
هذه الرسالة تأتي في وقت تقطعت فيه كل سبل الحوار بينكم كقيادة وبين مختلف فئات شعبنا
نحن أمام مفترق مصيري يقود إلى مَصيريْن: فإما ان نصمد ونتماسك أو نصاب بانتكاسة استراتيجية كارثية
من الواجب القيامُ بتقييم موضوعي لكافة الانتفاضات والهبات التي خاضها شعبنا، والقرارات والانعطافات الاستراتيجية التي اتخذناها طوال تصدينا للمشروع الصهيوني
علينا ان لا نسمح لإسرائيل وأمريكا ان تحصلا في السياسة على تنازلات لم تحصلا عليها في الميدان
الهدف الأسمى لأية قيادة وطنية يتعرض شعبها لحرب إبادة جماعية ومشاريع تهجير هو رص صفوف الشعب في وحدة ٍ وطنية متماسكة تتجاوز التناقضات الثانوية
رام الله – المسار: وجه د. ممدوح العكر، عضو لجنة متابعة “نداء فلسطين”، رسالة مفتوحة عبر شبكة وطن الإعلامية، للرئيس محمود عباس، وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حول أخر التطورات السياسية.
وشدد العكر في رسالته على ضرورة اجراء مراجعة سياسية وطنية شاملة، استنادا الى عنصرين يعززان صمود الشعب الفلسطيني ويفشلان مخططات الاحتلال وهما الوحدة الوطنية، وتحديد فريق الأصدقاء والحلفاء للشعب الفلسطيني من فريق الأعداء.
وفيما يلي نص رسالة العكر كما وصلت لوطن:
رسالة مفتوحة الى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير المحترمين، برئاسة الرئيس محمود عباس المحترم: ماذا تنتظرون؟ وماذا أنتم فاعلون؟
أيها السادة،
أسمح لنفسي أن أخاطبكم عبر هذه الرسالة المفتوحة، انطلاقا من الشعور بالمسؤولية الكبيرة على عاتق المثقف الوطني بأن يتحلّى بشجاعة قول الحقيقة أمام الحاكم وصاحب السلطة، عدا عن أن هذه المخاطبة تأتي في وقت تقطعت فيه كل سبل الحوار بينكم كقيادة وبين مختلف فئات شعبنا، إذ لم يتسع وقتكم، للآن، لمخاطبتنا طوال مرحلة هي الأخطر في تاريخ قضيتنا لعلنا نطَّلعُ على ما يدور في خُلدكم حول قضيتنا بكافة جوانبها، ولعلكم تصغون باهتمام لما يملأ صدورنا من ألم وغضب. هذا في حين أننا نرى أن لقاءاتكم مع مَنْ هم من غير شعبنا تتتالى بدون انقطاع، مع الصديق وغير الصديق، رغم انقضاء ما يناهز الستة عشر شهراً من حرب الإبادة وما يرافقها من تسارع في مشاريع التهجير والضم بتجلياتها الإسرائيلية والأمريكية تجسيداً لبرنامجهم المُعْلَن، منذ سنوات، لحسم الصراع أي لتصفية القضية الفلسطينية
أما بعد،
ليس هناك من جدال بأن قضيتنا الفلسطينية تقف الآن أمام مفترق مصيري لم يسبق له مثيل في تاريخ مواجهتنا للمشروع الصهيوني طوال أكثر من مائة عام. وهذا المفترق المصيري يقود إلى وجهتين، بل الأدق يقود إلى مَصيريْن: فإما ان نصمد ونتماسك ونمسك بزمام أمورنا ونتمكن من استثمار ما تم للآن من تحولات وإنجازات استراتيجية بعيدة المدى ولا سابق لها في تاريخ صراعنا مع المشروع الصهيوني، فلا نسمح لأنفسنا بتبديد هذه الفرص لوضع أقدامنا بثبات على طريق إنجاز حقوقنا الوطنية في تقرير المصير والعودة والدولة المستقلة. علماً أن تبديدنا لهذه الفرص والتحولات الاستراتيجية هو أيضاً تبديدٌ مأساويٌّ لا يُغتفر لكل التضحيات والأثمان الباهظة التي دفعها شعبنا ولا يزال يدفعها على مدار الساعة.
