حصار الموت في شمال غزة: معاناة تحت القصف وغياب الأمل

المسار الاخباري: لا يزال السكان المحاصرون في شمال قطاع غزة، خاصة منطقة جباليا يعانون شتى أنواع العذاب، فهناك تحت أسقف منازل مدمرة، فإنك تنتظر أن تحصل معجزة إلهية لكي تنجو من الموت جوعا أو عطشا، أو من قذيفة صاروخية أو أخرى حارقة تدمر المكان بالكامل، وتظل تنزف دما حتى تموت ببطء، فهناك لا تستطيع الطواقم الطبية العمل، ولا يمكن إدخال الطعام.

محاصرون وسط النيران

هؤلاء المحاصرون هناك لا زالوا كثرا، رغم عمليات النزوح الإجباري المتواصلة منذ السادس من الشهر الجاري، حيث اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة وأجبرتهم على مغادرتها بالقوة تحت تهديد النار بعد تعرية الرجال من ملابسهم، ودفع النساء والمرضى وكبار السن لقطع مسافات طويلة في طرق موحشة، الحركة فيها صعبة جراء الدمار المتناثر من البنايات السكنية المدمرة على جانبي الطريق.

ولا يزال هؤلاء يرفضون كمن أجبروا على النزوح، ترك منازلهم ومناطق سكنهم، لأنهم يعرفون أن الجوع والموت والخوف يحيط بهم سواء في مناطق التوغل، أو في المناطق التي تدعي قوات الاحتلال أنها “مناطق إنسانية”، ولهم في الوقائع على الأرض خير دليل، حيث تعمدت قوات الاحتلال استهداف الكثير منهم في طرقات النزوح، أو في المناطق التي وصلوها متعبين بمدينة غزة، ومن قبل ذلك، كانوا يسمعون بالمجازر الدامية التي طالت “مواصي” خان يونس، والعديد من مناطق وسط القطاع، التي يطالب جيش الاحتلال سكان شمال القطاع التوجه إليها، كما أن الجوع في تلك المناطق لا يختلف كثيرا عما يعانونه في مناطق سكنهم، وهو ما دفعهم هذه المرة للتشبث بالمنازل، بعد أن تيقنوا أن الموت واحد.

تواصلت مع محاصرين في شمال غزة لا زالوا يعانون ويلات الحرب والهجوم البري الأعنف على مخيم جباليا والمناطق المجاورة له، منذ بدء الحرب على غزة قبل أكثر من عام.

من بين المحاصرين الذين اكتووا بنيران هذا الهجوم العنيف، الصحافية فاطمة الدعمة، التي تواجه ومَن تبقى من أسرتها أوضاعا في غاية الصعوبة، في منطقة تتساقط عليها القذائف وتسمع أصوات الطائرات والمدافع على مدار الساعة، وتترقب أن تصاب بمكروه في أي وقت.

الموت بدون علاج

الصحافية الدعمة فقدت نهاية الأسبوع الماضي والدتها وشقيقها حين أسقطت طائرة حربية برميلا متفجرا على الحي الذي تقطنه في بلدة جباليا.

وفي تلك الغارة العنيفة، أصيبت والدتها وهي بداخل المنزل بعدة شظايا في أنحاء متفرقة من جسدها، فيما أصيب شقيقها بشظية اخترقت فخذه وقطعت شريانه الرئيس، علاوة على إصابات بجراح مختلفة لأفراد الأسرة.

على الفور، قضت والدتها بعد أن تناثرت دماؤها على جدران المنزل، وبعد ساعات قضى شقيقها بعد أن ظل ينزف دما ليوم كامل، حيث فارق الحياة في اليوم الثاني لاستشهاد الوالدة، فطواقم الإسعاف لم تتمكن من الوصول إلى المكان الذي ظل جيش الاحتلال يستهدفه.

ولهذه الصحافية شقيق آخر أصيب في الغارة هو ونجله، وكذلك ابن شقيقتها، ولا تزال شظايا الصاروخ الإسرائيلي في أجسادهم، ويتألمون على مدار الساعة، دون أن يجدوا مسكنات، أو مشافي تداوي جروحهم.

وقالت: “بالكاد المشافي تعالج الحالات الخطيرة، وصار الحل الوحيد أمام الاطباء في التعامل مع إصابات الأطراف هو البتر، لأنه ما في أمكانات للعلاج”.

وبعد الغارة الدامية، انتقلت الصحافية الدعمة ومعها من تبقى من أفراد الأسرة وبينهم مصابون إلى منزل آخر، وتقول لـ”القدس العربي”: “مش قادرة أنظر لدماء أمي في البيت”، وكانت تتحدث بحرقة وحزن شديدين.

وتصف الدعمة الوضع الحالي بمنطقة سكنها وباقي مناطق شمال قطاع غزة بـ”الصعب والخطير”، وتضيف: “منطقتنا حمراء (أي من المناطق المهددة بالإخلاء القسري) وقذائف كتير بتنزل على شارعنا وبيوتنا”.

وهذه الصحافية المصدومة بالفقدان تقول عن سبب عدم خروجها بالكامل من منطقة العمليات العسكرية البرية: “ما عاد شي يفرق معي، بعد ما راحت أمي الله يرحمها هيا وأخويا”.

