المسار الاخباري: مع اشتداد الحرب واستمرارها لأكثر من عام في قطاع غزة وجنوب لبنان، تواصل “إسرائيل” دفع ثمن مكلف على مختلف الأصعدة، حيث يعاني جنودها من تداعيات نفسية متزايدة نتيجة للأهوال التي يعيشونها على الجبهات.
إلا أن هذه الحرب، التي يروج لها الإعلام الإسرائيلي كدفاع عن “أمن الدولة”، تُظهر بوضوح عمق المعاناة النفسية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي وجنوده، الذين يعانون من اضطرابات نفسية خطيرة نتيجة للاحتلال والحروب المتواصلة.
وفي إعلان أمس الجمعة، نقلته صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية، أن 6 عسكريين إسرائيليين على الأقل أقدموا على الانتحار نتيجة لتدهور أوضاعهم النفسية جراء مشاركتهم الطويلة في القتال في غزة وجنوب لبنان.
وتضيف الصحيفة، أن عدد المنتحرين قد يكون أكبر، حيث يرفض الجيش نشر الأرقام الرسمية حتى الآن.
وفي مارس/آذار الماضي، كشف رئيس قسم الصحة النفسية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، لوسيان ليئور، لصحيفة “هآرتس” أن حوالي 1700 جندي خضعوا لعلاج نفسي.
محللون ومختصون في الشأن الإسرائيلي أكدوا في أحاديث منفصلة أن الأزمة النفسية التي يعاني منها الجنود الإسرائيليون تعكس فقط جزءًا من الأزمة الأكبر التي يعاني منها الاحتلال من صعوبة مواجهة الشعب الفلسطيني المناضل.
وتوافقت آراؤهم على أن الشعب الفلسطيني رغم كل الحروب والتدمير، أظهر قدرة على الصمود لم يعرفها الجنود الإسرائيليون الذين لا يستطيعون التكيف مع ظروف الحرب المتواصلة، ويجدون أنفسهم في مواجهة نفسية لا قدرة لهم على تحملها.
“صدمة ما بعد المعركة”..
يقول المختص في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور، إن ظاهرة انتحار الجنود في جيش الاحتلال واحدة من القضايا الشائعة، وتعود إلى عدة أسباب، منها صدمة ما بعد المعركة، والمشاهد القاسية التي يمرون بها أثناء الحرب.
ويوضح “منصور، أن الضغط النفسي وتأنيب الضمير والمشاكل الشخصية قد تتفاقم بسبب الخدمة العسكرية، خاصة أثناء الحروب أو بعدها.
ويشرح “منصور” أن بعض الجنود يعانون من شعور بالعزلة والإهمال، إلى جانب أزمات مالية ونفسية، على الرغم من أن المجتمع والمؤسسات الداعمة في الغالب تقف بجانب الجنود، إلا أن العنف الذي يمارسونه ضد الفلسطينيين قد يرتد عليهم بشكل عقد نفسية وتأنيب ضمير، مما يدفعهم أحيانًا إلى الانتحار.
ويضيف أن حالات الانتحار ليست ظاهرة يمكن تفسيرها بسبب واحد، بل تتداخل عدة عوامل تشمل البيئة التي أتى منها الجندي، وظروف خدمته، ومدى التعبئة النفسية والاجتماعية التي تلقاها.
ويشير إلى أن هذه الظاهرة قد تظهر في أوقات الحروب أو خارجها، مما يعكس تعقيدها وعدم ارتباطها المباشر بنتائج الحرب أو نجاحها.
يوضح ضيفنا أن الجنود عادة ما يركزون على المهمة المكلفين بها أكثر من نتائج الحرب نفسها، أما السياسيون والضباط، فهم من يتأثرون بشكل أكبر بنتائج العمليات.
ويؤكد وجود إحصائيات ودراسات حول حالات الانتحار ومحاولات لفهم الظاهرة ومعالجتها، وإن كانت تنشر أحيانًا بشكل محدود.
حقائق صادمة..
وفي سياق الحديث عن الآثار النفسية التي يعاني منها جنود الاحتلال بعد المعارك في غزة، يتفق كل من عصمت منصور وعمر جعارة على أن هذه الأزمات النفسية، بما فيها حالات الانتحار، تعكس عجز الجيش الإسرائيلي عن التعامل مع تداعيات الخدمة في قطاع غزة وفشل قيادته في احتواء آثار الحرب على الجنود.”
ويستطرد الخبير في الشأن الإسرائيلي عمر جعارة، أن الاقتباسات الصادرة عن الإعلام الإسرائيلي، مثلما ورد في القناة الثانية عشرة، تكشف عن حقائق صادمة بشأن الحالة النفسية لجنود الاحتلال الذين قاتلوا في قطاع غزة.