وإذا لم نتمكن من توفير مقومات القدرة على الصمود والإمساك بزمام أمورنا على هذا النحو فإنه سيقودنا إلى مصير آخر وانتكاسة استراتيجية كارثية في هذه الحرب الوحشية التي تشنها آلة الحرب الإسرائيلية -الأمريكية تحت غطاء قذر يمنح المجرمَ حقاً في الدفاع عن النفس بينما يشيطن مَنْ يقاوم تلك الحرب الوحشية ويوصمه بالإرهاب.
ولكي نتمكن من استعادة زمام المبادرة وأخذ مصيرنا بأيدينا علينا التسلح بمتطلبات وشروط صمود وانتصار حركات التحرر الوطني التي سبقتنا. وأهم هذه الشروط شرطان: أولهما شرط الوحدة الوطنية، إذ لم تنتصر أي حركة تحرر وطني طالما كانت منقسمة. أما الشرط الثاني فهو تحديد مَن هو معسكر الأعداء ومَن هو معسكر الأصدقاء من زاوية موقفهم من حقوقنا الوطنية بلا أية مواربة، ويترتب علينا بالتالي أن يكون سلوكنا تجاههم، وصياغة تحالفاتنا بناءً على ذلك بكل وضوح وبدون لعثمة.
إذا كان أحد أهم مفارقات وأسباب بطولات شعبنا في غزة أنه إنما يخوض هذه الحرب متمترساً في وطنه، فوق الأرض وتحت الأرض، ولا يخوضها عبر الحدود من خارج أرض فلسطين، إلا أن أخطر ما في هذه المفارقات هو أننا نخوضها بينما نحن مكشوفين بدون أي ٍّ من تلكم الشرطين الأساسيين لمقومات الصمود.
ويتجلى هذا الانكشاف بحالة الانقسام العمودي ما بين سرديتين: سردية المقاومة وسردية المساومة. فسردية المقاومة تتسلح بتجارب حركات التحرر الوطني في الجزائر وفيتنام وجنوب أفريقيا وغيرها، والتي أثبتت انه لا سبيل إلى الخلاص من الاستعمار، وخاصة نماذج الاستعمار الاستيطاني، إلا بقوة المقاومة بكل أشكالها التي يتيحها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وان التفاوض والمساومة “خُذ وطالب ” لا معنى لها ما لم يكن تفاوضاً من موقع القوة، ولا يحين أوان أيِّ تفاوض إلا بعد حدوث تغيير في ميزان القوى فيذعن المستعمِر ويعترف بالحقوق الوطنية للشعب الواقع تحت الاحتلال.
أما سردية المساومة فجوهر منطقها هو أن لا طاقة لنا بتحمل الأثمان الباهظة المترتبة على مقاومتنا لجبروت المستعمِر فما بالنا وعدونا الصهيوني لا يتورع عن ممارسة أبشع أسلحة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير ويتمتع بالدعم المطلق والشراكة الكاملة، من قِبَل الولايات المتحدة ودول الغرب ذات الماضي الاستعماري، خاصة أن أغلب هذه الوحشية تأتي ضمن سياسة “كي الوعي” سعياً لتلقين المقاومة وحاضنتها الشعبية درسا قاسياً لإجبارها على التخلي عن مجرد التفكير بدرب المقاومة، لكن دروس كافة تجارب الشعوب عبر التاريخ تعلمنا أن أياً منها لم ينل حريته إلا بعد ان دفع ثمناً بل أثماناً باهظة.
