
المسار … تصدّرت الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة غلاف صحيفتي لومانيتيه ولييبراسيون الفرنسيتين اللتين سمّتا المذبحة باسمها، ودقتا ناقوس الخطر إزاء ما ترتكبه قوات الاحتلال من تجويع للفلسطينيين وقتلها الأطفال في القطاع.
اختارت “لومانيتيه” رص أسماء الأطفال الفلسطينيين الشهداء على غلافها لعدد أول من أمس الاثنين، على خلفية تُمثل العالم الفلسطيني، وأرفقتها بعنوان يشكل موقفاً واضحاً للصحيفة وخطّها التحريري: “إبادة” (Génocide). هذه الكلمة التي يُثير استخدامها منذ فترة طويلة جدلاً في الحيّز العام الفرنسي، لا سيما الصحافي، حيث وصل الأمر إلى حدّ اعتبار من تبنّاها بفاقد الموضوعية والمنحاز للطرف الفلسطيني. وهذا ربما ما يشرح اختيار الصحيفة النص المُرافق لعنوان الصفحة الأولى، الذي تضمّن تعريف “الإبادة”، حسب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1948. كما استعانت الصحيفة بقاعدة بيانات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة مصدراً لأسماء الأطفال الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية، ما يعكس أيضاً خياراً تحريريّاً فارقاً بإعطاء أهليّة للمصادر الإخبارية الفلسطينية الرسمية، لا سيما أنها حجة تقف وراءها الكثير من المنصات الإعلامية والصحافيون والشخصيات العامة، للتشكيك بحقيقة كل ما يخرج من أخبار من غزة، على اعتبار ألا مصداقية للمؤسسات الرسمية التابعة لحركة حماس. وبناءً عليه، ساد لفترة طويلة جوّ إعلامي فرنسي مشكّك بالأرقام والروايات، إضافة إلى التشكيك بمهنية الزملاء الصحافيين في غزة وانتماءاتهم السياسية، وهو ما أدّى إلى تغييب طويل للرواية الفلسطينية عن الإعلام وانحياز فجّ في الخطاب لصالح إسرائيل.
منذ بداية العدوان على غزة، لم تدخل “لومانيتيه” الفرنسية في الغيبوبة الإعلامية نفسها التي سادت تغطية الجرائم الإسرائيلية. تبنّت طابعاً تحريريّاً مختلفاً وتصاعديّاً لتغطية إعلامية غربية لم ترتقِ حتى اليوم إلى مستوى الكارثة الإنسانية في غزة. وكانت الصحيفة من أوائل الصحف والمنصات الإعلامية التي تبنّت استخدام مصطلح “الإبادة” للحديث عمّا ترتكبه قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين في غزة، حيث بدأت بتوظيفه مع بداية عام 2024، بعد تحذير المحكمة الدولية من الخطر الحقيقي والوشيك لوقوع إبادة جماعية في القطاع.
في يناير/كانون الثاني 2025، نشرت “لومانيتيه” نتائج دراسة تحليلية خاصة قامت بها بالتعاون مع المنظمة غير الحكومية “تِك فور بالستاين”، حلّلوا من خلالها 13394 مقالاً عن “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، في خمس صحف فرنسية هي “لومانيتيه”، و”لوموند”، و”ليبراسيون”، و”لو فيغارو”، وصحيفة يوم الأحد. وخلصت الدراسة إلى وجود انحياز كبير في التغطية الصحافية، وفشل مهني عامّ في نقل صورة متوازنة عن الواقع، أو متوازنة مع حجم الحدث الكارثي. خلصت أولى نتائج الدراسة إلى تغييب الصحف للمعني الأول بالقضية: الفلسطينيون والفلسطينيات. وفي تحليل للمقالات، تبيّن أن كلمة “فلسطينيين” أو “فلسطينيات” غابت عن نصف المقالات التي تناولت الحرب الإسرائيلية الدائرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. ووردت كلمة “الفلسطينيين” في 47% من مقالات “لوموند”، و41% في مقالات “لومانيتيه”، و47% في “ليبراسيون”، بينما انحدرت هذه النسبة إلى 28% في “لو فيغارو”. أمّا التغييب الأكبر، فيظهر في صحيفة يوم الأحد (اليمينيّة المُحافظة)، حيث 21% فقط من المقالات عن الحرب ترد فيها كلمة “الفلسطينيين”. أمّا بالنسبة لمصطلح الإبادة، فقد حللت المقالات المنشورة بعد 26 يناير 2024، وهو تاريخ تحذير المحكمة الدولية من خطر الإبادة الجماعية في غزة. قبل هذا التاريخ، استخدم عدد من المحللين والمؤرخين وغيرهم المصطلح في بعض القنوات الإعلامية، ولكن طاولتهم عاصفة من الانتقادات بسبب “مبالغتهم في تصوير الحدث”، و”تبنّيهم السردية الفلسطينية” وصولاً لحدّ اتهامهم بالقُرب من “حماس”. في هذه المقارنة التحليليّة، تبيّن أن النسبة الأكبر لتوظيف مصطلح “الإبادة” واستخدامه جاء من قبل “لومانيتيه” بنسبة 18%، و11% في النسخة المسائية من “لوموند”. بينما لم تتجاوز نسبة كلّ الصحف الثلاثة الأخرى العشرة في المائة. ومالت أغلب الصحف التي حُللت مقالاتها إلى استخدام مصطلح “الضربات الإسرائيلية”، بينما انفردت “لومانيتيه” بنسبة أعلى لاستخدام كلمة “القصف”. وما بين المصطلحين فرق شاسع، إذ غالباً ما تعطي كلمة الضربات انطباعاً بأن ما ترتكبه إسرائيل “محدد”، وكل الشهداء ليسوا إلا أضراراً جانبية غير مقصودة، بينما مصطلح القصف أكثر دقة وحقيقة في سياق الحروب، لأنه يأتي “عشوائيّاً”، وهو الحال في قطاع غزة، والقصف الإسرائيلي المُستمرّ في حصد أرواح الفلسطينيين.
