عليان الهندي: إسرائيل هندست احتلالها على التهجير وتبديد حقوق الشعب الفلسطيني

عليان الهندي: إسرائيل هندست احتلالها على التهجير وتبديد حقوق الشعب الفلسطيني

صادف هذا الأسبوع ذكرى انقضاء 57 عاما من الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدأت بحرب شاملة كسرت ظهر محور المقاومة العربي الذي قاده عبد الناصر في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وانتهت بتحييد العالم العربي من دائرة الصراع وجر غالبية إلى مستنقع التطبيع مع إسرائيل، وتكاملت باحتواء المقاومة الفلسطينية لاحقا والالتفاف على مطالبها بالعودة وتقرير المصير، ومسخها إلى حكم ذاتي مقطع الأوصال، حاصر الفلسطينيين داخل معازل وكانتونات في الضفة وغزة وكرّس إقامة نظام فصل عنصري – أبارتهايد، على كامل فلسطين التاريخية.

وكما هو معروف، فإن الحركة الصهيونية لم تخف أهدافها وأطماعها في فلسطين بل قامت بتوثيقها، وإن كانت قد عقدت نوعا من المساومة بالموافقة على قرار التقسيم عام 1947 فقد احتلت مساحات واسعة من الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية، وفق هذا القرار الذي صدر عام 1948، ثم استكملت احتلال ما تبقى منها عام 1967.

كما أن أطماع الحركة الصهيونية لا تقتصر على احتلال الأرض الفلسطينية والاستيطان فوقها، بل هي تعتمد سياسة محو شعبها وإزالته عبر الإبادة والتطهير العرقي والتهجير، كما فعلت في الـ48 وكما حاولت في الـ56 والـ67 وما زالت تحاول وتفشل في غزة رغم حرب الإبادة التي تشنها على شعبنا منذ أكثر من ثمانية أشهر.

الصحافي والباحث عليان الهندي تتبع في كتابه “هندسة الاحتلال – أرشيف حكومة إسرائيل عام 1967″، آلاف الصفحات الأرشيفية التي ضمت محاضر جلسات الكابينيت الأمني والسياسي، وجلسات الحكومة الموسعة، واجتماعات اللجان الوزارية المتخصصة باتخاذ قرارات وتنفيذ سياسات تتعلق بشؤون الضفة الغربية وقطاع غزة عشية وغداة حرب 1967، والتي أفرج عنها بعد مرور 50 عاما على الحرب، وشكلت أساسات بنيت عليها السياسة الإسرائيلية التي ما زالت متبعة تجاه القضية الفلسطينية إلى اليوم.

ويكتسب الكتاب الذي صدر عام 2022 أهمية خاصة على ضوء الحرب على غزة والسياسات والمخططات الإسرائيلية المرتبطة والمرافقة لها، خاصة إحياء مخططات التهجير التي يشير الكتاب استنادا إلى محاضر وقرارات الحكومة الإسرائيلية سالفة الذكر، أنها استهدفت سكان قطاع غزة عقب الحرب مباشرة وشملت عدة سيناريوهات منها التهجير إلى سيناء وإلى دول في أميركا اللاتينية.

ومن بين الخطط الموضوعة التي باشرت القرارات الحكومية بتنفيذها لتحقيق هذا الغرض فور انتهاء الحرب، قطع خط المياه الرئيسي الذي يغذي قطاع غزة لإجبار السكان على الهجرة، أو نقلهم إلى منطقة الأغوار بالقوة، وإعداد خطط تهجير إلى البرازيل أو منطقة كردستان في شمال العراق، ويشير الكاتب إلى اجتماعات جرت بالفعل مع الرئيس البرازيلي حينذاك لمناقشة تهجير سكان القطاع إلى هناك.

وفي ما يتعلق بالضفة الغربية، يشير الكتاب إلى التوصية بعدم تدمير جسر أللنبي الذي يربط الضفة الغربية بالأردن، لوجود مليون عربي (فلسطيني) في الضفة الغربية، وبهدف “إتاحة الفرصة لمن يريد الهرب إلى شرقي الأردن لفعل ذلك”، بمعنى إبقاء الباب مفتوحا للنزوح.

وفي سياق المشاريع السياسية التي جرى تداولها إسرائيليا، يشير الكاتب إلى أن أيا منها لم يتحدث عن انسحاب كامل وأنها تراوحت بين السيطرة الكاملة والسيطرة الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعاملت مع الفلسطينيين كسكان يحق لهم إدارة شؤونهم الذاتية وليس شعب يجب أن يتمتع بالسيادة على أرضه، بل إن محاضر الجلسات خلت تقريبا من استخدام مصطلح فلسطيني، واستعاضت عنه بـ”العرب” أو “عرب المناطق”.

لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع، أجرينا هذا الحوار مع الكاتب *عليان الهندي.

الكتاب يكتسب أهمية كما ذكرنا في كونه يكشف جذور السياسات الإسرائيلية الرسمية التي تظهر تجلياتها بوضوح اليوم في غزة وفي الضفة والقائمة على التنكر لوجود الفلسطينيين كشعب ومحاولة محوهم عن الخارطة السياسية وتهجيرهم من كل بقعة من بقاع تواجدهم إذا تسنى القيام بذلك…

عليان الهندي

الهندي: الكتاب هو عبارة عن قراءة في وثائق تضم قرارات ونقاشات الحكومة الإسرائيلية عام 1967، وتشمل الجلسات التي قرأتها وناقشتها حوالي 140 جلسة، جرى حجب منها بعض الأمور التي ما زالت تعتبر سرية مثل أسماء الأشخاص الذين تعاونوا مع إسرائيل، والمذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين والعرب عام 1967 وبعض الجلسات “السرية” التي لم يسمح بنشر محتواها.

يشار في هذا السياق إلى أن الأرشيف الذي أفرج عنه في هذا الموضوع عام 2017 يضم 150 ألف صفحة ويشمل صورا وأفلام وقرارات ومحاضر جلسات، بعد أن كانوا قد أفرجوا عام 2012 على جزء يسير من المواد.

وتشمل الوثائق أربعة مواضيع رئيسية: الفلسطينيون في المناطق المحتلة عام 67 والذين كانوا يسمونهم “عرب المناطق” ويمتنعون عن تسميتهم بالفلسطينيين، الحرب على سورية، الحرب على مصر، والجبهة الأردنية.

قراءتي تركزت في الموضوع الفلسطيني وكل ما يرتبط به على الجبهة الأردنية والمصرية بشكل خاص، وأول ما لفت نظري كما قلت أنه في النقاشات والقرارات لم ترد كلمة فلسطيني إلا نادرا، وكان يستعاض عنها للدلالة على الفلسطينيين بالعرب أو “عرب المناطق”، وهو ما يعطي شعور بأنهم يتحدثون عن مجموعة من القبائل والعشائر البدوية، وهو نفس المنطق الذي تحدثت به الصهيونية عام 1948.

الموضوع الثاني الذي شكل محورا أساسيا هو الترانسفير – الطرد، وكان التركيز خلاله على قطاع غزة أكثر من الضفة الغربية، فقد اعتقدوا أن غزة تشكل منطقة حيوية جدا بالنسبة لإسرائيل، خاصة أنها تبدو كما يمكن رؤيتها على الخارطة كإصبع أو سكين في نهاية الظهر لا تستطيع التحرك ببقائها.

بمعنى أن مخططات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بالذات كانت جاهزة منذ حرب 1967؟

الهندي: على مدار جلسات الحكومة التي راجعتها في الكتاب كانت مخططات التهجير حاضرة، مثلما هي حاضرة في الحرب الحالية على غزة، وبالمناسبة عام 67 تم تعيين لجنة كُلّفت بالاتصال بدول معينة لهذا الغرض، وجرى الاتصال بالبرازيل والدول التي تستقبل لاجئين مثل كندا ونيوزلندا، وكانت دعوات لنقل الفلسطينيين إلى سيناء أيضا.

لقد وجدت إسرائيل بالحرب عام 1967 فرصة سانحة لتهجير المزيد من الفلسطينيين، وكان التركيز على غزة بشكل خاص، مثلما وجدت بالحرب الحالية فرصة أيضا، لكن صمود أهل غزة أفشل هذا المخطط في حينه مثلما يفشله اليوم، وبالمناسبة، فإن الحدود مع سيناء كانت مفتوحة عام 1967 ومع ذلك لم ينزح أهالي غزة عن ديارهم.

كما أن غزة لم تشهد تاريخيا نزوح باتجاه سيناء أو مصر، ناهيك عن أن الرأي العام الدولي كان منقسما في فترة الـ67 بحكم انقسام العالم إلى معسكرين، إضافة إلى تأييد بعض الدول الأوروبية للحق الفلسطيني.