أوَلَمْ نُطلق على ثورة الجزائر بأنها ثورة المليون شهيد وأكثر؟ َوَلَمْ تمارس أمريكا سياسة الأرض المحروقة بأبشع صورها ضد الشعب الفيتنامي؟ وفي مقابل ذلك فإن التاريخ حافل بنماذج للمساومة انتهت بشبه استقلال وشبه تحرر ضمن نظامٍ من الاستعمار الجديد تستمر معه قيود التبعية ونهب الثروات، يلوم الضحية بدلا من لوم الجناة من مجرمي الحرب، بدلاً من العمل على توفير كافة مقومات الصمود لشعبنا ورص صفوفه. فهل يجوز لنا، بهكذا منطق، أن نلوم ثورة عام 1936 بأنها جرَّت علينا الويلات دون تحقيق أهدافها؟؟ وهل يجوز لنا أن نلوم الانطلاقة المجيدة للكفاح المسلح عام 1964 بالادعاء بأنها استدرجت حرب 67 وما تلاها من هزيمة أدت إلى احتلال ما تبقى من بلادنا فلسطين؟ وهل نلوم كفاحنا المسلح الذي انطلق من جنوب لبنان وما تلاه من احتلال لهذا الجنوب وصولاً إلى حصار بيروت عام 1982 وخروج منظمة التحرير إلى منفى تونس؟
ليس هناك أدنى شك بأن من الضروري، بل من الواجب القيامُ بتقييم موضوعي لكافة الانتفاضات والهبات التي خاضها شعبنا، والقرارات والانعطافات الاستراتيجية التي اتخذناها طوال تصدينا للمشروع الصهيوني بدءاً من وعد بلفور، مروراً بثورة عام 36 ، ثم نكبة عام 48 ، وانطلاقة الكفاح المسلح إيذاناً بنهوض حركة التحرر الوطني الفلسطيني كأقوى رد استراتيجي على النكبة، مروراً بالانتفاضة الشعبية الأولى عام 87، إلى ان نقف ملياً أمام اتفاقات أوسلو وإنتهاءً بطوفان الأقصى، وماذا كانت عناصر قوة أو ضعف هذه المحطات، والأسباب الموضوعية والأسباب الذاتية لنجاحها أو فشلها ، وفي سياقاتها التاريخية، آخذين بعين الاعتبار أن هكذا تقييم لا يجوز أن ينحصر فقط من زاوية حجم الخسائر والأثمان الباهظة التي تكبدناها، وإنما من زاوية حجم النتائج الاستراتيجية التي حققناها، إنْ وُجدت، وهل كانت هذه النتائج تستحق الأثمان الباهظة التي دفعناها وما زلنا ندفعها.
أيها السادة،
سيأتي الأوان وسوف يكون المجال واسعاً لتقييم ونقد “طوفان الأقصى”، ما له وما عليه. لكن الموضوعية ومنطق الأمور، يفرضان علينا أن يسبق هكذا تقييم أن نقوم بتقييم شامل للإنعطافة الاستراتيجية الكبرى التي سبقت ذلك الطوفان، ألا وهي انعطافة أوسلو عام 1993، إذ ربما تمثل هاتان المحطتان، طوفان الأقصى ومسار أوسلو، مثالين واضحين للمقارنة بين سردية المقاومة، وسردية المساومة في تاريخنا النضالي المعاصر. …
أيها السادة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير المحترمين برئاسة الرئيس محمود عباس المحترم،
توشك أوحش ما عرفه التاريخ المعاصر من حروب أن تنتهي في جانبها المتعلق بالمواجهة الميدانية، لتبدأ المواجهة السياسية وما يُطلقُ عليها باليوم التالي، الذي يجب أن يكون حصرياً يوما فلسطينياً. وهنا علينا ان لا نسمح لإسرائيل وأمريكا ان تحصلا في السياسة من تنازلات ما لم تتمكنا من الحصول عليها في الميدان. خاصة وأن هذا التحول يجري بينما نحن ما زلنا نفتقد أهم شرطين من شروط مقومات الصمود والإمساك بزمام قضيتنا ومصيرنا، ألا وهما شرط الوحدة الوطنية وشرط تحديد مَن هم معسكر الأعداء ومَن هم معسكر الأصدقاء.
