المسار الاخباري: دعاني إلى كتابة هذه المقالة، تواتر الأخبار عن دور الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين في الوصول إلى وقف لإطلاق النار في لبنان، بين حزب الله، والعدو الإسرائيلي، وضع آليات لتطبيق القرار الأمني 1701. وقد أثارني الحديث عن أن ورقة الاقتراحات صيغت في واشنطن، وأرفقت بضمانات أميركية، للتطبيق إذا ما وافق لبنان والحزب عليها.
الاقتراحات الأميركية، والضمانات الأميركية، عبارتان خطيرتان (نعم خطيرتان) تحفران عميقاً في الذاكرة الفلسطينية لما تضمنتاه من مناورات وأكاذيب كبرى، دفع ثمنها الشعب الفلسطيني، أحياناً (بل ودفع خسائر كبرى).
في مقدمة هذه التجارب، دور الوسيط (الذي لم يكن وسيطاً على الإطلاق) فيليب حبيب، في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ومحاصرته العاصمة بيروت.
كان فيليب حبيب يعرض أفكاره على أنها أفكار أميركية، وهي في واقع الحال أقرب منها إلى الإسرائيلية، وكان يفاوض القيادة الفلسطينية بالنار، إذ كلما تعثرت وساطته لجأ إلى شن هجمات تدميرية بالطائرات الإسرائيلية على بيروت، فيتدخل هو شخصياً لوقف الجحيم الإسرائيلي على بيروت، على أمل أن يكون قد نجح في تليين الموقف الفلسطيني.
كما كان يلجأ في بعض الأحيان إلى الطلب إلى الإسرائيليين، قطع المياه عن بيروت، حتى يطالبه الفلسطينيون، والحكومة اللبنانية، التدخل لدى الإسرائيليين للإفراج عن الماء، معتقداً أنه بذلك سيحصل على تنازلات من الطرفين اللبناني والفلسطيني.
وعندما جرى الاتفاق على مغادرة القيادة الفلسطينية وم.ت.ف بيروت، قدم فيليب حبيب ضمانات بالحفاظ على أمن وسلامة المخيمات الفلسطينية.
ضمانة فيليب حبيب، ترجمها شارون، وأتباعه المحليون، إلى مجزرة دموية اهتز لها العالم كله، حتى أن بعض الأوساط الإسرائيلية اهتزت هي الأخرى ونزلت في أضخم تظاهرة في تل أبيب، في تاريخ إسرائيل.
مفاوض يلبس رداء الوسيط، هو ليس وسيطاً، وإن كان وسيطاً في بعض المواقف، فهو ليس وسيطاً نزيهاً ومحايداً، وشفافاً، بل هو منحاز بكل ما فيه من مشاعر ووعي إلى الجانب الإسرائيلي، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، وغن كان قد قدم ضماناته إلى الجانب الفلسطيني، فإن ضماناته لا تتعدى كونها أكاذيب تُسهّل على الجانب الإسرائيلي استكمال مشروعه الدموي ضد الشعب الفلسطيني.
التجربة التفاوضية الفلسطينية الأغنى بدروسها ومعانيها كتلك التي أدارها الدكتور صائب عريقات، رئيس دائرة المفاوضات في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي لخص تجاربها في كتابه المهم «الحياة مفاوضات»، كشف فيه الدور الحقيقي للوسيط الأميركي.
يقول الراحل عريقات في كتابه: لم نكن 3 أطراف إلى طاولة المفاوضات كما تبدو الصورة بل كنا طرفين: الأول هو الفلسطيني، والثاني هو الطرف الأميركي-الإسرائيلي. فالولايات المتحدة لم تكن وسيطاً بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي بل كانت منحازة بشكل كامل إلى الجانب الإسرائيلي. فأية اقتراحات تقدمها الولايات المتحدة، كانت تحرص على موافقة الجانب الإسرائيلي ولا تقبل الكشف عنها. وكان هذا التزاماً أميركياً ثابتاً في إدارة المفاوضات. وعندما يوافق الجانب الفلسطيني على الورقة، التي كانت إسرائيل قد أبلغت المفاوض الأميركي (سراً) موافقتها عليها، بهدف الحصول على المزيد من التنازلات الفلسطينية لعبة تستمر بلا نهاية، حتى الوصول إلى تجريد الفلسطيني من كل ملابسه، وما يحول المفاوضات إلى غطاء سياسي لمشاريع الاستيطان والدليل على ذلك أن عريقات رحل، ورحل معه المفاوضون الإسرائيليون، ورحل الوسيط الأميركي وما زال الاحتلال قائماً، يتغول ويتوغل في الوقت نفسه في تنفيذ برامجه الاستعمارية التي كان يغطيها بلعبة المفاوضات.
