضليها، واستطاعت أن تعقد مؤتمرها الوطني بنجاح، وأن تستجيب لاستحقاقاته وتحدياته التنظيمية، السياسية، الإدارية والأمنية المختلفة، وأن تعزز لحمتها الداخلية، وأن تصون العملية الديمقراطية، إلتزاماً بالنظام الداخلي.. انه حقا انجاز وطني وانتصار ليس فقط على الواقع الصعب، بل وعلى التحديات التي فرضت فسها على كل الحالة الفلسطينية، وهذا ما يفسر حقيقة ان الفلسطينيين هم شعب حي ويستحقون الحياة..

دكتور جامعي فلسطيني

المصدر: رأي اليوم