كما يجدر الالتفات لأمر آخر في هذا السياق، يرتبط بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، حيث ادعت إسرائيل بعد إجراء إحصاء سكاني للمناطق التي احتلتها عام 1967 أن الأونروا كانت تضخم أعداد اللاجئين الفلسطينيين، وسكتت عن ذلك من منطلقات مادية تتعلق بعدم رغبتها في تحمل عبء مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في حال غياب الأونروا أو تغييبها، وهي اليوم ربما تحاسب الأونروا على ذلك.

“ذكرت أن إسرائيل خافت من انطلاق المقاومة في قطاع غزة، هل لأنها اختبرت أهالي غزة لدى احتلالها السابق للقطاع عام 1956؟

الهندي: صحيح، هذا بالإضافة إلى وجود جيش التحرير الفلسطيني والفصائل الفلسطينية هناك، فكما هو معروف فإن النظام المصري بقيادة عبد الناصر كان يرعى المقاومة الفلسطينية، بعكس النظام الأردني الذي كان يقمعها.

وكما هو معروف فقد قامت إسرائيل بين عامي 67 و71، بتدمير آلاف المنازل في قطاع غزة، بهدف توسيع شوارع المخيمات ليتم اختراقها من قبل الدبابات، وقد جرى نقل أصحاب البيوت التي هدمت إلى رفح المصرية، حيث جرى بموجب اتفاقية كامب ديفيد إعادة 12 ألف فلسطيني إلى قطاع غزة.

فيما يتعلق بالضفة الغربية اشرت الى امتناع إسرائيل عن تفجير جسر “اللنبي” الذي يربط الضفة بالأردن لتسهيل نزوح الفلسطينيين؟

الهندي: كانت حركة نزوح باتجاه منطقة أريحا حيث ازدحمت المنطقة الواقعة من البحر الميت وحتى العوجة بما يقارب 250 ألف نسمة، وإسرائيل ليس أنها امتنعت عن تفجير الجسور، بل تركتها مفتوحة دون وجود قوات الجيش فيها على أمل بأن تحدث حركة نزوح، ولاحقا طلبت من كل فلسطيني يخرج أن يوقع على تصريح بأنه خارج بمحض إرادته لكي تمنع عودت

لكن بالرغم من ذلك، فإن من خرجوا إلى الأردن لم يتجاوز عددهم 250 ألف فلسطيني، أعطت إسرائيل بعد ضغوطات دولية كبيرة فترة شهر لمن يرغب منهم بالعودة ووضعت خلال تلك الفترة القصيرة الكثير من العراقيل، حيث كانت تدخل يوميا من 500 إلى ألف من مجموع أكثر من عشرة آلاف من مقدمي الطلبات، ما أسفر في النهاية عن عودة 30 ألف فلسطيني فقط.

كما أنها قامت بتهجير قرى اللطرون وعمواس ويالو وبيت نوبا، وهدمها عن بكرة أبيها، وحاولت تهجير قلقيلية الا ان التدخل الدولي حال دون ذلك.

الهندي: لقد جرى ضم القدس دون منح الجنسية لسكانها، فيما تبلورت سياسة تقضي بعدم التعامل مع الفلسطينيين سياسيا بل خدماتيا، وهو ما شكل أساسا للسياسة الإسرائيلية خلال فترة الحكم العسكري والإدارة المدنية التي انبثقت عنه ولاحقا في الأطروحات والحلول السياسية التي لم تتجاوز الحكم الذاتي الذي يقضي بإدارة السكان لشؤونهم الحياتية دون أي سيطرة على الأرض وهو ما نجحوا بفرضه في أوسلو وتكريسه على الأرض في الضفة وغزة.

هذا المفهوم ما زال يوجه السياسة الإسرائيلية، وهم لم يتنازلوا حتى بعد فك الارتباط مع غزة عن السيطرة الأمنية، وهو ما نلاحظه كثابت في جميع المداولات الجارية اليوم بشأن مستقبل غزة، من جهتهم يستطيع الفلسطينيون إدارة شؤونهم الحياتية دون السيطرة على الأرض والتمتع بحق تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة، وهو ما يشكل مقاما مشتركة لكل أطراف الحركة الصهيونية.

جدير بالذكر أن الحكومة التي وضعت هذه الأسس في الـ67 هي حكومة “الوحدة الوطنية” التي تشكلت عشية الحرب وضمت “المباي” و”الليكود “والمنشقين عن “المباي” ( بن غوريون وديان وبيرس) وهي أسس سياسة تراوحت بين الطرد الفعلي من الأرض وبين طمس الحضور الوطني والتعامل مع السكان من باب المطالب اليومية والاحتياجات الحياتية دون الاعتراف بحقوقهم الوطنية.