وأضافت وهي تصف حال السكان هناك الذين يواجهون خطر الموت، وينتظرونه في كل لحظة: “وهل يضير الشاه سلخها بعد ذبحها”. وبحرقة وألم قالت الدعمة: “اتعبنا وذبحنا”.

خبز ودقة

أما عن الوضع الحالي، وتدبير أمور الطعام والشراب، فتشرح الدعمة الوضع المتدهور بالقول: “أنا صار لي خمسة أيام عايشة على الدقة والخبز”. و”الدقة” أكلة شعبية في غزة، عبارة عن قمح محمص ثم يطحن مع بعض التوابل وحمض الليمون.

وأشارت إلى أنها في بداية استشهاد والدتها وشقيقها لم تكن تتناول أي طعام.

وعلاوة على نقص الطعام، هناك نقص حاد في مياه الشرب، وتقول الدعمة: “ما في مياه حلوة للشرب”، لافتة إلى أن المياه العادية مفتقدة أيضا.

ودمرت قوات الاحتلال مع بداية الهجوم البري على شمال قطاع غزة آباء المياه التي كانت الجهات البلدية كانت قد أعادت إصلاحها بصعوبة بالغة، كما دمرت ألواح الطاقة الشمسية التي تولد الكهرباء لعمل مضخات المياه.

ولم تكتفِ قوات الاحتلال بذلك، بل هاجمت قبل عدة أيام، مواطنين بينهم أطفال كانوا يتجمعون حول صهريج مياه، ما أدى إلى استشهاد وإصابة الكثير منهم.

وفي ظل استمرار التوغل البري وتوسيعه، تقول الدعمة وهي تصف المشهد: “24 ساعة قصف بالطيارات والمدافع، وإطلاق نار من طائرات كواد كابتر على أي جسم متحرك”.

وأشارت إلى أن من يصاب من السكان، أو يقصف في منزله يبقى تحت الركام، حيث لا تستطيع طواقم الإسعاف والإنقاذ العمل هناك، وأضافت: “الشهداء عندنا ماليين البيوت والشوارع”، لافتة إلى أن جثامينهم تحللت وأكلتها القطط والكلاب.

وفي هذا الوقت الذي تنخفض فيه درجات الحرارة ليلا، تقول الدعمة إنهم كغيرهم من السكان، لا يجدون أي أمتعة أو بطانيات أو ملابس تقيهم البرد، وأضافت: “البرد ينخر في عظامنا”.

وخلال حديثها، استذكرت الدعمة والدتها التي استشهد وهي تصلي على كرسي، فهي سيدة مسنة ولا تستطيع الحركة بسهولة، وقالت: “ست مسنّة قتلوها وهي تصلي على كرسي، شو ذنبها؟”.

وتشير إلى أن هناك الكثير من عائلات شمال قطاع غزة المحاصرة، تعيش ذات الأوضاع الصعبة التي تعيشها أسرتها، من حيث سقوط ضحايا من أفراد العائلة، علاوة عن معايشة ظروف صعبة للناجين، بسبب ندرة الطعام وشح المياه.

وتذكر أن صديقتها استشهدت قبل عدة أيام، ولا تزال تحت ركام منزل عائلتها، فيما استشهد ابن عم والدتها، ولا يزال جثمانه في أحد طرقات جباليا، وتضيف: “الشوارع مليئة بالشهداء، والكلاب والقطط تنهش بأجسامهم، عدا عن جثامين الشهداء التي تحللت”.

حصار المستشفى

روت الممرضة ميسون عليان، التي تعمل في مستشفى كمال عدوان، ما حصل عند اقتحامه من قبل جيش الاحتلال، حيث أوضحت أنه في البداية جرى حصار المستشفى من كل الاتجاهات، وحلقت على ارتفاعات منخفضة طائرات مسيرة من نوع “كواد كابتر”.

وتلا ذلك أن جرى فصل الرجال عن النساء بأوامر من جيش الاحتلال، ثم قاموا بأخذ الشبان بـ”طريقة مهينة” بعد إجبارهم على خلع ملابسهم.

وأضافت: “بعدها اقتحموا طابق الجراحة، وحاصرونا في قسم الاستقبال وقد وضعنا كل المرضى فيه”.

وتشير الممرضة عليان إلى أن جيش الاحتلال طلب بعد ذلك من مدير المستشفى، إخراج جميع المرضى وأجبرهم على المشي على أقدامهم، رغم أن من بينهم من كان قد ركبت له القسطرة والمحاليل الطبية، حيث أجبرهم على الخروج والمشي في طريق صعب.

وأضافت: “ثم طلب من مدير المشفى إخراج الطواقم الطبية من فئة الشباب بطريقة مذلة، حيث أخرجوهم بدون ملابس إلى جهة العيادة الخارجية”، لافتة إلى أن عدد الطواقم كان ما يقارب من 70 شخصا.

ولم يتبق في المستشفى وقتها إلا الممرضات، حيث شرعت قوات الاحتلال بتدمير أجزاء منه.

المصدر …. القدس العربي