ويشير “جعارة” إلى تصريح سابق بأن 85% ممن خدموا في غزة يحتاجون إلى علاج نفسي دائم، مما يعكس حجم الأثر النفسي الكبير للمعارك هناك.
ويؤكد “جعارة، أن العديد من حالات الانتحار بين الجنود ارتبطت بإعادة استدعائهم للخدمة في قطاع غزة. ويرى أن الجيش الإسرائيلي يدرك عجزه عن تحقيق انتصار حاسم في غزة، مما يؤدي إلى تناقضات نفسية كبيرة بين الجنود، خاصة مع محاولة الإعلام الإسرائيلي تصوير الجيش في أفضل حالاته، رغم الفشل المتكرر في كبح نيران المقاومة أو فرض حلول سياسية على سكان القطاع.
ويشرح أن حرب “طوفان الأقصى” تمثل أطول حرب في تاريخ المشروع الإسرائيلي، حيث تجاوزت الأربعمائة يوم.
ويضيف أن إسرائيل تجد نفسها عاجزة عن التأثير على سكان غزة بما يتناسب مع أهدافها، سواء من حيث كسر عزيمتهم أو دفعهم إلى قبول حلول إسرائيلية، وهو ما يزيد من تعقيد الموقف النفسي للجنود.
ويوضح “جعارة” أن تصريحات مثل تلك التي أطلقها غالانت، والتي دعا فيها إلى الخروج من غزة وإجراء صفقة تبادل، تعكس اليأس الذي يشعر به القادة الإسرائيليون، لكن هذه التصريحات قوبلت بمعارضة سياسية حادة، مثل إقالته بسبب اقتراحه تجنيد المتدينين، وهو ما يعمق الأزمات الداخلية داخل الحكومة الإسرائيلية.
ويُردف أن الإعلام الإسرائيلي ذكر أن عشرات الآلاف من الجنود أصيبوا بإعاقات دائمة بسبب المعارك في غزة، وأن حالات الانتحار بين الجنود ليست نادرة، إذ تم الإعلان عن عدة حالات في الفترة الأخيرة.
ويؤكد أن قطاع غزة يُنظر إليه من قبل الجنود الإسرائيليين على أنه “وحل الجحيم”، مما يجعل العديد منهم يرفضون العودة للخدمة هناك.
“تأثير الحرب على المجتمع الإسرائيلي”..
من جهته، يقول الكاتب والمختص في الشأن الإسرائيلي خالد خليفة، إن الأبحاث واستطلاعات الرأي حول تأثير الحرب على المجتمع الإسرائيلي تظل محدودة، بالرغم من استمرار المعارك لأكثر من أربعة عشر شهرًا.
ويلفت “خليفة” إلى أن الجنود الإسرائيليين، سواء من الخدمة الإلزامية أو الاحتياط، يعانون من ضغوط نفسية كبيرة نتيجة الحرب، مؤكدًا أن الإعلام الإسرائيلي يلعب دورًا في محاولة دعم هؤلاء الجنود نفسيًا، من خلال تصويرهم كأبطال مثاليين يخدمون قضايا “مقدس”.
ويوضح “خليفة”، أن الإعلام الإسرائيلي يتسابق لرواية قصص الجنود القتلى وإجراء مقابلات مع عائلاتهم، محاولًا إظهارهم كشخصيات محبوبة ومثالية، تعشق الحياة والخدمة العسكرية.
ويشير إلى أن الإعلام يبرز هواياتهم وأحلامهم، ويزعم أنهم يعودون طوعًا للخدمة بعد الإصابات، رغم عدم إصرار القيادة العسكرية على ذلك.
ويُبيّن “خليفة” أن الحرب تسببت في اضطرابات نفسية واجتماعية واسعة النطاق في إسرائيل، حيث تعيش العائلات في قلق دائم بسبب أخبار القتلى اليومية.
ويشدد “ضيف سند”، أن الجملة الأكثر إثارة للرعب في الإعلام الإسرائيلي هي “سُمح بالنشر”، والتي تُعلن يوميًا، مما يزيد من حالة التوتر والاضطراب لدى الجمهور.
ويذكر “خليفة” أن طول فترة الحرب أدت إلى انهيارات اقتصادية واجتماعية، حيث تواجه الحكومة صعوبات في تعويض العائلات المتضررة، مُضيفًا أن الخلافات داخل الحكومة حول التجنيد الإلزامي للمتدينين زادت من حالة الانقسام الداخلي، مع مشاركة أكثر من 250 ألف جندي في المعارك على مختلف الجبهات.
ويختتم “خليفة” حديثه بالإشارة إلى الآثار النفسية العميقة التي سيعاني منها الجنود الإسرائيليون نتيجة التدمير الممنهج في غزة ولبنان، مؤكدًا أن هؤلاء الجنود قد يجدون صعوبة بالغة في العودة إلى حياتهم الطبيعية بعد انتهاء الحرب.