أهم الاخبار

استعادة الأثر: بعيون شيوعييها ؛ غزة في دفاتر معين بسيسو

خطّ معين بسيسو، الشاعر والمناضل الشيوعي الغزي سيرة مدينته بأحيائها ومخيماتها على شكل دفاتر، جاءت في أحد عشر دفترًا، نبش فيها الكاتب – الشاعر ذاكرة غزة الشيوعية ما بين أعوام 1952 – 1963…

هذه المادة هي الثانية من سلسلة بعنوان “استعادة الأثر: غزة في كتب اليوميات والمذكرات والسير”. ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمن قراءات في كتب يوميات ومذكرات وسير ذاتية خطها غزيون، أو كتبت من غزة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين.

“مات حسني بلال، موزع المناشير في حارة الفواخير الغزية وعامل النسيج من المجدل حيث قد تم احتلال كل شجرة توت… تذكروا دائمًا أن دودة القز التي تصنع الحرير هي شيوعية”؛ يقول معين بسيسو في ثالث دفتر من دفاتره، عن رفيقه حسني بلال في يوم تشييعه، أول شهيد محسوب على الحزب الشيوعي في قطاع غزة، ارتقى برصاص شرطة غزة – المصرية في تظاهرة خرجت فيها غزة المدينة عن بكرة أحيائها ومخيماتها في الأول من آذار/مارس سنة 1955 ضد مشروع مؤامرة نقل لاجئي غزة من أجل توطينهم في صحراء سيناء.

مخيّم للاجئين في غزّة عام 1956 (أرشيفيّة – Getty)

خطّ معين بسيسو، الشاعر والمناضل الشيوعي الغزي سيرة مدينته بأحيائها ومخيماتها على شكل دفاتر، جاءت في أحد عشر دفترًا، نبش فيها الكاتب – الشاعر ذاكرة غزة الشيوعية ما بين أعوام 1952 – 1963. ونشرها لتصدر بطبعتها الأولى عن دار الفارابي سنة 1978. وغزة منذ العام 1952، كانت قد غدت قطاعًا مصريًا، ولم تعد غزة اللوائية، المزنرة بقرى ريفها، إنما المطوقة بمخيمات فلاحي وبدو ذلك الريف المهجر من يافا جنوبًا، بعد أن نزح في عام النكبة ما يزيد عن 200 ألف فلسطيني لاجئ، إلى غزة التي لم يكن تعداد سكانها يزيد عن الـ 80 ألفًا، لتبدأ بذلك، المؤامرات عليها وعلى لاجئيها بحسب دفاتر بسيسو، الذي استحضر سيرة صارت شبه مغيبة اليوم، من ذاكرة القطاع والقطيعة مع تلك القطعة الجغرافية، بالرغم من أنها سيرة ظلت محفورة بالمسامير وأزرار قمصان شيوعييها على جدران سجون المصريين في حينه.

ما بين البحر والحبر

في حي الشجاعية أو السجاعية بتعبير أهله، ولد معين بسيسو الشاعر والشيوعي المناضل في سنة 1926، لأسرة ميسورة الحال، تسنى لها تدريس ثلاثة من أبنائها في إسطنبول العثمانية مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لا يحدثنا بسيسو عن طفولته وطفولة مدينته غزة قبل النكبة إلا النزر اليسير، من سيرة طفل محموم ومفطوم عن حليب أمه، ومع ذلك ظل يتسلل إلى ثدي ثلجة الغجرية معتزًا بلبنها الذي أرضعته إياه، كان لبن الغجرية بالنسبة لبسيسو حليب طفولة غزة الأصيل قبل نكبة البلاد، في مقابل مسحوق حليب الوكالة المجفف الدخيل الذي صار يوزع على أطفال مخيم البريج بعد النكبة شربًا بعد خلطه بالماء. بينما الماء في حقيقته بالنسبة لصاحب الدفاتر، هو بملوحته تلك التي ظلت تسترخي تحت جلده، منذ أن ألقاه أحد أعمامه في بحر متوسط غزة طفلًا، لم يتجاوز عمره السابعة بعد.

