بقلم “أسامة خليفة” كمال البقاعي الفارس الذي ترجل

غيب الموت المناضل الفلسطيني الكبير كمال توفيق البقاعي بعد تاريخ نضالي حافل بالعطاء والإخلاص والتفاني في خدمة شعبه والتمسك بعناد بحقوقه الوطنية الراسخة، وفي مقدمتها حق العودة إلى الديار، ورفض التوطين، مسيرة بدأها باكراً على طريق النضال الطويل في صفوف حركة القوميين العرب، ثم في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، منذ تأسيسها العام ١٩٦٩، وتسلم عدة مسؤوليات «عضو لجنة مركزية و أمين سرها» و«قائد منطقه صور ١٩٧٥ – ١٩٧٦» و«قائد ميليشا الجبهة في لبنان -١٩٧٨ – ١٩٧٩» و«سكرتير المكتب التنظيمي لمنظمة الجبهة في لبنان – ١٩٨٠ – ١٩٨١» و«نائب قائد القوات المسلحة الثورية و مفوضها السياسي ١٩٨١ – ١٩٨٥».

كما شغل عضوية المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني في منظمة التحرير الفلسطينية لعدة سنوات، انتقل بعدها إلى دمشق وتابع عمله الوطني والسياسي والجماهيري والاجتماعي في عدة مجالات، حتى أقعده المرض، وتوفي أمس 10/11/2024.

ترك لنا سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء لننهل منها فكراً واعياً مبدئياً ملتزماً، ونستمد عزيمة ومضاء لإكمال الدرب حتى تحقيق الأهداف الوطنية كاملة، ونشتد صلابة كلما ازداد الدرب وعورة، ونقتبس أملاً في حتمية النصر القادم.

يروي المناضل كمال سيرته الذاتية، واضعاً بين يدي أجيال الشعب الفلسطيني تجربته الكفاحية الشخصية، وتجربة شعبه المقاوم، في وحدة الاندماج والذوبان في المجتمع الأوسع الساعي للتحرر والاستقلال، حيث يقول: «آمل أن تكمل الأجيال هذا الطريق لاستكمال ما لم نتمكن من بلوغه..»، ويقول عن الجيل الحالي: « ها هو الجيل الرابع الفلسطيني يهب عملاقاً في وجه الاحتلال الغاصب الهبة العظيمة التي انطلق بها شباب فلسطين يقولون بملء الحناجر: كفى.. تاريخ طويل ومشرف من النضال الفلسطيني والعربي، أجيال متعاقبة أخذت دورها على دروب النضال…».

لخصت الجزء الأول من الرواية الثلاثية «الجزيرة» بالعبارة: «لا فاصل بين النضال من أجل الحقوق الوطنية وبين النضال من أجل العدالة الاجتماعية»، ولخصت رسالة الجزء الثاني من الرواية « رياح التغيير» بـ« لا فرق بين الإخلاص والوفاء للقضية الوطنية والإخلاص في الحب والزواج»، لا فارق بين عشق جمال وجمال، فلسطين الطبيعة الساحرة تتجسد في المرأة الوطن، وألخص «بلاد الزيتون» الجزء الثالث للرواية: بـ« السيرة الذاتية لأي مناضل مخلص متفان تندمج في السيرة الكفاحية لشعب بأكمله».

يحكي السيرة الذاتية كفن سردي قائم بذاته، لتجربة شخصية حقيقية في واقع فعلي وحقائق تاريخية جرت في مكان وزمان محددين عاش فيهما الكاتب وتفاعل مع أحداث الوسط الفلسطيني ومحيطه العربي والصراع مع المعتدي الصهيوني، محاولاً أن يرويها بأسلوب الفن القصصي رافضاً أن يعمل بها الخيال، يتحدث فيها عن يومياته وذكرياته مازجاً الأحداث والوقائع اليومية بالقضايا الوطنية والتعقيدات السياسية.

كمال أو عدنان الشخصية الرئيسية في الرواية وبطلها الذي تدور حوله أحداثها، فلسطيني من قرية الدامون في الجليل، لجأ مع أسرته عام النكبة إلى لبنان وعمره أربع سنوات، ذاكرته عن النكبة تحتفظ بالقليل عن المأساة التي مر بها عموم أبناء شعبه، كانت أمنيته أو ما خطط لمستقبله بعد أن نال شهادة الثانوية أن يلتحق بدورة للضباط في العراق لكن الدورة ألغيت، فدرس في مركز التأهيل المهني التابع لوكالة الغوث «الأونروا» فرع التجارة والمحاسبة، حصل على علامات شبه تامة في أغلب المواد، فكان لذلك أول المتعاقدين للعمل في الخليج للعمل في جزيرة «حالول» كإداري في أعمال السكرتارية، ثم انتقل إلى غرفة الراديو ليدير الاتصالات مع السفن القادمة. شعاره «لا للفشل» لكن ذلك لا يعني أن يقبل الإهانة أو المذلة من أمريكي متغطرس، فقد رضع عدنان مع حليب أمه الكرامة الشخصية والكرامة الوطنية، ومن هنا نذر عدنان نفسه للعمل الجاد والنضال في إطار حركة القوميين العرب، ولاحقاً في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية.

