في خبر مخيّب للآمال تلقّته الإدارة الأميركيّة ومصنع الشركة الأشهر عالميًّا “أبل”، تراجعت مبيعات المصنع الأميركي في الصين الّتي تعدّ السوق الأكبر عالميًّا إلى المركز السادس، واحتلّت شركات صينيّة المراكز الخمسة الأولى. هواوي الّتي عانت من تراجع في مبيعاتها في السنوات الماضية تمكّنت من استعادة حصّتها على حساب “آبل”. يتزامن ذلك التراجع مع إطلاق الشركة الأميركيّة لهاتف “آيفون 16” الّذي توقّع المستخدمون أن يشكّل ثورة في عالم الهواتف الذكيّة. هواوي، على الجانب الآخر أطلقت هاتفها الجديد الّذي وصفته بالأيقونة.
بداية الصراع
تاريخ الصراع الأميركيّ – الصينيّ في مجال التكنولوجيا حديث جدًّا، فمع بروز الصين كقوّة اقتصاديّة كبيرة ولاعب دوليّ مهمّ في مجالات التصنيع والإنتاج أصبح الاقتصاد الأميركيّ يشعر بالخطر القادم من الشرق. المعركة الكبيرة للتفوّق الرقميّ أجبرت الولايات المتّحدة على فرض خطوات إضافيّة لحماية اقتصادها، إذ إنّ صعود العملاق الصينيّ يشكّل بحدّ ذاته تهديدًا قوميًّا للولايات المتّحدة كقوّة عظمى، والحلّ، على الأقلّ بالنسبة للرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب، كان نتف بعض “الريش” من أجنحة العملاق الصينيّ، فإن لم نستطع منعه من الطيران، فلنجعله إذا يطير بشكل منخفض.
في وسط السباق الرئاسيّ الّتي انشغلت فيه الولايات المتّحدة في عام 2015 بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، أعلنت الصين عن خطّة 2025. الخطّة الاستراتيجيّة الّتي أعدّت في بكّين تمتدّ إلى 10 سنوات، وتتمحور حول تحويل الصين من “عملاق تصنيع” إلى “قوّة تصنيع”. الخطّة الصينيّة كان من المفترض أن يتبعها خطّتان شبيهتان تمتدّان حتّى العام 2049 بالتزامن مع الاحتفالات الصينيّة بـ 100 عام على تأسيس جمهوريّة الصين الشعبيّة، وتنصّ الخطّة العشريّة على عدّة محاور، منها تحسين الابتكار في الصناعة، تقوية الأساسات الصناعيّة، رعاية أكبر للماركات الصينيّة، التشجيع على الصنيع الأخضر والمستدام، العمل على الاختراعات العلميّة المهمّة والمفصليّة في الأقسام الـ 10 الأساسيّة في التصنيع، تنمية إعادة هيكلة قطاع التصنيع، تنمية الصناعة المدفوع بالخدمات والصناعات المرتبطة بها حسب حاجة المستهلك، وتحويل الصناعات إلى صناعات “قوميّة”. وفي ذلك، ترى الإدارة الأميركيّة تهديدًا للأمن القوميّ الاميركيّ.
لم تصبر الإدارة الأميركيّة كثيرًا لتقوم بالردّ، فبعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض، بعد انتخابات أثارت الكثير من الجدل حينها، كان الملفّ الصينيّ من أوائل الملفّات الّتي يتطرّق لها الرئيس. وصف مستشار التجارة بيتر نافارو والسيناتور ماركو روبيو الخطّة الصينيّة بالمثال الـ”وقح” على استهزاء الصين بالقوانين الّتي تحكم السوق الرقميّة العالميّة عن طريق تقديم إعانات من الحكومة لقطاع التكنولوجيا، وكانت القشّة الأخيرة التقارير الّتي ظهرت في ذلك الوقت عن سرقة شركات صينيّة تكنولوجيا أميركيّة وبيعها إلى إيران، بالإضافة إلى الخوف من التقدّم الكبير لشركة هواوي في عالم الـ “5G” ليتّحد الحزبان في الإدارة الأمريكيّة حول الخطر الصينيّ.
ترجم القلق الأمريكيّ عندما فرض الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب قيود على حركة البضائع بين البلدين، ووضع قيود أكبر للحيلولة دون وصول الصين لموادّ هامّة في عمليّات التصنيع. ترجمت بعض تلك القيود على أرض الواقع على شكل غرامات جمركيّة غير مسبوقة.