إن الهدف الأسمى لأية قيادة وطنية يتعرض شعبها لحرب إبادة جماعية ومشاريع تهجير متسارعة هو العمل الدؤوب من أجل رص صفوف هذا الشعب في وحدة ٍ وطنية متماسكة تتجاوز التناقضات الثانوية من أجل التصدي لهذه الأخطار المصيرية المتلاحقة لتوفير أهم مقومات الصمود. وبالتالي فإن التقصير أو التقاعس أو عدم جدية القيادةً نحو ذلكً يصبح نكوصاً عن تحمُّل هذه المسؤولية التاريخية. وهذا الأمر إنما يطرح التساؤل عن مدى أهليتها للقيادة، وبالتالي مدى شرعية هذه القيادة للاستمرار في منصب القيادة.
ويزداد الأمر مرارةً عندما يُمارَس حقُّ الڤيتو على كل مبادرات استعادة الوحدة الوطنية وآخرها مبادرة إعلان بكين الذي وقعه ١٤ فصيلاً وطنياً كانت على رأسها حركتا فتح وحماس. مع العلم أن قرارات منظمة التحرير، بصفتها جبهة وطنية عريضة، من المفروض أن تصدر قراراتها بالتوافق ولا مكان فيها لحق الڤيتو من قبل أي فرد أو فصيل مهما علا شأنه أو مكانته.
منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد كمؤسسة، أما الشخوص الذين يتولون مناصب القيادة فهم مخولون بهذه المناصب تخويلاً محدد الأجل بعدة سنوات حسب الدورة الانتخابية، ولا مكان لتخويلٍ مفتوح الأجل.
أيها السادة، إن ما سبق يضعنا، وجهاً لوجه، شئنا ذلك أم أبينا، أمام سؤال الشرعية.
لقد اكتسبت منظمة التحرير شرعيتها كممثل شرعيّ ٍ وحيد للشعب الفلسطيني بفضل الشرعية الثورية كحركة تحرر وطني تمارس فصائلها الكفاح المسلح ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وبدخولنا في مسار أوسلو تم التخلي عن الكفاح المسلح واستبدلنا تلك الشرعية الثورية بالشرعية الانتخابية. ومارسنا فعلاً هذه الشرعية الانتخابية بانتخابات كلٍّ من المجلس التشريعي والانتخابات الرئاسية مرتين كانت آخرها عام 2006. وبالتالي، وإلى حين إجراء انتخابات للمجلس التشريعي وللرئاسة والمجلس الوطني ليس لدينا حالياً أي غطاء شرعي لكل ما هو قائم من مؤسسات، سواء مؤسسة الرئاسة أو مؤسسات منظمة التحرير.
وإذا أردنا ملء هذا الفراغ الخطير في الشرعية، ليس أمامنا سوى الاحتكام واللجوء إلى نموذج آخر من الشرعيات هو الشرعية التوافقية. والشرعية التوافقية تحتكم بها عادةً حركات التحرر الوطني بصفتها جبهات وطنية عريضة كمنظمة التحرير الفلسطينية التي طالما ضمت أوسع ائتلاف من فصائل العمل الوطني والمنظمات الشعبية والشخصيات الوطنية.. إلى آخره، وما إعلان بكين في شهر آب 2024 سوى أرقى صيغة توافقية وأكثرها واقعية في سياق ومتطلبات المرحلة المصيرية الحالية.
إن الالتزام بقرارات إعلان بكين لا يشكل صيغةً لاستعادة وحدةٍ وطنية ٍ نحن بأمس الحاجة إليها وحسب، بل تمنحكم أيضاً شبكة أمان من الشرعية التوافقية لكي تواصلوا قيادة شعبنا في ظلِّ غياب أية شرعية أخرى، إذا رغبتم في تجديد مناصبكم القيادية.
فماذا تنتظرون، وماذا أنتم فاعلون لمنح شعبنا شحنةً من مقومات الصمود في زمن مخططات الإبادة الجماعية ومشاريع التهجير والضم؟؟
المصدر : وطن للأنباء