لعل الحدث الأبرز الذي يقود إلى خاتمة الجزء الأول، بمغادرة الجزيرة والعودة إلى لبنان، نابع من انتمائه لحركة القوميين العرب حين راح عدنان يتعرف على كل القادمين إلى الجزيرة ولاسيما من بلاد الشام، وعمل على تأطير الأعضاء الوافدين في خلايا، وارتأوا ضرورة تشكيل هيئة قيادية بصورة سرية للتصدي للمهام التي تعترضهم، وفي الطليعة منها تحديد ساعات العمل لموظفي التعاقد الخارجي، شركات التعاقد الخارجي سرقت الجميع من خلال تخفيض الرواتب إلى ما يعادل النصف، أكانت الشركة الأمريكية تسلب من كل العاملين والموظفين أربع ساعات عمل يومياً، كما يسرقون العطل الأسبوعية، وعطل الأعياد والمناسبات الرسمية والوطنية التي ينعم بها المتعاقدون المحليون، فائض العمل يقدر بمعدل ست ساعات إضافية حيث يعملون 12 ساعة يومياً، لابد إذاً من تبني قضايا العمال والموظفين والدفاع عن حقوقهم المشروعة، ورفع الغبن الذي لحق بهم جراء الاستغلال البشع لحاجة هؤلاء الماسة للعمل، تنصلت لجنة العمل والعمال في الدوحة من أية مسؤولية عن العقود الخارجية، وطبيعة العمل في الجزيرة لا تسمح لمندوبي العمال بالاتصال بالمحامين، وهكذا أمام انسداد الآفاق كافة تبين أن لا سبيل إلى نيل حقوقهم إلا اللجوء إلى الإضراب العام، وهذا يتطلب وحدة الإرادة وصلابة الموقف، صيغت رسالة بالمطالب، وتم تقديمها إلى الإدارة، لكنها رفضت، في اليوم التالي رفض العمال والموظفون القيام بالأعمال المطلوبة منهم، تحركت الإدارة بسرعة، وفي حشدهم ألقى المدير خطاباً مؤكداً رفضه لمطالبهم، مهدداً قادة التحرك، منبهاً الموظفين إلى خطورة الإضراب، بأنه تنصل من التزامهم بشروط عقود العمل، وهذا يعفي الشركة من أي التزام تجاههم، وسيعتبرون مستقيلين.

رد عدنان مؤكداً على استمرار الإضراب حتى تحقيق المطالب، قال المدير بأعلى صوته: من يريد أن يواصل العمل ليصطف هنا إلى اليمين. في البداية شعر عدنان خلفه بحركة بطيئة تحولت إلى جلبة فيما بعد، نظر باتجاه اليمين، فوجد حشداً كبيراً يقف حيث أشار المدير، نظر خلفه فلم يجد سوى صديقه منير، كان بإمكان منير أن يلتحق بالآخرين، لكنهما وقفا بصلابة معاً، وقد تفهما موقف الموظفين، كانا يدركان حاجة الجميع للعمل، ظلا على موقفهما من رفض العودة للعمل، فغادرا إلى الدوحة ثم إلى بيروت، وبعد أسبوعين في بيروت في ساحة البرج يلتقيان مصادفة، لم يكن منير ساخطاً على من كان سبباً في فقدان عمله لكن أسرته كانت كذلك، وعند الغروب افترقا وانتهى الجزء الأول من الرواية.

على أرض الجزيرة ثلاثة أحداث أخرى مترابطة، تتعلق بالعدوانية وبالتعالي الأمريكي على الآخرين، وكان من تداعياتها أن الأمريكيين باتوا أكثر حذراً، يبتعدون عن الآخرين، حادثة شاحنة مسرعة كادت تصطدم بسيارة مهندس أمريكي، وحادثة سقوط مولدة كهرباء من رافعة ضخمة في المرفأ تصادف مرور خبير أمريكي بجوارها، وحادثة الطعن، حين هاجم شاب خليجي أحد الأمريكيين وطعنه بخنجر، وهو يصرخ: لبيك يا جدي، تم علاج جروح المصاب في الوحدة الإسعافية، وفي اليوم التالي حضرت شرطة وأجانب من الدوحة، عاينت وحققت واعتقلت وغادرت مصطحبة المهاجم وثلاثة عمال محليين، تبين لعدنان أن الطعن لم يكن حادثاً عرضياً، بل جاء في سياق قضية وطنية انتقاماً لهمام القاسمي أحد أبرز القادة الذين وقفوا ببسالة في وجه الإنكليز وقاوم تمددهم في الخليج، لكنهم تمكنوا منه بالمكر والخديعة.