كان الصيد في غزة قبل النكبة، بريًا أكثر منه بحريًا، وصيد الطير لا غير، و”كيس الصياد مش إلو” بتعبير والد معين الطفل بعد كل رحلة صيد كان يعود منها برفقة أبيه إلى مجرى واد الشريعة الذي كان يفصل غزة من شرقها عن ديار بئر السبع. يومها كانت غزة تتنفس من رئتها الشرقية تحديدًا، قبل أن تبدأ الجهات الأربع بخنقها مع النكبة. ويستحضر بسيسو الشاعر، أثر ربابة السامر المنبعث أنينها من بيوت غزة، وحكواتية حكايا الزير وأبي زيد معها في تشكيل ملكة شعره المبكرة، بينما شعاره السياسي البكر “العمال هم الوطن” كان قد تسرب إلى مسامع صاحب الدفاتر، مع زيارات فؤاد نصار أمين عام “مؤتمر العمال العرب” قادمًا من حيفا إلى مدينته غزة وجلساته في مقر جمعية العمال العرب فيها، في أربعينيات القرن الماضي.

كانت أول قصيدة ينظمها غزي في غزة ما بعد النكبة، هي تلك التي كتبها معين بسيسو، وهي قصيدته البكر عن عباس الأعمر أول شهيد لحركة أنصار السلام المصرية في قناة السويس سنة 1951. وما كان لبسيسو أن ينظم ويكتب، لولا أن رماه الشيخ محمد خلوصي بسيسو بالحبر، تمامًا مثلما رماه عمه أحمد من قبل في البحر.

ما بين الحبر والدم

كان العام 1953، عامًا فارقًا في سيرة صاحب الدفاتر خاصة، وغزة عامة، فقد عاد بسيسو إلى غزة في ذلك العام بعد سنوات قضاها في مصر حاز فيها على ليسانس الآداب من الجامعة الأميركيّة في القاهرة، ثم انتقاله من بعدها في سنة 1952 إلى العراق للعمل في مهنة التعليم بمدرسة قرية الشامية من قضاء النجف، وترحيله في العام التالي من العراق على أثر نشاطه السياسي تاركًا العراق وصدى صوت تلك الشيوعية من يهود العراق يدوي في فضاء بغداد بعد ترحيلها قسرًا وسحلًا على يد عسكر نوري السعيد من موطنها إلى فلسطين، بينما كانت تصيح من على سلم الطائرة “العراق، وليس إسرائيل وطني”.

وفي الوقت الذي جرى فيه تعيين بسيسو مدرسًا في مدرسة البريج الإعدادية التابعة لوكالة تعليم اللاجئين الفلسطينيين من نفس عام عودته إلى القطاع، كانت غزة ومخيماتها تستيقظ بصورة شبه يومية من كل صباح، على جثة أحد اللاجئين الفلاحين ملقاة ومثقوبة برصاص الصهاينة، بعد محاولته التسلل ليلًا إلى حقله في قريته المهجرة خلف الأسلاك الشائكة. كان مطلع خمسينيات البلاد، سنوات المتسللين الفلسطينيين وأصابعهم المخضبة بالدم من جراء قطع الأسلاك التي كانت تفصلهم عن قراهم وحقولهم.

لم يبق غير التعليم بالإضافة للخيام ملاذًا لأبناء وبنات الفلاحين اللاجئين بديلًا عن الأرض والاقتلاع منها. وكان كل أطفال المخيمات الوسطى، البريج والنصيرات والمغازي والشاطئ والرمال قد حولوا منذ مطلع الخمسينيات صحاحير الخضار إلى ألواح، وأحجار الكلس إلى طبشور، فيما أجر المعلم كان حزمة من البصل ولفة من السمك المقدد (الفسيخ) على ما يتذكر صاحب الدفاتر. فكان حمل القلم الطريق إلى حمل البندقية في القطاع، وذلك يوم لم يكن بندقية ولا حتى مسدس واحد داخل المخيمات يقول بسيسو.