حرب التجارة مقابل حرب التفوّق التكنولوجيّ
بدأ الأمر بشكل رسميّ في العام 2018 عندما فرض الرئيس ترامب ما نسبته 25% كرسوم جمركيّة على البضائع الصينيّة المستوردة إلى الولايات المتّحدة، والّتي تبلغ قيمتها 34 مليار دولار سنويًّا، وأوضح الرئيس ترامب قراره بالحاجة إلى “إعادة توازن” العجز في التجارة الأميركيّة مع الصين. ولم يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ، بل فرضت تعريفات جمركيّة إضافيّة في العامين 2018 و 2019.
الحرب التجاريّة الّتي بدأت في 2018 سرعان ما توقّف الحديث عنها، وبدأت التقارير تشير إلى حرب حول الهيمنة التكنولوجيّة، قطاع التكنولوجيا الأميركيّ في ذلك الحين عبّر عن “قلقه” أنّ الصين تستخدم موارد “غير عادلة”، منها دعم الدولة للوصول إلى دور عالميّ أكبر وقيادة القطاع التكنولوجيّ في العالم في مجالات مثل الذكاء الاصطناعيّ، أشباه الموصّلات وتكنولوجيا الجيل الخامس.
مصنع أشباه موصلات صينيّ (Getty)
الرئيس بايدن أيضًا لم يتوقّف عند إجراءات ترامب، ففي شهر تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2022 فرض الرئيس الأميركيّ حزمة جديدة من القيود على المنتجات الصينيّة، وحسب التقرير المنشور على موقع البيت الأبيض، وبسبب الظروف غير العادلة الّتي يواجهها المصنع الأميركيّ في منافسته مع المصنع الصين، فقد فرضت غرامات جديدة. ارتفعت التعريفات الجمركيّة على الحديد والصلب من 0.75% إلى 25%، وارتفعت التعريفات على أشباه الموصّلات من 25% إلى 50%، وارتفعت تعريفات السيّارات الكهربائيّة من 50% إلى 100%، وارتفعت تعريفات البطّاريّات وموادّ إنتاج البطّاريّات والمعادن النادرة مثل الليثيوم من 7.5% إلى 25%، والألواح الشمسيّة من 25% إلى 50%، وسترتفع التعريفات على الإبر والقفّازات الطبّيّة من 0% إلى 50% بحلول العام 2026.
أشباه الموصلات والجيل الخامس
عند تعريف أشباه الموصّلات، فيمكننا القول إنّها موادّ ذات مواصفات كهربائيّة دقيقة تعدّ حجر أساس للحواسيب والأجهزة الإلكترونيّة. تقوم تلك الموصّلات الّتي تتشكّل من موادّ كيميائيّة بتوصيل الكهرباء تحت ظرف معيّن، وذلك يتيح التحكّم بالتيّار الكهربائيّ حسب الحاجة.
تعدّ تايوان المنتج الأكبر للرقاقات وأشباه الموصّلات في العالم. مؤخّرًا ارتفعت حدّة التصريحات بين الجانبين حول تايوان؛ فالصين الّتي تعتبر تايوان جزءًا منها، تحاول بشتّى الطرق السيطرة عليها، وبالتالي، السيطرة على صناعة الرقاقات، ومن جهتها تحاول الولايات المتّحدة منع الصين من الحصول على مبتغاها لخطورة حصول الصين على تلك الميزة. وتعدّ تلك الرقاقات حجر أساس بالنسبة للأمان الاقتصاديّ بالنسبة لبكين، إذ تزداد الحاجة إليها مع تقدّم الصناعات العسكريّة الصينيّة، وسيحدّد الحصول على تلك الرقاقات أو عدمه إن كانت الصين ستنجح بأهدافها الجيوسياسيّة والسياسيّة في العقد القادم واستبدال الولايات المتّحدة كقوّة عالميّة.
الرقاقات تدخل في عمل جميع الأجهزة الإلكترونيّة، وتعتمد عليها الطفرات الحديثة مثل الذكاء الصناعيّ وتكنولوجيا الجيل الخامس، ويمتدّ أثر الرقاقات وأشباه الموصّلات من الأجهزة الطبّيّة إلى الهواتف الذكيّة حتّى المعدّات العسكريّة المهمّة، وتشكّل مجموع العقود المرتبطة بتايوان لشراء الرقاقات وأشباه الموصّلات أكثر من 60% من الإنتاج العالميّ. ومن هنا تأتي الأهمّيّة الكبيرة لدولة صغيرة مثل تايوان على بحر الصين الجنوبيّ.