في مسرح الأحداث الفلسطيني، ما جرى في القرية الفلسطينية الدامون وتهجير أهلها منها في عام النكبة، أخته الصغرى ذات العامين نُسيت على جانب الطريق في وعاء العجين، فعادت أخته الكبرى مسافة طويلة لتجلبها. عدد من المهجرين لم يحتمل ابتعاده عن أرضه، فعاد من حيث أتى، أما أسرة عدنان فقد وصلت إلى المحطة الأولى في لبنان ثم واصلت سيرها نحو الشمال، وراحت الأسر تستقر في مخيمات قررتها السلطات في مختلف المناطق.

وكان أهم حدث بعد النكبة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية قبل شهر واحد من سفر عدنان، وزيارة أحمد الشقيري للبنان للاحتفال في الملعب البلدي لمدينة صيدا، قرر طلاب مركزيّ دار المعلمين والمركز المهني التجاري المشاركة في الاحتفال، لكن إدارة المركزين أبلغتهم بالمنع الصادر عن المكتب الثاني اللبناني، فقرر الطلاب التحدي مهما كلف الثمن.

من الوصف الجميل في هذا الجزء من الرواية وصف قرية الدامون، يتغزل عدنان بجمالها وكأنها حبيبته، حين يقول: «دامون يا ذات الوجه الرائع الجمال، والقوام الرشيق، أتخيلك ولا أستطيع لقاءك، أو حتى رؤيتك، أشتاق إليك، أعبدك، يا ذات الجدائل المشغولة عبر السنين، والطويلة طول السنين، أيتها الصبية الكنعانية الرائعة، حبيبتي أنت، أنت الوحيدة التي يشاركني الكثيرون في حبها، ولأجلك أحبهم كلهم، ولأجلك أقدم دمي فداء لك ولهم، بكل رضا وسرور….

عدنان ينهي دراسته الثانوية، أسرته لاجئة فلسطينية فقيرة لا تملك المال الكافي لتلبية تكاليف متابعة دراسته الجامعية، يقرر التوقيع على عقد عمل لتحسين ظروف معيشة أسرته، المفارقة هنا أنه يعمل في شركة أمريكية وله موقف عدائي مسبق من أمريكا الاستعمارية ولهذا أسبابه الوطنية، المفارقة الثانية أن حقوق شعبه الوطنية مسلوبة، يقابلها حقوق عمال مسلوبة وهو واحد منهم في الشركة الأمريكية، مواقفه الفكرية والوطنية والسياسية تأبى أن يقبل هذه الحالة من الاستغلال البشع، يأطر العمال والموظفين، لتقود هذه الأحداث إلى عقدة الإضراب، الأحداث تترابط وتؤكد أن النضال من أجل الحقوق الوطنية لا تنفصل عن النضال من أجل العدالة الاجتماعية ،وأن النضال ضد الجشع الاستعماري الذي ينهب الشعوب، لا ينفصل عن النضال ضد جشع الشركات الاحتكارية التي تهضم حقوق العمال والموظفين، وهذا هو مغزى القصة وهدف الحياة الذي عاش من أجله عدنان أو كمال، وهذا متجسد في فكر ومبادئ بطل القصة، وهو ما يفسر صلابته في موقفه من رفض العودة للعمل دون تحيق مطالب العمال بحقوقهم، وهو ذات الأمر في الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني التي لا تنازل عنها ولا انتقاص منها، وهكذا كانت النهاية منطقية كنتيجة لسبب، العقدة التي تتمثل في الإضراب، كان حلها: خضوع العمال للتهديدات بالفصل وتراجعهم عن مطالبهم، وفصل عدنان ومنير من العمل في الشركة، وكان هذا هو هزيمة مرة لعدنان، نهاية مفتوحة تؤكد أن الصراع بين الحق والباطل لم تنتهِ بعد سواء في جانب العدالة الاجتماعية، أم في جانب الحقوق الوطنية، كما هو حال القضية الفلسطينية. وتدفع هذه النهاية القارئ للتساؤل ليس عن حتمية النصر، بل متى يتحقق هذا النصر؟.

كان كمال مناضلاً صلباً تمرس في المقاومة وفكرها واعتاد الخطاب السياسي سماعاً وقولاً، يستطرد في رتابة السرد من نمط واحد لعرض مواقفه ومبادئه كأنه يريد دحض الفكر الآخر، أو يبرهن على صحة قناعات وطني متحمس، يعبر عن أفكاره، يبدي الرأي ويعرض وجهات النظر والمواقف والالتزام والمعارضة، دخل الكاتب في نقاشات مطولة مع مؤيدين ومعارضين لخطه السياسي، ومتفقين ومختلفين معه، في القضايا الوطنية والسياسية والفكرية، وكانت له حوارات ساخنة، يعلو صوته فهذا منطق الثوار الذين لا يقبلون بأنصاف الحلول.