بعد أيام من انعقاد أول مؤتمر للحزب الشيوعي في غزة بأعضائه الخمسة، أقاموه في إحدى بيارات المدينة، ارتكب الصهاينة مجزرة مخيم البريج في يوم 28 آب/أغسطس سنة 1953 بقيادة أريئيل شارون في حينه. بحسب بسيسو أسفرت المجزرة عن استشهاد 26 فلسطينيًا، وكانت أولى المجازر في القطاع في الوقت الذي كانت تتحول فيه مصر من ملكيتها إلى ناصريتها. ثم تتالت الغارات الجوية الإسرائيلية على مخيمات غزة، ضمن مسعى كان يرمي إلى تنفيذ مؤامرة ترحيل اللاجئين، بعد أن اكتشف قباطنة وكالة غوث اللاجئين جزيرة وسط رمال سيناء تصلح لنقل لاجئي غزة لتوطينهم فيها بحسب صاحب الدفاتر الذي ما انفك عن تكرار تورط وكالة غوث اللاجئين بمخطط التهجير.

وكالة غوث اللاجئين – الأونروا، غزّة، عام 1956 (أرشيفيّة – Getty)

على إثر مجزرة البريج، انطلقت التظاهرات الشعبية منه، ومنها تلاميذ المدارس من مدارسهم فيه، تقدمها بسيسو المدرس والشيوعي المؤسس، محرضًا تلاميذه إلى أن تم اعتقاله في سجن غزة المركزي، ثم إيقافه عن التدريس، بينما الحزب الشيوعي صار يمشي في أزقة المخيمات يقول بسيسو.

كانت التظاهرة التي لا تشق طريقها نحو “عمر المختار” الشارع الرئيس لمدينة غزة، لا يمكن عدها تظاهرة، وبصرف النظر عن هوية تنظيم التظاهرات ومقر انطلاقها، مع العلم أن مكان احتشاد وانطلاق تظاهرات الخمسينيات في ذاكرة شيوعيي غزة كان من سينما “سامر” بحسب دفاتر بسيسو. بينما شارع عمر المختار كان بمثابة ذاكرة المدينة ومخيماتها للتجمع والاحتجاج إليه.

مخطط اللوريات

“وطني لن نهاب، الصعاب والعذاب… ارسمي من دمي ومن أصفادي، يا أيادي خريطة لبلادي”، هذا مطلع نشيد مدرسة مخيم البريج الذي كتبه معين بسيسو لينشده تلاميذه في كل صباح. وذلك ردًا على الصراخ الذي كان يملأ ويجوب مخيمات غزة الوسطى ناصحًا: “الأفضل أن تذهبوا إلى سيناء في اللوريات (الشاحنات) بدل أن تذهبوا إليها مشيًا على الأقدام” كان صاحب ذلك القول هو سعيد حمزة حاكم غزة العسكري المصري ومدير المباحث العامة فيها بحسب بسيسو.

كان أول منشور يصدره الحزب الشيوعي يعود إلى أواسط شهر شباط/فبراير سنة 1955، وكانت المناشير وقتها تصدر مكتوبة بخط اليد عادة. غير أن المكتوب بخط اليد، كان يعتبر جرمًا يستدعي ملاحقة سلطات أمن الحكم العسكري في غزة بحسب بسيسو، حتى لو كان المكتوب لا شأن له بالسياسة، مثلما صادرت السلطات المصرية من صاحب الدفاتر كتاب “طوق الحمامة” الذي أهداه إياه الشيخ محمد خلوصي بسيسو؛ لأنه مخطوط خط بخط اليد. الأمر الذي دفع بسيسو ورفاقه الشيوعيين إلى جلب ماكينة الرونيو من أجل طباعة مناشيرهم كما يقول.

جاء منشور الشيوعيين الأول، بعد أن تمكن بسيسو ورفاقه من الحصول على أول نسخة رسمية من تقرير مشروع سيناء الذي يقول بأنه من صياغة خبراء تابعين لوكالة الغوث، فيذكر: “وكان تقريرًا وقحًا ومشؤومًا، ورغم اعتراف المهندسين في الوكالة – عن استحالة الحياة في تلك القطعة من جهنم في سيناء، لقلة المياه والتكاليف الباهظة لاستصلاح الرمال، ورغم ما كتبه الأطباء في الأمراض التي ستداهم اللاجئين، والتي ستهدد حياتهم، وبالذات حياة الأطفال، حيث لا تستطيع لا عيونهم ولا رئاتهم تحمل ذلك الهواء المثقل بالغبار. إلا أن التقرير حمل موافقة الخبراء على المضي في تنفيذ المشروع، ولكنهم اقترحوا أن تتم التجربة على عشرين ألف لاجئ، ويدرس الخبراء بعدها على الطبيعة إرسال الدفعات الأخرى من اللاجئين”.