“لومانيتيه” معروفة بانتمائها وخطها التحريري اليساري، لهذا تخصيصها الصفحة الأولى للإبادة في غزة، وكذلك متابعتها ونشرها افتتاحيات شبه يومية عن الكارثة الإنسانية، لم ولن يُثير الكثير من ردّات الفعل المعترضة. ولكن هذا ليس الحال مع “لوموند” التي أخذت مواقف مغايرة عن الجو الصحافي العام في فرنسا. وتتعرّض مع كل مقال وافتتاحية أو تحقيق لسيلٍ من الاتهامات والانتقادات، إلى حدّ تعليق الكثير من المشتركين اشتراكهم في خدمات الصحيفة، بعد “التغيير” في خطّها التحريري، بعد نحو سنة من السابع من أكتوبر 2023 حسب “لو فيغارو”. وكانت “لو فيغارو” قد نشرت تحقيقاً عن “لوموند”، لنقل أجواء القلق المتزايد داخل غرف تحريرها بشأن تغطية كل ما يخصّ إسرائيل. وبدأت “لو فيغارو” تحقيقها بالإشارة إلى مساعد رئيس التحرير في القسم الدولي في “لوموند”، بنجامين بارتي، وزواجه من ناشطة مناصرة للقضية الفلسطينية.
تصدرت غزة أيضاً غلاف صحيفة ليبراسيون، الصادر أمس الثلاثاء، تحت عنوان عريض “غزة: ما لا يمكن تبريره”. وأضافت: “لا يزال الجيش الإسرائيلي يرفض السماح بدخول المساعدات الإنسانية، ويواصل قصفه الأعمى. معظم حلفائه لم يعودوا يتقبلون ذلك”. وعلى الغلاف أيضاً ذكّرت برسالة 300 كاتب قالوا إنه “لم يعد بإمكاننا الاكتفاء بكلمة فظاعة؛ يجب أن تسمى إبادة”، في إشارة إلى ما ترتكبه إسرائيل في غزة. وهذا تحول لافت في الصحيفة التي نشرت كاريكاتيراً، في مارس/آذار 2024، سخر من معاناة الفلسطينيين ومن النقص الحاد في المواد الغذائية لدرجة الوصول إلى حد المجاعة. وهو تحول لافت أيضاً إذا ما تذكرنا أن مالك “ليبراسيون” هو الملياردير الفرنسي ــ الإسرائيلي باتريك دراهي (اشتراها عام 2014 مع رجل الأعمال والمنتج الفرنسي بورنو لودو). أما رئيس تحريرها فهو الفرنسي ــ الإسرائيلي أيضاً دوف ألفون الذي خدم في وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية 8200، كما استلم رئاسة تحرير صحيفة هآرتس الإسرائيلية عام 2008.
الالتفات اللافت في الصحف الفرنسية يتزامن مع تأكيد مديرة منظمة الصحة العالمية الإقليمية لشرق المتوسط، حنان بلخي، أنّ قطاع غزة يشهد إحدى أسوأ أزمات الجوع في العالم، بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة والحصار الخانق. وفي تصريحات صحافية من جنيف الاثنين، وصفت بلخي الوضع في غزة بأنه “كارثي”، وأضافت أن واحداً من كل خمسة أشخاص في غزة يواجه خطر الجوع الحاد، داعية إلى تطبيق القانون الإنساني الدولي، ورفع الحصار، ووقف إطلاق النار، وإحلال السلام العاجل. وأكدت أن منظمة الصحة العالمية لم تتمكن من إدخال أي شاحنة مساعدات طبية منذ أكثر من 11 أسبوعاً، في ظل نفاد 64% من المعدات الطبية، و43% من الأدوية الأساسية، و42% من اللقاحات. وأضافت بلخي: “هل يمكن تخيل طبيب يعالج كسراً في العظام دون مخدر؟ المحاليل الوريدية، والإبر، والضمادات، وحتى المضادات الحيوية ومسكنات الألم شحيحة بشكل مخيف”. وأشارت إلى أن 51 شاحنة مساعدات طبية تابعة للمنظمة تنتظر على الحدود دون إذن بالدخول.