يقول عريقات: لم يكن الوسيط الأميركي يقدم لنا اقتراحاً إلا ويكون قد عرضه مسبقاً على الجانب الإسرائيلي ونال موافقته عليه.
ويقول أيضاً: عندما يشاورنا الوسيط الأميركي بشأنٍ ما، يسارع إلى نقل رأينا إلى الجانب الإسرائيلي، بينما كان الوسيط الأميركي يتستر على نتائج مشاوراته مع الجانب الإسرائيلي ولا ينقلها إلى الجانب الفلسطيني.
وتؤكد تجربة المفاوض الفلسطيني، أن الجانب الأميركي كان يضغط على المفاوض الفلسطيني، ويتجنب الضغط على الجانب الإسرائيلي، إلا إذا رأى في ذلك مصلحة أمريكية. في اجتياح عام2002 (السور الواقي) ألزم الرئيس بوش الابن شارون بوقف غزو الضفة، وإنهاء عملياته الحربية. لأنه رأى في ذلك مصلحة أميركية، في التهيئة لغزو الولايات المتحدة للعراق في العام الذي يليه، 2003.
بالمقابل عندما تعنت نتنياهو ورفض مقترحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، لوقف الاستيطان، لم يضغط باراك أوباما الضغط الملزم للجانب الإسرائيلي للرضوخ للاقتراح الأميركي، طبقاً لحسابات أوباما الإقليمية آنذاك. وبالتالي فإن الوقائع تؤكد أن مفتاح الحل دوماً بيد الولايات المتحدة إلا في محطات. وأن هذا المفتاح لا يستعمل إلا لفتح الطريق أمام المشروع الإسرائيلي.
ويبدو أن خبرات الراحل صائب عريقات، لم تصل إلى السلطة الفلسطينية الحالية إذ ذهبت في 17/11/2020 إلى تصديق وعود الإدارة الأميركية القادمة فانقلبت على قرارات الإجماع الوطني في 19/5/2020 للتحلل من اتفاق أوسلو والتزاماته خاصة الأمنية كما انقلبت على مخرجات اجتماع الأمناء العامين في3/9/2020 لتشكيل القيادة الوطنية الموحدة، وصياغة استراتيجية كفاحية بديلة لالتزامات أوسلو واستحقاقاته.
كذلك ذهبت السلطة الفلسطينية مغمضة العينين، إلى مفاوضات مسار العقبة، شرم الشيخ، لتوفر الغطاء السياسي للأعمال الإجرامية للمتطرف بن غفير، المسمى وزير الأمن الوطني في حكومة الفاشية الإسرائيلية.
كما تراهن على حل الدولتين باعتباره المشروع الأميركي الفاعل للتطبيق بديلاً للمشروع الوطني الفلسطيني (الحرية+ تقرير المصير+ الدولة المستقلة على جدود 4 حزيران 67 + حق العودة إلى الديار والممتلكات).
ومازالت السلطة حتى اللحظة تراهن على دور لها في المشروع الأميركي الخليجي لمستقبل القطاع، رغم ما يفرض عليها من اشتراطات من شأنها أن تعزز التحامها بالاحتلال.
وتتعامى، في الوقت نفسه، عن مشروع الضم الناشط في الضفة الغربية، وعن الحرب اليومية، المتوحشة، ضد مدن الضفة ومخيماتها وريفها وأغوارها وتلالها. في رهان جديد، على «السلام» الذي سيجلبه ترامب إلى المنطقة، وهو السلام الذي بدت تباشيره واضحة في اختيار ترامب سفيره إلى إسرائيل، ومندوبته إلى الأمم المتحدة، ووزيره إلى الخارجية، والثلاثة مستوطنون ينتمون الى المشروع الصهيوني للثلاثي نتنياهو، سموتريتش، بن غفير.
في الختام، ونحن نستذكر التجارب الفلسطينية المرة والمكلفة، للتفاوض مع إسرائيل في ظل الوسيط الأميركي، فإننا على ثقة تامة أن المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، تملك من القوة الميدانية، والخبرة السياسية، والحكمة والشجاعة، والحيوية، ما يمكنها من أن تستفيد من كل التجارب، بما في ذلك تجربتها في الموافقة عام 2006 على القرار 1701، وكيف عملت دولة الاحتلال على انتهاكه آلاف المرات، في ظل حماية أميركية غير محدودة. ■