من المفارقات، بأن وكالة الغوث في حينه كانت محل شبهة في عيون اللاجئين، وتحديدًا في غزة باعتبارها جزءًا من مخطط اقتلاعهم من قراهم وأرضهم. فيما يقاتل اللاجئون اليوم على بقاء الوكالة ومؤسساتها بوصفها جزءًا من تثبيت هوية اللجوء والحق في العودة، وفي غزة تحديدًا. تمامًا مثلما هي مفارقة الحق في العودة من المخيمات للبلاد تاريخيًا، إلى السعي في العودة إليها في أيامنا.

ثم كانت مجزرة ليلة 28 شباط/فبراير سنة 1955 عندما أغارت طائرات إسرائيلية، واستهدفت محطة سكة حديد القطار في غزة، وذبح ليلتها عشرات الجنود المصريين والسودانيين. ويعتبر بسيسو المجزرة ضمن خطة تنفيذ مخطط التهجير إلى سيناء، مع العلم أن استهداف ثكنات ومواقع الجيش المصري في غزة، كان متصلًا بالتحولات التي طرأت على الساحة المصرية على أثر ثورة يوليو واتضاح ملامح الناصرية ومشروعها في مصر وخارجها. وعلى أثر مجزرة شباط/فبراير 1955 عادت التظاهرات تجوب أزقة المخيمات وشوارع المدينة شاقة طريقها إلى عمر المختار مجددًا، وكانت أكبرها تلك التي انطلقت من مدرسة فلسطين الثانوية الرسمية في غزة نظمتها اللجان الطلابية في حينه.

“لا توطين ولا إسكان… يا عملاء الأمريكان” كان هذا هتاف الآلاف من رفح جنوبًا إلى بيت حانون يقول بسيسو في تظاهرة الأول من آذار/مارس 1955 تنديدًا بمجزرة محطة سكة القطار، ورفضًا لمخطط التوطين في سيناء، وهي التظاهرة التي ارتقى فيها حسني بلال ابن مجدل عسقلان برصاص قوات أمن الحكم العسكري. وفي اليوم التالي تحول تشييع بلال إلى تظاهرة شعبية ضخمة، انتخب المشيعون خلالها لجنتهم الوطنية العليا لقيادة وتنظيم حركة الاحتجاج، وقد اتخذ الشيوعيون من قميص بلال المصبوغ بالدم علمًا للحراك الذي استطاع بعد أيام قليلة من فرض مطالبه على مكتب حاكم غزة الإداري، ومفادها بحسب صاحب الدفاتر: إسقاط مشروع سيناء، وتسليح المخيمات وفرض التجنيد الإجباري لحمل السلاح على كافة مواطني غزة، وأن يقسم الحاكم بشرفه العسكري ألا يعتقل أي متظاهر خصوصًا من أعضاء اللجنة العليا، وأخيرًا أن تضمن إدارة الحاكم الإداري الحريات السياسية لسكان القطاع.

أسقط مشروع سيناء فعلًا، وكان دليل سقوطه في ذاكرة غزة والغزيين قد تمثل في شعار: “كتبوا مشروع سينا بالحبر… وسنمحو مشروع سينا بالدم”. ليصيح الغزيون بعدها “سال الدم… وعاش الدم” بعد أن أقرّ الحاكم الإداري للقطاع بمطالب الحراك. غير أن مسألة القسم بالشرف العسكري كانت أمرًا آخر، بحسب معين بسيسو الذي جرى اعتقاله وبعض من رفاقه بعد يومين من إقرار الحاكم بمطالبهم، وسوقهم عبر سيناء إلى سجون مصر الحربية، ليبدأ فصل آخر من سيرة شيوعيي غزة في ظل ناصرية مصر والقطاع.