ولكن، عند الحديث عن الرقائق وأشباه الموصّلات، فإنّ شركة “إيه إس إم إل” الهولنديّة تكون حاضرة، فالشركة العملاقة الّتي تقدّر قيمتها بأكثر من 316 مليار دولار أميركيّ تصنع الآلات الّتي تعمل على صناعة أشباه الموصّلات والرقاقات، إذ إنّ صناعة تلك القطع المعقّدة لا يجري بأيدي عمّال مهرة!
شركة تي إس إم سي في تايوان (Getty)
الشركة لديها عقود مع عمالقة التكنولوجيا في العالم، مثل شركة سامسونج الكوريّة، إنتل الأميركيّة وتي إس إم سي التايوانيّة. تنتج تلك الشركات الثلاث مجتمعة أكثر من 80% من الرقاقات في العالم، ويعمل لدى الشركة أكثر من 32 ألف موظّف، في حين كان عدد الموظّفين في السنوات الماضية ما يقارب 10 آلاف فقط، ويدلّ الارتفاع الكبير في عدد الموظّفين على النموّ الكبير الّذي حقّقته الشركة بسبب الطفرات التكنولوجيّة الحديثة الّتي تعتمد على تلك الرقائق والحرب الصينيّة الأميركيّة. الصين على الجانب الآخر ارتفع استيرادها من الشركة الهولنديّة في الربع الأوّل من العام 2023، ولكنّ ذلك لم يشمل الآلات الحديثة بسبب القيود على استيراد.
الانفصال الأميركيّ الكلّيّ عن الصين
يعدّ الانفصال الأميركيّ عن الاعتماد على البضائع الصينيّة من أكثر المواضيع إثارة للجدل في الأوساط الأمريكيّة وخاصّة الأوساط المعنيّة بالتكنولوجيا، إذ اعتمدت الولايات المتّحدة منذ زمن طويل على المنتجات الصينيّة بشكل كلّيّ أحيانًا، فبعد دخول الصين في منظّمة التجارة العالميّة عام 2001 أصبحت التجارة بين البلدين متشابكة بشكل أكبر، وشكّلت الصين منذ ذلك الحين البديل الرخيص والأيدي العاملة الرخيصة المنتجات الّتي تعتمد عليها الولايات المتّحدة في صناعاتها بدءًا بالحواسيب وانتهاء بألعاب الأطفال، ولكن جاءت سياسات مشروع الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب “أميركا أوّلًا” وصعود تأثير الصين كقوّة عالميّة وتهديدها للأمن القوميّ الأميركيّ بداية الانفصال بين الاقتصادين.
في بداية الأمر كان الانفصال عن العملاق الصينيّ يوصف بأنّه “غير واقعيّ” بالنظر إلى حجم الواردات الصينيّة الّتي لا تستطيع الشركات الأميركيّ وقف الاعتماد عليها والتداخل الاقتصاد الصينيّ مع العالم أجمع، ولكن سرعان ما بدأ الاقتصاديّون، ومنهم المدير التنفيذيّ السابق لمحرّك البحث جوجل إيريك شميدت الّذي انضمّ إلى مجموعة عمل في العاصمة واشنطن، بالإضافة إلى رياديّي الأعمال في عالم التكنولوجيا، بوضع بدائل من شأنها أن تحدّ من تقدّم الصين مثل الانفصال الجزئيّ، ودعم “تشعب” الولايات المتّحدة في العالم بدلًا من الاعتماد على الصين وحدها، ولقي ذلك الاقتراح صدى واسعًا في الأوساط الأميركيّة، وحظي بدعم من الحزبين الجمهوريّ والديمقراطيّ.
تتّقدم الصين بخطى ثابتة في عالم التكنولوجيا والتصنيع، وبالرغم من القيود الكثيرة الّتي وضعتها الحكومات الأميركيّة أمام الشركات الصينيّة، إلّا أنّ الأخيرة قد وصلت إلى مراحل متقدّمة في التصنيع في سنة واحدة ما كان متوقّعًا لها في ثلاث سنوات حسب توقّع الوكالات الأميركيّة والمراقبين.